الدكتور صخر علبي وصلنا لمرحلة متقدّمة في ترميم الجامع الأموي ومئذنته في حلب
#سفيربرس _بيانكا ماضيّة

د. علبي: سنُبقي قسماً من هذا الحجر كما هو للدلالة على ما أصاب هذا المكان من همجيّة وبربريّة
بكثير من حذر على عدم إضاعة حجر واحد من أحجار المكان، تستمر الجهود المعمارية، والفنية، والاستشارية، في ترميم الجامع الأموي الكبير في حلب، أحد أبرز معالم المدينة الدينية والأثرية، تحت إشراف المديرية العامة للآثار. فيما كانت وزارة الأوقاف السورية قد اتفقت مع نظيرتها الشيشانية لتمويل جزء من عملية إعادة إعمار الجامع الذي تعرّض للحريق على أيدي العصابات المسلّحة والمسماة “لواء التوحيد” التابع لـ”الجيش الحر” في 13 تشرين الثاني من عام 2012.
بعد تحرير حلب من الإرهاب، دخلت الورشات المتخصصة إلى الجامع الذي تعرّض لتدمير ممنهج على أيدي المجموعات الإرهابية، ولوحظ فيه وجود أنقاض ومتاريس، مما تطلب عملاً كبيراً لترحيل الأنقاض، وإزالة السواتر، ووضع خطة عمل ودراسات للبدء بأعمال الترميم. يعمل على هذا الترميم نحو 100 مهندس ونحات وحرفي وعامل، فرق العمل في هذا الجامع متنوعة، فريق عمل دارس (معماري، إنشائي) وآخر منفذ (ورشات متعددة) فيما يدير المشروع الدكتور صخر علبي.
لمحة تاريخية ووصف معماري
أقام الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك الجامع الكبير في حلب على حديقة الكنيسة التي بنتها هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين إمبراطور بيزنطة، والمعروفة الآن بالمدرسة الحلوية. وتأنق في بنائه ليضاهي الجامع الأموي الكبير في دمشق الذي بناه أخوه الوليد. ولكن خلافة سليمان لم تكن طويلة 97-99هـ /715-717م ومن المرجّح أن الوليد بن عبد الملك الذي حكم من 705-715 م ابتدأ ببنائه في حياته، وأكمله أخوه سليمان بعده، وهذا يعني أن المسجد أنشئ خلال عامي 92-99 هـ / 710-716م.
يحاط الجامع بواجهات جديدة تنفتح منها أبواب أربعة قديمة، وهو مؤلف من صحن واسع، محاط بأروقة ثلاثة وحرم في الجهة القبلية، والصحن مغطى ببلاط رخامي ذي لونين أصفر وأسود، بتشكيلات هندسية ما زالت تميّز هذا الصحن، وتعود إلى العصر العثماني، وقد جددت مؤخراً. وتنفتح على الصحن عقود عشرة من الجانبين، وستة عشر عقداً في الشمال، ومثلها في الجنوب تعود إلى الحرم، وقد أغلقت هذه بأبواب خشبية. وفي وسطها مدخل كبير يصل إلى الجناح الأوسط الممتد حتى المحراب الكبير.
وتنهض جميع العقود النصف دائرية على عضادات مستطيلة، وفي وسط الصحن ميضأة حديثة مغطاة بقبّة. وثمة قبة أخرى تحمي ساعة شمسية، أما الحرم فإن سقفه محمول على عضادات متشابهة لتلك الموجودة في الصحن، تحمل أقواساً متصالبة على شكل عقد في ثمانية أجنحة عرضية موازية لجدار القبلة في جنوبي الحرم، وتعلو الجناح المتوسط قبة صغيرة تغطي منطقة المحراب. وفي الحرم سدة من الخشب المزخرف بألوان مختلفة مع كتابة تشير إلى عصر بانيها “قره سنقر” كافل حلب.
