هل تكشف السترات الصفراء عن وجه آخر للديمقراطية الفرنسية؟ . بقلم الإعلاميّة : د . عبـــير الحــــيّالي
خاص سفيربرس

“إذا لم يكن هناك خبزاً للفقراء…. دعهم يأكلون كعكاً” إنها كلمات الملكة ماري انطوانيت، ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر، التي اقتيدت بعربة مكشوفة دارت بها في شوارع باريس يجرّها الجائعون اللذين لم يجدوا خبزاً واستفزهم استخفافها بجوعهم ودعوتها لهم لأكل الكعك، مما تسبب في موتها وهلاك العائلة الملكية في فرنسا إلى الأبد. هكذا تأسست الجمهورية الفرنسية العريقة والتي تختلف ديمقراطيتها، عن أي ديمقراطية غربية أخرى، فهي الجمهورية التي تأسست في ظلّ عنف شعبي، وتحولت فيما بعد إلى واحدة من أهم نماذج الثورات الناجحة في التاريخ.
في منتصف شهر نوفمبر، تحت مسمى حركة “السترات الصفراء” وباحتجاجات سلمية ضد الضرائب المضافة على
أسعار الوقود المرتفعة، والضائقة الاقتصادية والاجتماعية، وتحت نداءات واسعة النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي، تولّدت حركة ثورية جديدة في فرنسا وضعت الدولة الفرنسية كاملة في موقف حساس. إنها واحدة من أسوء موجات العنف في أوربا حيث تعالت أصوات منددة ليس فقط بالرئيس الفرنسي الذي شبهه المتظاهرون بآخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر، وإنما بالنظام الحكومي الفرنسي كاملاً، وقام هؤلاء المحتجون بتحطيم أرقى أجزاء العاصمة الفرنسية حيث شمل الدمار الوحشي أهم شوارع باريس، وطغت الكراهية للطبقية الاجتماعية على سطح قوس النصر أبرز المعالم المقدسة للجمهورية الفرنسية.
لم يشهد وسط باريس عنفاً بهذا الحجم، منذ تمرد الطلاب والعمال في عام ١٩٦٨م، ولم تشهد فرنسا دماراً واسع النطاق من هذا النوع، منذ أعمال الشغب في عام ٢٠٠٥. انحنى ماكرون لمطالب المتظاهرين “ولو ظاهرياً” بعد المحاولات الفاشلة من قبل الحكومة لإسكات المتمردين، مقدّماً بعض التنازلات التي بدت في أغلبها اقتصادية معترفاً بأنه أخطأ في التعامل مع بعض القضايا التي تمسّ المواطن الفرنسي بشكل مباشر. وقدّم ١٥ مليار يورو إعانة مالية للغاضبين من المناطق المهمشة، وزاد الحد الأدنى للأجور بنسبة ٦٪، وألغى بعض أنواع الضرائب عن ذوي الدخل المنخفض والمعاشات التقاعدية. واتّخذ إجراءات لإيقاف التمرد مما يعكس انتصاراً كبيراً لحركة السترات الصفراء التي هزت الديمقراطية الفرنسية في الأسابيع الستة الفائتة.
لابد من وجود مبرّر لقيام الناس بهكذا احتجاج في دولة تعتبر واحدة من أبرز رموز الديمقراطية في العالم. يتصدر العامل الاقتصادي أبرز الأسباب، فقد وعد ماكرون عند سعيه للانتخابات بعالم جديد في السياسة والاقتصاد، وتم انتخابه من قبل الفرنسيين إيماناً منهم بأن هذا الشاب ربما يأتي بالجديد، كتوفير فرص العمل والمساواة في الحصول عليها. ولكنّ وعود الرئيس الشاب سرعان ما تبخرت في الهواء، حيث عملت سياسته على سحق الفقراء اقتصادياً واستهدافهم بضرائب مالية إضافية، وخصوصاً ضرائب الوقود التي أشعلت فتيل النار، في الوقت الذي يتم فيه إعفاء المؤسسات والشركات الكبرى وشركات الطيران المعنية أكثر من غيرها باستخدام الوقود من هذه الضرائب. بكلمة مختصرة، عمل النظام على رعاية مصالح الأغنياء وحمايتهم من خلال سحق الطبقات المتوسطة والفقيرة، وهو ما جعل هذه الحركة تشمل متظاهرين من أعمار مختلفة وخلفيات اجتماعية متنوعة، مما أعطى هذا التحرك طابعاً مختلفاً.
اشتهر النموذج “الجمهوري” في فرنسا بالصرامة في التعامل مع قضايا المهاجرين، حيث أنه يمنع المسؤولين الفرنسيين من تنفيذ أي سياسات محددة موجهة ضد السكان المهاجرين. وكانت التجارب الفرنسية قريبة جداً من العمل الإيجابي، حيث تم تنفيذ برامج اجتماعية طموحة في المناطق التي يعيش المهاجرون فيها. وشملت هذه البرامج، التي بدأت في الثمانينات إنشاء مناطق ذات أولوية تعليمية، تعرف باسم “المناطق ذات الأولوية”، والمناطق المعفاة من الضرائب ويطلق عليها اسم “مناطق الامتيازات” التي تهدف إلى تحفيز النشاط الاقتصادي المحلي. وقد حققت تلك البرامج في الواقع بعض النتائج الإيجابية، كما تم إنفاق الكثير من المال العام على إعادة تأهيل مشاريع الإسكان في أحياء المهاجرين تحت غطاء “السياسة الحضرية”، كما بدأ الجيش الفرنسي عدة برامج للتجنيد تستهدف الشباب من الضواحي.
