صُنع في الصين .. بقلم : د. محمود شُوبّر
سفيربرس _بيروت

بعد ماشهدته الفلسفة من (تهافت) وانزياح عن دورها التأريخي كونها الفرشة الحاضنة للفن والثقافة الانسانية، مستندة الى عملية التطور الانساني الذي يشمل جميع الاصعدة وبالتالي تكون هناك ضرورات وموجبات تبيح ظهور اراء لمفكرين يضعون كل مايجري ويطرأ على الحياة في هذا الكوكب تحت مجهر الحكمة والتأويل.
وبذا سرعان ما تتكثف غيوم هذه الاراء لتتشكل على شكل سحابات محملة بالافكار التي تمطر فتورق اشجاراً يانعة الخضار تتفرع منها غصون معرفية يكون لها ثمار نقطفها في الادب والفن .
هذا الغياب المشروع للفلسفة حيث تأتي شرعيته من السرعة المتواترة في هذا الكون وتطور وسائل التواصل الفكري والاجتماعي ومحدودية وانحسار دور المثقف الذي كان حضوره يشكل وجود الايون الموجب في تكوين نواة المجتمع .كذلك ظهور عصر جديد لايثق بما يطرح مثل ثقته بماذا تكون فائدته او نفعيته وأن كانت (البرغماتية) هي من طروحات الفلسفة الاولى ولكن هنا جاءت بوجه اخر قد يكون في بعض الاحيان لايشبه الوجه الاصل جملة وتفصيلا،
وهذا الذي ولدته طروحات العولمة والاقتصاد الحر وكذلك هي جزء من ترددات موجة ال(توسونامي) الرهيبة الملامح التي ضربت منطقة الفكر السياسي والتنظير العالمي التي جاءت (بتروسترويكا ) غرباتشوف. والتي انهت رسمياً (الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي) وكشفت جناح الفكر البروليتاري امام هجمة الرأسمالية الشرسة والتي حولت كل شيء الى بيع وشراء ،وظهرت الثقافة الاستهلاكية حتى على المنتج الفني والجمالي ، حيث اطيح بقيم ومنظومات معرفية دأبت الفنون والاداب تعكف عليها لتأخذ اصالتها التأريخية منها. بحيث اصبحت هذه القيم ما هي الا عبارة عن موروث او تراث عالمي يؤشر فقط الى عملية مرور كانت قد حصلت في مكان ما وزمان ما، حالها حال كل المدارس الفنية والعصور التي سبقتها ،وصولاً الى الحداثة ومابعدها.
وهذا يحتم الى بداية ادوار اخرى لمدن وعواصم اخرى غير تلك المتعارف عليها في السابق مثل روما وباريس وبرلين ،اللاتي كانت موطن لكل فكر وحركة فنية وادبية يذاع صيتها عالميا .
ومن هذه المدن التي بدت لها السيادة في النتاج الفني العالمي الانساني هي (بكين) والتي ورثت كل مجد الواقعية الاشتراكية ودمجته بروح المعاصرة مع كل النتاج المتطور عالمياً، لتعلن بقوة انها عاصمة مهمة من عواصم الفن المهمة والقادرة على تغيير خارطة الفن العالمي متحدية وبقوة كل الحواضر الفنية الناشئة في نيويورك والتي سبقت بكين تاريخيا والدوحة ودبي التي تتصارع لتكون مراكز مهمة في بث وعي جمالي جديد وفق اطر استهلاكية بحتة بعيدة عن كل ماتريده كل الحقب الزمنية التي جاءت قبلها، وهذه اعتقد نتيجة طبيعية في حياة الامم ظهور لبعضها واندراس تام للبعض الاخر.
اعود ل (نيويورك) حيث استطاعت هذه المدينة التي تشكلت باعقاب بروز الولايات المتحدة الامريكية كقطب حاكم للعالم قبال (موسكو) البلشفية كانت هناك رؤية امريكية في مشاكسة كل ماينتج من الشرق وتدعيمه بشكل علمي ومدروس فالمعركة قائمة ولاتستثني اي سلاح، ومن طليعة هذه الاسلحة الرئيسية هي الثقافة والفنون فكانت هناك عقيدة حقيقية بدور هاتين المجالين في تسيد الساحة على حساب المعسكر الاخر، ولاننسى مقولة لينين الشهيرة(اعطني خبز ومسرح اعطيك شعباً مثقفاً)،واعتقد(مثقفاً) مؤمنا بالنظرية الشيوعية وبالطروحات الاقتصادية للماركسية الاشتراكية،
وهنا يأتي دور الامريكان او المعسكر الرأسمالي بالانقضاض على كل قيم الفن في الضفة الاخرى اخرها ولست اخيراً (كاندنسكي)، الذي غير شكل اللوحة واصبحت مجرد علاقات لونية مؤثرة على المسرح والشعر وكل الفنون الجميلة ، وظهرت مقولة (الجمال الخالص في الشكل الخالص) وانتفاء المعنى نهائياً وبذلك اصبحت شرعنة امريكية للاطاحة بالادلجة التي يبني عليها المعسكر الاشتراكي طروحاته.