المرحلة الجديدة من الترميم
بعد تدعيم أعمدة الجامع التي لحق بها الأذى جراء القذائف، وبعد تقويتها، ومن ثم الانتقال للعمل على المئذنة التي تحولت إلى تل من الركام بعد تفجيرها من قبل الإرهابيين، ما تطلب وضع خطة لتوثيق الأحجار وتصنيفها ووضع هوية ورقم لكل حجر، والاستعانة بجهاز متطور لدراسة ومعرفة مقاومة هذه الأحجار، انتقلت مرحلة الترميم إلى الخطوات اللاحقة وأولها تلك المتعلقة بالمئذنة. لمعرفة تفاصيل العمل في هذه المرحلة التقينا الدكتور صخر علبي مدير المشروع، ليحدثنا عنها، وعما وصلت إليه الفرق العاملة في الجامع، وقد قال:
“ينصب الجهد اليوم في أماكن أربعة من الجامع، الأول هو المئذنة، وسابقاً كنا مشغولين بأحجار المئذنة التي تراكمت هنا في مكان وجودها، فالتفجير الذي أصابها جاء على مايبدو من السطح، إذ تسلل الإرهابيون من السطح ووضعوا المتفجرات، وبعد الحصول على الموافقات من مديرية الآثار، قمنا بفك الجذع المتبقي من سطح المئذنة من الأساس، وطوله مايقارب 6 إلى 8 أمتار، فبالرغم من أن التفجير حصل فوقه، لكن هل نستطيع بناء أربعين متراً على أساس تعرض لزلزال؟! لذلك فككنا الحجر بعناية، وهذا الحجر يختلف عن حجر المئذنة، أما هذا الحجر فهو من الحجر الذي كان يحمل المئذنة، والمحمي بغرف، أي لم يكن ظاهراً للعيان، ولذلك فككناه حجراً حجراً، وأعطينا لكل حجر رقماً وهوية، وحالياً يتم إجراء فحص حجارة، ويتم الانتقال به طبقة طبقة إلى حين الوصول إلى طبقة الأساس، فيتم التعرف عليها، ومن ثم نعود لنبني المئذنة من جديد. لقد أوشكنا أن نصل إلى القرار النهائي بإعادة بنائها كما كانت في السابق”.
وعما إذا كان سيتم اعتماد الحجر نفسه حتى ذاك الذي تعرّض للشروخ، أم بالإمكان الاستعانة ببدائل، يتابع د. علبي:
“هناك بعض الحجر بالإمكان وصله بقضبان، ولكن هناك ماهو متهشّم كلياً.. لايمكننا تقييم الحجر من خلال شكله فقط، لهذا هناك فحوصات أجريت على الحجر، وتبيّن أن مقاومة بعضها ضعيفة جداً، ما اضطرنا إلى صناعة ماهو على شاكلته. هذه الحجارة تشكل رمزاً، وهي أوريجينال، ورغم كل الحصار المفروض على سورية، تم تأمين جهاز عالي الدقة لفحص الحجارة”.
ويتابع: “الأبواب الخشبية المحروقة للجامع تمت إزالتها، وقد أصبحت البديلة جاهزة، فالأخشاب جميعها محروقة ولايمكن إعادة أي لوح منها، لذلك تم تصنيع أبواب وشبابيك خشبية جديدة، وهنالك الأقسام العالية، وهي أرابيسك، وزخارف، تم تصنيعها مجدداً، وكذلك الأبواب السفلى أصبحت جاهزة…الأمر الآخر الذي نعمل عليه الآن، وهو الأهم بالنسبة لي كمدير للمشروع، ألا هو القسم الشرقي من الجامع، والملتصق والمتغلغل بالأسواق القديمة، فذاك القسم قد تفجّر بأكمله، دكاكين السوق القديمة ملاصقة للجامع، وغرف الجامع الموجودة فيه تقع فوقها الدكاكين. لقد تفجّرت المنطقة بالكامل فضاعت الملامح كلها، وما ساعدنا على إظهار الصورة الواضحة لها هو مجيء مستثمري السوق الذين أوكلوا الأمر إلى مهندس لإجراء الدراسة عليها، ولذلك أصبحت اليوم المصلحة مشتركة بين إعادة بناء الدكاكين، سواء الداخلية أو الخارجية، وبين بناء الجامع”.