للحصول على فكرة أفضل عن أسباب أعمال الشغب الحديثة في فرنسا، والتي أدّت إلى مقتل عشرة أشخاص بالإضافة إلى الأضرار الجسيمة في الممتلكات العامة وتدنيس الرموز الفرنسية، يجب على المرء أن يحاول نسيان النماذج النظرية السابقة والتركيز على عوامل محددة تسبّبت في اندلاع هكذا عنف وفي هذه الأماكن تحديدا. هذه العوامل تشمل السياق ألاثني الفرنسي، الظروف الاقتصادية، والتمييز والعنف العسكري والسكن والسياسات الوطنية السيئة.
استند نظام التكامل الفرنسي في القرنين التاسع عشر والعشرين على ثلاث ركائز: المدرسة والخدمة العسكرية الإجبارية والعمل. وعلى الرغم من الظروف الصعبة، فإن المدارس الفرنسية العامّة في الضواحي مازالت تفي بهذه المهمة، لكن الغاء المسودة العسكرية العامة في أواخر التسعينات، والتباطؤ الاقتصادي الذي بدّ واضحاً منذ عام ١٩٧٣م ، أدّى إلى شح كبير في سوق العمل للوافدين الجدد، ولذلك نلاحظ انخراط الشباب والمراهقين في الضواحي في أعمال الشغب قبل غيرهم بسبب عدم قدرتهم على الاندماج والتواجد في الحركة الاجتماعية الصاعدة.
بيد أن معدل النمو البطيء على المستوى الوطني ليس هو السبب الوحيد للبطالة بين هؤلاء الشباب، إنما القوالب النمطية العنصرية السائدة العائدة للفترة الاستعمارية لعبت دوراً كبيراً في حرمان هذه الفئة من الحصول على المساواة في فرص العمل، إن العنصرية التي تفوّق الفرنسيون في ممارستها تجاه المهاجرين، قادت إلى الفوضى والدمار، فالتمييز في السكن وسوق العمل وفي الحياة الاجتماعية، تجعل الحياة اليومية لهؤلاء الأشخاص في كثير من الأحيان صعبة ومحبطة.
لم تتغيب وسائل التواصل الاجتماعي عن الحضور في حركة الستر الصفراء، حيث إن العلاقة بينها وبين الحركات الاحتجاجية في عصرنا الحالي هي علاقة متينة ومترابطة، حيث أثبتت معظم الدراسات التي أجريت، أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت عاملاً مهماً في تنظيم الاحتجاجات وقدرتها على حشد الجماهير للمشاركة، وربما النموذج الأكثر شهرة هو ما يسمى ب “الربيع العربي”، والاحتجاج الروسي في عامي ٢٠١١- ٢٠١٢، فقد كان دورها محل إشادة واسعة النطاق. وكذلك الأمر في احتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا، حيث انطلقت شرارة التظاهرات بسبب مقطع فيديو تم نشره على الفيسبوك من قبل سيدة فرنسية تدعى جاكلين موراود، وتحدثت فيه عن ارتفاع ضريبة الوقود بغضب شديد ودعت الفرنسيين للاحتجاج ضد هذه السياسة. وبالفعل لاقى المنشور استجابة واسعة لدى الفرنسيين، كما تم نقل الاحتجاجات من صفحات الفيسبوك إلى أرض الواقع عبر الاتفاق على وقت محدد وهو ١٧ نوفمبر/تشرين الثاني، ونقاط محددة للاحتجاج ولبس السترات الصفراء، وكانت المشاركة الأولى قد وصلت إلى ٢٨٠ ألف شخص وهو يوضح تماماً مدى تفاعل الناس مع التحرك عبر صفحات الفيسبوك وكيف لعبت صفحات التواصل الاجتماعي دوراً واضحاً في تنظيم هذا الحراك. ولكن هذا لايعني أن دور وسائل التواصل الاجتماعي هو دور جيد بالمطلق فهناك أمثلة من تجارب سابقة على أن الاعتماد على وسائل التواصل يؤدي إلى الانزلاق والدخول في الفوضى والعنف.
ويمكن أن يسأل البعض هنا لماذا استمر المحتجون بالنزول إلى الشوارع، والبحث عن المزيد من الإجراءات والإصلاحات الحكومية بعد كل ماقدمته الحكومة والرئيس من تنازلات؟ في حقيقة الأمر أن الرئيس ماكرون قدم مشروعاً لتهدئة الشارع وإعادة ترتيب أوراقه بما يخص الداخل الفرنسي ليس إلا، فالرئيس لم يتقدم بخطة واضحة لمعالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم، ولم يلجأ إلى تغيير جذري في سياسته الاقتصادية، فعمل على تهدئة الشارع عن طريق استخدام الدواء المسكّن ولم يستطع أن يقدم لهم الدواء المعالج لداء استحكم في جسد الجمهورية الفرنسية لفترة ليست بقصيرة. كما أن استمرار المظاهرات يشير إلى أن هذه ليست سوى البداية، وقد تكون هناك مشكلة خطيرة تلوح في الأفق ليس فقط في فرنسا وإنما في أوربا بشكل عام، فنجاح هؤلاء المحتجين ربما يحوّل أوربا إلى منطقة احتجاجات وخاصة بريطانيا التي تترنح تحت أزمة سياسية بسبب خروجها من الإتحاد الأوربي.
سفيربرس ـ بقلم : د . عبـــير الحــــيّالي
باحثة في الإعلام الدولي لندن