الى ان وصلنا الى الاطاحة بجدار برلين والسقوط الحر للاتحاد السوفياتي وظهور الصين كقوة اقتصادية عظمى تحاول وبغفلة الجميع ان تسحب البساط من تحت اقدام (العالم الاستهلاكي) الرأسمالي لتعلن انها الوريثة الوحيدة للافكار الاشتراكية والقادرة على قلب موازين السوق، حيث حول التنين الصيني كل (مصاهر المدفعية والقذائف) في مدينة (كا نزو) الى مصاهر برونز عملاقة. اغرت جميع (النحاتين في العالم) على صب تماثيلهم فيها!!
مع اسعار تكاد تكون صعبة المنافسة وبذات الجودة المتوافرة في اميركا واوربا اذا ماقلنا انها تتفوق عليها بعض الاحيان!!
وبالتالي اصبحت عبارة(صنع في الصين) عبارة ممكن ان يفخر بها على صعيد الانتاج الفني واصبحت الصين قبلة انظار كل النحاتين في العالم، ليتأكدوا من ان انتاجهم سوف يكون ضمن ضوابط السيطرة والجودة النوعية عالمياً ومقابل اسعار تكاد تكون لاتذكر قياساً باسعار منافساتها من المصاهر العالمية.
وفي زيارة لمعرض الفنان الصديق محمود عبيدي اتحيت لي في العام الماضي او قبله بعام بالدوحة ، كان الصديق (عبيدي) قد تعمد تقديم نفسه نحاتاًفي هذا المعرض على رغم معرفتنا الدقيقة به انه رسام وله اسم رصين في منطقة الرسم، وطبعاً هذا شيء يحسب له ولمثابرته الجادة في ان يكون بالمقدمة. وكان المعرض برمته قد تم تكبيره وصبه وانتاجه بالصين وب(جودة عالية)
وزيارتي للمعرض جعلتني اتفحص النتاج عن كثب لخلو الصالة تماماً من الزائرين. واعجبتني الافكار التي تمحور عليها المعرض والتي مفادها الغزو الامريكي على العراق2003. والذي تناولته ولازلت كموضوعه رئيسية لاعمالي وهذا معروف لكل المتابعين وخاصة (تمثال ساحة الفردوس) الذي رسمته في اكثر من (100) عمل وكنت انوي تحويله الى تمثال ولغيت هذه الفكرة بعد دخول الاخ(عبيدي) بهذه المنطقة التي كانت بعيدة عن منتجه السابق والذي اتابعه بمحبة واحترام كبير، (خوفاً) مني بالدخول بمنطقة التناص التي يتربص لي بها الكثير من الذين لايفقهون قولاً ولا رأياً، فانا مؤمن كثيرا ب(جوكيتو) ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) بمعنى حياتي بالفن مرهونة بمدى قدرتي على استدعاء كل ماهو جديد من غير التلصص على منتج وبحث وافكار الاخرين.
والشيء بالشيء يذكر حينما توفي الفنان الكبير استاذنا (رافع الناصري) قام احد الاصدقاء بعمل (بورتريه نحت) للناصري رحمه الله، بعد ذلك العمل باسبوع او اكثر طلعت علينا صحيفة الحياة (اللندنية) بمقال اقام الدنيا ولم يقعدها للناقد (الحصيف) الاستاذ فاروق يوسف وبعنوان عريض (صنع بالصين)، مجرد تمثال بورتريه اثار حفيظة الجميع وأثار لغطاً كبيراً في اوساط الفن التشكيلي العراقي والعربي بين مؤيد ومعارض لهذا المقال.علماً ان منفذه كان نحاتاً له تاريخ طويل وعريض في هذا المجال. في حين ان معرض قدمت اعماله بنفس الطريقة لم ارى مقالاً نقدياً يشير له من هذا الجانب.
وهنا انا لست بمعرض الاساءة او الانتقاص من تجربة (عبيدي) النحتية . بقدر ما اردت الاشارة او التنويه ان الذي يعمل بدون مظلة يكون مكشوفاً معرضا لحرارة الشمس صيفاً وامطار السماء شتاءاً. ويكون مباحاً للجميع تشريحه وفق ماتشتهي امزجتهم وتشاء اهواءهم.
انحسار السوق الفنية جعلتنا (جبناء) نخشى قول الحقيقة وارغمت الجميع على المحاباة والكيل بمكيالين. وهناك من اجبر على ارتداء عدة وجوه ليكون له المساحة التي تؤمنه بالتعامل مع الجميع بما يرغبون، ولكنني ارى ان النفاق والتدليس له صلة لا من قريب ولا من بعيد بالموقف الاصيل الذي نتوخى منه انتاج فناً اصيلاً.
اتمنى ان يكون لي يوماً ما نتاجاً يكتب تحته صنع في الصين!!!
سفيربرس _ د. محمود شوبر
فنان تشكيلي عراقي