ويتابع: “أمر آخر نعمل عليه حالياً، ألا وهو تنظيف الواجهة الحجرية للجامع، وكل هذه الأعمال تتم بشكل يدوي، في المرحلة الأولى نعتمد على الماء وقوة ضخّه، وفي الثانية نستخدم مواد بسيطة جداً تساعد على التنظيف، وهكذا حتى يظهر بياض الحجر. كل هذه الجدران مثقوبة بالرصاص، فبعد إجراء تجارب استغرقت سبعة أشهر على المادة المالئة للفراغات، لابد من سحب كل رصاصة متوضّعة في الحجر، إذ لايجب أن تبقى داخل الحجر. ويتم ملء الفراغات وهكذا..لقد جرت هنا حرب طاحنة وآثارها مازلنا نراها اليوم…وقد قررتُ إبقاء قسمٍ من هذا الحجر، كما هو، للدلالة على ما أصاب هذا المكان من همجيّة وبربريّة، سنبقيه لا على الواجهة، وإنما على بعض أقسامها، لنقول: من هنا مرّ الرعاع!.
ونعمل حالياً أيضاً على مرفق رابع، وهو كل ماهو مخف في الأسقف من كهرباء وتكييف، إذ تم تأسيس التمديدات.
ويتوقف د. صخر ليقول: “هل تصدقين أن كل شيء في هذا الجامع تمت سرقته؟! حتى كابلات الكهرباء سرقت من الجدران، كل ماهو داخلي تم سحبه وسرقته، هذا ليس إجراماً وحسب، هذا عمل إرهابيّ منظّم”.
فرصة ذهبية للتنقيب
حين تم الدخول إلى الجامع الأموي بعد التحرير، لوحظ وجود فسحة من البلاط قد تم قلعها وزرع بعض الحشائش فيها، وللوهلة الأولى قلنا بضرورة إعادة التبليط، وبحكم معرفتي بتاريخ العمارة- يتابع حديثه د. صخر- وبوجود تضارب في الأقوال حول الطبقة التي بني عليها صحن الجامع، لمعت الفكرة في رأسي للقيام بالتنقيب لرد التناقضات التي حامت حول هذا القسم، فأحد المراجع يشير إلى وجود صهريج ماء، وآخر يشير إلى وجود طبقة بعمق 60 سم. سنعمل على حفر 6 أمتار بما يساعدنا على معرفة تاريخ المدينة. قدمنا طلباً للمديرية العامة للآثار والمتاحف، فأرسلوا بعثة تنقيب أثري، وبدؤوا بالتنقيب، وتوقفوا في الشتاء، واليوم عادوا للعمل فيه. ماساعدنا على هذا الأمر أنه من خلال الترميم السابق تم تدعيم جميع الأعمدة في الجامع، أما في الصحن فلم يتم التدعيم، لذلك الآن لدينا فرصة ذهبية للتنقيب، ويومياً نوثق ونصور ما نصل إليه. إن الموقع مقسّم إلى أربعة أقسام، وفي كل قسم يتم التصوير والتوثيق والأمور تسير على قدم وساق.
مراحل منتهية
وينهي د. علبي كلامه عن المراحل المنتهية من ترميم الجامع فيقول: “تم ترميم قبة مكان الوضوء، ومكان الشرب، فكُسيت بمادة الرصاص الذي جُلب من الصين، وانتهينا تقريباً من القباب، والأجزاء العلوية التي كانت مهدمة قد تم الانتهاء منها، وبدأنا بترميم ثقوب الرصاص والواجهات، والأحجار الناقصة. أهم مافي الأمر تلك الأعمدة الموجودة في الداخل، والتي تعرّضت لتخريب كبير، لقد فككناها كقطع البازل، وأعدنا بناءها من جديد”.
المئذنة قبل الحرب وبعدها
الدكتور عمّار كعدان، هندسة مدنية، اختصاص ديناميك إنشاءات، ودراسات زلازل من الولايات المتحدة، عضو في المجلس الإنشائي لنقابة المهندسين، التقيناه أيضاً يشرح لنخبة من الطلاب الذين يقومون بحلقة بحث عن المئذنة والأعمدة، والأروقة.
