قراءة في ديوان “رِتاج الشمس” للشاعرة السورية أحلام غانم.. بقلم: الأديبة ميرفت أحمد علي
خاص سفيربرس

( رتاج الشمس ) للأديبة الشاعرة و الروائية ( أحلام غانم ) الصادر عن مؤسسة سوريانا للإنتاج الإعلامي ديوان شعري يفضي إلى تساؤلٍ هام : ماهية العلاقة بين طرفين متناقضين : الشمس على رحابتها و طلاقة أفقها ، و الرتاج على محدوديته و ضيقه . فهل يرتج على الشمس و تقصى خلف باب مقفل ؟
القصائد ــ بحد ذاتها ــ النمطي منها و الحداثي تشكل نقاط علام لبلوغ الإجابة المنشودة ، فعالم ( أحلام غانم ) الشعري المكتنز بخصب المخيلة و بترف اللغة و بثراء التصاوير و بجدة الفكرة و فرادتها ، و بجرأة المغامرة البلاغية …هو عالم الشمس التي ترتضي تسليم مفاتيح الولوج إليها إلى شاعرة صورت فأصابت ، و عبرت فأدهشت ، و ابتكرت فجددت ، و غامرت في ترحالها عبر أمداء القصيد فرست على بر النجاح و موانئ التألق و التأنق على صعيدي المبنى و المعنى .
و تتأرجح قصائد الشاعرة بين الرثاء لزميل شاعر غيبه الموت و نقش بصمة على جبين الخلود ، و عشق الشام دوحة الياسمين و معقل النضال و الرجاء ، و الافتتان بالوطن ..بتفاصيله و بمكوناته المكانية و الزمانية و الحضارية و التاريخية الموغلة في العراقة و التجذر. تقول في قصيدة ( زنوبيا ــ رتاج الشرق ) :
( و الآن سأهمسُ في أذنكِ / عشقهُ قد صار لدي قضية / و أنا قلم يهوى أن يبدع وطناً يدعى : / الإنسانية / و نصرخُ معاً : نحنُ كالماء لم نكسر / لا ..لم نهزم ..لا ..لم نهزم /
هذا الافتتان الذي يقود بلا ريب إلى تصدير بطاقات الحب و الشكر و العرفان بالجميل لشهدائه البررة و لنسور الجيش السوري الصامد في معارك تطهير التراب من دنس الإرهاب ، و من مشايخه و أزلامه .
تقول الشاعرة في قصيدة ( فاتحة الغمام ) :
( أكرم بها روحاً مشت فوق الندى
و بها تكرمت السماء من الثرى
فاسأل صخوراً هاهنا عن زهرةٍ
حجت مع الريحان حجاً أكبرا )
و تذيل الشاعرة اعتزازها بالشهداء بإدانة الإرهاب قائلة :
( يا رب إني قد أتيتك ضارعاً من كل شيخٍ للجهادِ مزورا )
و لا تنسى الشاعرة أن توصف علاقة الشاعر مع مجتمعه و محيطه ، فالشاعر هو القيادي المضطلع بمسؤولية التنوير و التثوير ، و ينبغي عليه أن يرتقي بالفكر و بالثقافة و ينتشلهما من هوة التكلس و السلفية و التردي ، مستنهضاً همم الناس و المثقفين بخاصة لمواكبة سير الحضارة و مجاراة المدنية المعاصرة في تمظهراتها المختلفة .
تقول في قصيدتها الجميلة ( بين اللام و النون ) :
( أنا منذ خمسين عاماً / أفتشُ عن رئةٍ تتنفس عشقاً / و عن وطن لأغطي جرح القصائد / منذ سنين مضت و أنا / أتعذب حزناً على الإخوة النائمين / هنالك فوق السطور : كلامِ المتاهاتِ/ حيث الخيول الجريحة / و الوجع العربي الطويل /
و هذا لا يعفي الشاعرة ( أحلام غانم ) من أن تسرج أحصنة الغزل و ترمح فوق صهواتها المتينة إلى ملذات العشق و الغرام ، فترصد مواجد العشاق و أحاسيس الأنثى المغرمة في لحظات التأجج العاطفي و انفلات الأحاسيس من عقالها . فتبرع في فض السرائر و إضاءة المشاعر و استبطان النفوس و قراءة كف الحلم و فنجان قهوة العاشق المدنف الصب . كيف لا و ( أحلام ) ابنة الحياة و فارسة العشق و الهيام التي لا تجارى لمن يعرفها عن قرب ، أو من ظلال بوحها الشعري الجذاب الذي يدغدغ الأحاسيس و يوقظ الرومانسية من سباتها في غير موضع من هذا الديوان .
هاهيَ في قصيدة ( فوضى النحل ) تعلي من شأن الحب العذري ، و تمنحه وسام النبل والتقدير في زمن فساد الخلق ، و تدين إقبال الرجال على الملذات الجسدية ، و انصرافهم عن المرأة العفيفة الصالحة ، مستلهمة أسطورة الخلق الأولى :
( أسرتك أوهام الشراب و لم تزل بغواية التفاح أنت المترف )
و في قصيدة ( حبيب بدا ) تحاكي الشاعرة غزل الأقدمين من شعراء العرب ، و تنسج على منوالهم في اختيار البحر الشعري و الطابع الأسلوبي ، إذ تتكئ على عناصر الطبيعة ، و تعيد صياغتها وفق رؤيتها الخاصة و انطباعها الشخصي الذي يمليه الإلهام ، و تقتضيه المشاعر المواكبة له :
( أما آن للساكن في فيض السنا بأن يهتدي ليلاً سبيل عبابي
مضى بي نجم الصبح حتى هوى الدجى و أزهر في ذات التراب ترابي )
لقد أملت الحياة على شاعرتنا عبراً و دروساً تلقفتها كامرأة ناضجة ، و ترجمتها كشاعرة بأصدق ما تكون الترجمة ، لتثبت أن الحياة بحلاوتها و مرارتها ..بمسراتها و مضراتها صديق مقرب لمن يحسن فهمها و قراءة أقدارها ، فالتقت مع ( إيليا أبو ماضي ) في قصيدته ( كن بلسماً ) داعية قارئها إلى تعزيز الثقة بالذات و بالآخر و التطلع نحو الأفضل .
تقول في قصيدتها ( ابدأ بنفسك ) :
( ابدأ بنفسك / كلما سجدت قرنفلة على قبر الشهيد / أيقظت عيناك مجداً للغيارى / و امنح لروحك / ما يطمئنها بأن الحب أقوى / من دم الشعراء / حيث القلب ليس مخادعاً )
إن ( رتاج الشمس ) هو ( رتاج الوجدان ) الذي يضوع من أعطاف القصائد كما يضوع المسك من الورد ، موطنه الدفين عواطف ذاتية متقدة و أحاسيس و مواجد حارة ، تسبغها الكاتبة على أفكارها و خواطرها و رؤاها و قضاياها مهما بدت مادية و حسية . وجدان مطعم بعنصر أصيل من عناصر الشعر ألا وهو الخيال …الملكة الفنية التي تصوغ الصورة الأدبية ، و تتجلى في قدرة الشاعرة على بث الحياة و الحركة في المألوف و المعتاد و تخيله على نحو مثير و طريف . تقول في قصيدة ( زنوبيا ) :
( أتخيلكِ الآن أمامي / عوسجة تتصدى للريح / و تعزف فوق سرير الشمس / تراتيل قيامتها )