وقد ابتدأ حديثه بالقول: “اليوم جاءت الفرصة ليواكبنا هؤلاء الطلاب للاطلاع على أمور تدعيم الجامع الأموي، فمنذ شباط عام 2017 وبعد أسبوع من تحرير المدينة، دخلنا إلى الجامع مع فريق عمل إنشائي، وآخر معماري، وقيّمنا الأضرار الموجودة، وكنا حريصين على وضع أولويات للأضرار التي بحاجة إلى التدعيم الفوري الإسعافي، وحالياً مهمتنا الأساسية موضوع المئذنة التي نقوم بدراستها لإعادة ترميمها”. ويتابع: كان لي عمل سابق في هذا الجامع في عام 1999 حين رمم وكان معنا أيضاً الدكتور صخر، وقد طُلب مني تقييم دراسة المئذنة على الزلازل، إذ تعرضت المئذنة لأربعة زلازل رئيسة، أدت إلى بعض الأضرار، ولكن لم تهدِّم جزءاً كبيراً منه، مع أنها هدّمت جزءاً كبيراً من الأبنية المحيطة، ومالت المئذنة باتجاه الشمال الغربي، وظهر فيها ميل قدره حوالي 34- 35 سم، وانحراف قدره 5 درجات، ورغم ذلك قمنا بدراستها باستخدام الحاسوب على برامج متطورة، وأعطينا تقريرنا آنذاك بأن المئذنة مع ميلها، لو تعرضت لزلزال متوقع في مدينة حلب، سوف تصمد. قد يحصل بعض التشققات والأضرار البسيطة التي يمكن معالجتها، لكنها لن تنهار. إلا أن حصل الأمر المؤسف في أواخر عام 2012 حين تم التفجير، لكنها لم تصمد إثر تعرضها للانفجارات التي حصلت على أيدي المسلحين….مهمتنا اليوم عدم اليأس، ونحن نعلم طلابنا بأن معظم منشآت مدينة حلب حجرية، ولهذا تدرّس هذه المادة في كلية الهندسة المدنية، وهي الوحيدة في القطر، وننبههم بأن لديهم رسالة وهي معالجة هذا الأثر الكبير الذي يميز أجدادنا إذ كانوا قادرين، بوسائلهم القديمة، وبعقلهم النيّر، وطرائقهم العلمية الحسابية، بتشييد منشآت كهذه. نحن حالياً نقوم باستخدام الكمبيوتر، وهي طرائق متطورة، لنثبت أنها قوية وصامدة، إلا إذا امتدت إليها يد الإنسان وعملت على تخريبها. مطلوب منا نحن المهندسين أن نبني، ونعيد ترميم ما هو مدمر”.
حجارة حلب
عن حجارة حلب وأهمية هذه المدينة، يتابع الدكتور عمار حديثه بالقول: “أعشق حلب وحجارتها، حلب معشوقتنا، حلب تاريخنا وحياتنا، ننتسب إليها ونفخر بها. كنت كلما ذهبت إلى دولة أقدم محاضرة عن مدينة حلب، وبعد الانتهاء منها يخرج الحضور عاشقين لهذه المدينة التاريخية العريقة. لقد كانت الجمل الأكثر دوياً في ذهني بعد كل هذا التخريب الذي طال المدينة، أنه إذا كانت لدينا تحفة فنية أحافظ عليها إذ أدرك قيمتها الأثرية، فما بالنا إذا كانت اللوحة الفنية هي مدينة كاملة واسمها حلب؟! هي موزاييك، تجمع كل القوميات والإثنيات، والمذاهب والأديان، حلب فريدة عصرها لايوجد مثلها في العالم، هي كالفسيفساء إن اقتطعنا منها قطعة تشوّهت الصورة. لذلك كنت أحزن أن هذه المدينة، هذه التحفة العظيمة، كيف يتم، وبشكل متعمّد، تدميرها؟! لذلك كان قرارنا أنه يجب البقاء في هذه المدينة لننقل للأجيال قيمة حلب، وكيفية المحافظة عليها! مايحزنني أن هؤلاء الشباب يفكّرون في السفر إلى خارج البلاد، لذلك أقوم بإعطائهم محاضرات، مفادها: من المفيد أن تسافر، لتتعلم، وتجمع المال، لكن عد إلى بلدك، لأني حين خرجت أنا من بلدي، كنت غريباً في الغربة، في الوطن أعرف الناس ويعرفوني، أنى سافرت وجدت أشخاصاً أعرفهم، أما في الخارج فيبقى المرء غريباً”. وينهي كلامه بالقول: “إن انتماءنا هو لهذا الحجر الذي يشكل روحاً، تاريخاً! هذا الحجر يحمل عبقاً، قفي أمامه، واستنشقيه مغمضة العينين، وتمعّني في الصورة التي سترينها، إنك سترين مدينة حلب”!.
#سفيربرس _بيانكا ماضيّة _ الشهباء