و بوحيٍ من الخيال الناشط تأتي القصائد مشبعة بإشراقات تعبيرية كثيرة و بصور بلاغية بسيطة حيناً و مركبة حيناً آخر . تقول الشاعرة في قصيدة ( دوامة الريح ) :
( كريم أنت كالمطر / و بدر أنت مسكون بمحراب من العوسج )
و في قصيدتها الوطنية الجميلة ( بوح البتول ) تقول :
( و على رموش البحر يتكئ الندى و جمالها نور به تتسيد )
و حين تبوح الشاعرة بالحب الكلمة البسيطة المكونة من حرفين ، يتهيأ لها أن كوناً جميلاً قد سكنها ، أو روضة بهية قد حفت بها عن يمين و يسار ، فتقول :
( باحت به ( أي بالحب ) أطيار قلبي فاجتلى
و انسابَ عطراً كالندى يتلطف )
و في قصيدة ( بحر الهوى ) تتراءى لها الشهيدة بهذه الصورة اللطيفة :
( و بجيدها وضعَ الضياءُ صليبه أنثى بشرنقة الهدى تتدثر )
لقد جاء البناء اللغوي للشعر عند الشاعرة ( أحلام غانم ) مطعماً بألفاظ فصيحة موحية ، ألقت ظلالاً و تداعيات في ذهن المتلقي ، و ناسبت المقام و السياق المعنوي . و انحازت بشكل ملحوظ إلى لغة الشعراء الأوائل من حيث المتانة و القوة و الفخامة و الجزالة من قبيل :
( يتهجد ــ يتأود ــ إثمد ــ السرمد ـــ عسجد ــ الدجى ـــ العوسج ــ اجتلى ــ عاشق متبتل …و سواها كثير) .
و بدت التراكيب رشيقة مشرقة عقدت الشاعرة بها توأمة و تآلفاً مابين لغة اليوم و لغة الأمس ، فجاء ( رتاج الشمس ) ديواناً شعرياً يرضي ذائقة القارئ أياً كان انتماؤه و انحيازه الشعري .
و إذا كانت موسيقا الشعر هي العلامة الفارقة بين الشعر و النثر ، و هي النغم الشجي الذي تصاغ منه المعاني، فإني أجد في معظم قصائد ديوان ( رتاج الشمس ) نغماً شجياً و نسقاً شعرياً مرناً عذباً متناغماً تطرب له الآذان ، مرصعاً بفنون البديع و بضروب البلاغة من تشابيه و استعارات و كنايات و جناس و طباق مما يصعب حصره في هذه العجالة . و هذا يفضي إلى الإشادة بقصائد تميزت عن رفيقاتها ، و سمت بالحس الموسيقي و بالصياغة التعبيرية مثل ( زنوبيا ، رتاج الشرق ) و بها تغنت برمز تاريخي و حضاري عريق لم يقطع صلته بالحاضر ، بل تناسل عبر الزمن ليقدم نموذجاً للمرأة السورية الصامدة و المكافحة . و لا ننسى قصيدة ( بين اللام و النون ) و بها أعادت الشاعرة الاعتبار للمثقف ، ووضعته في موضع المسؤول الأول عما يجري حوله على المستويين الجمعي و الفردي . و أذكر أيضاً قصيدة ( قديسة الحبق ) و بها تتغنى الشاعرة بمفاتن الشام و حبقها و ياسمينها تغني العاشق بالمعشوق .
و ختاماً : إذا كان الشعر ( هو لحظة انخطاف و انعدام جاذبية ، و الخيط الذي يصل السماء بالأرض لاستنزال الوحي ) كما عرفه الشاعر ( مصطفى صمودي ) فإن ( رتاج الشمس ) بفضاءات تحليقه ، و بتفاصيل بهائه ، و بقصائده التي عزفت سيمفونيتها الخاصة و نشرت إضاءاتها و إيحاءاتها على أوتار ذائقتي ، كتابٌ يستحق المباركة . تعانقَ فيه المعنى الكثيف مع اللفظ القليل الشفيف …ليترك للقارئ لذة الكشف و الاندهاش حد تقبيل ثغور التصاوير الشعرية ، و تقبيل جبين المؤلفة ( أحلام غانم ) مع التمنيات لها و لمؤسسة سوريانا للإنتاج الإعلامي بالتوفيق الدائم .
#سفيربرس _ بقلم: الأديبة ميرفت أحمد علي