هذا زمانك يا وطن فاحضن وروداً عبرت سنين القهر..
سفير برس: ماجدة البدر

تشكل الذاكرة الحية الإنسانية الملف الأدبي والثقافي الذي يحفظ لنا ما يكتبه أدباء الوطن، لنستطيع الإيغال فيه، والنهل منه، ودراسة أبعاده المتعددة والمتجذرة في عمق الجذور الشعرية والأدبية المتغلغلة في ترابة خصبة، والتي تنم عن أصالة الهوية والانتماء إلى وطن أزهرت وتفتحت براعمه في قلوبنا..
في جو يسوده الود والشفافية اجتمعت الصور الشعرية والأدبية، صاغتها أقلام مبدعة، تركت أثرها في عميق وجدان من يتلقاها، بحضور هيئة الفرع، (د.إبراهيم زعرور، رئيس الفرع، أ.أيمن الحسن، أمين السر)، وجمهور واسع من المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، أقام فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب يوم الثلاثاء 6/7/2021، فعالية أدبية شارك فيها: (حسن إبراهيم الناصر، غسان حورانية، محمد رجب رجب، نهلة يونس)، أدار الفعالية: أ.أيمن الحسن، أمين السر.
في البداية رحب أ.أيمن بالحضور قائلاً:
وكانت المشاركة الأولى للكاتب حسن إبراهيم الناصر، وهو كاتب من مواليد مدينة حماة / قرية معان 1957/، حائز على العديد من الجوائز الأدبية في القصة القصيرة / 2001/ وجائزة الإمام الخميني / 2004/، له خمس مجموعات قصصية: (لا مكان يتسع للحب، أيام بلا أوراق، جمرات الشوق، امرأة من ندى، مدينة بلا سور)، تناول في مجموعاته القصصية، أهم المواضيع التي تتعلق بـالأرض، الوطن، الإنسان، الضمير، والوجدان، وكان للمرأة والقضية الفلسطينية الحصة الأكبر في قصصه.
من مشاركته نقتبس: (من حكايا العشق)، تلك التي تبحثُ عنك أنا مسكونةٌ فيك، أرأيتَ امرأةً تخرجُ من دوالي العتب إليك، ألفُ وجعِ انتظار، ألفُ لوعةِ شوق، موغل قلبي بالعشق، لو أنك الآن هنا، نرقب خيوط المطر، كما كنا نلتقي “بارتباكاتنا الصغيرة”، لقد أمطرت السماء كثيراً في هذه الليلة، وحيدةٌ كانت في الشرفةِ المُطلة على سفح الزيتون، تستعيد ذكرياتهما، وهي تردد مع فيروز: “أذكر الأيام يا حلو الهوى.. في حنايا الغابِ عندَ الجدولِ.. حين كُنا والهوى حُلوُ الغِوى نتشاكى في حنينِ القبلِ.. ضمَّنَا الليلُ على بوحٍ طوى.. كلُّ مافي قلبنا من غزل، هكذا شاء الهوى.. أن يكون حبيبها حيدر، من الرجال الذين يشكلون من أجسادهم سياجاً يحمي الأرض، والوجود، يحرسون سورية بحدقات عيونهم، مع شقشقةِ الضوء، وصوت المؤذن، رنَّ الهاتف الجوال، شهقت سبعاً من العشق ظمآنة، أخيارً أتاها صوته ملهوفاً: يا الغالي بالحزن، بلهفةِ ودلع قالتك اشتقتلك، كلمات كتبتها صبية إلى حبيبها الذي جاء شهيداً… تلملم الريح وقع خطواتك، عشقتك حتى نسيت اسمها في عينيك، في غيابك يسألني البحر عنك، قبل أن يقفل الخط، قال وفي عينيه نهرٌ من الدموع انتظريني، لابدَّ أن تشرقَ الشمسُ.. و.. نلتقي والشوق.. وجلنار لم تزل على شرفاتِ الانتظار تردد في كل فجر أشرقي يا شمس بدنا نلتقي؟!..
تناولت قلماً وورقة وكتبت: لن يموت السنديان، ولن ينتهي الليمون، ولن تنتهي حكايانا يا حبيبي حيدر، كنتُ حيثُ من الواجب أن تكون.. سأبقى على عهدك ما حييت.. جلنار…
***
كأني به موسى تَهُشُّ عَصاتُهُ والشاعر – محمد رجب رجب
شاعر عريق، درس في كلية الحقوق، ونال درجة الماجستير، بالإضافة إلى عمله في الجيش العربي السوري، حتى وصل إلى رتبة (عميد) وتقاعد، انصرف إلى كتابة القصائد الجميلة، كتب في أغراض الشعر كافة، محافظاً على النمط التقليدي للقصيدة العربية، له خمس مجموعات مطبوعة، منها: (حدائق الوجد، جذلاً نموت، بهي كتاب القلب) بالإضافة إلى العديد من المجموعات طور الإنجاز، شارك في مهرجانات محلية وعربية في الدول العربية.
من مشاركته نقتبس:
تؤوبين وجداً دافءَ الهمسات وتغرينَ برقاً ضاعَ في الظُّلمات
كأني به موسى تَهُشُّ عَصاتُهُ ويا نارُ بَرداً في لظى الجمرات
تضوعينَ ليلاً يستقيلُ عُجافُهُ وتدنين صُبْحاً أغيد الوجناتِ
ولستُ إلى روضِ العِتاب ميمماً فما لِصحافِ العودِ من عثراتِ
فمذ كانت النَّجوى تميمةُ عاشقٍ يفيضُ هزارُ القلبِ بالوَجفاتِ
أقيمي شراعَ البوحِ يابنة خافقي فريّاكِ بعضٌ من جنى صَبواتي
ولاتُرقمي الأيامَ ، إنَّا لُهاتُها نَمُنَّ على الأيام باللّهَواتِ
فإِمَّا أغالُ الشَّوقُ وجهَ فراتِهِ أللصُّبحِ عينٌ في سُرى الفَلَواتِ؟
ألم يجتبي اللهُ الجمالَ سُلافَةُ وفيضُ حجيجٍ من سَنا عَرَفاتِ؟
ألا أيها الوجه الذي كم يَشوقني لريّاهُ وصلٌ مترعُ اللَّفتاتِ
أعذني فِراقاً باذخَ الوجد غافلاً غَضوباً، لغوباً، آثمَ النَّظراتِ
وشئني مشيئاتِ الرّبى في بكورها وسجْعَ حَمامِ الرُّوحِ في الصَّلواتِ
تؤبين حلماً دافقَ الصَّبواتِ أغيظي كؤوسَ البينِ بالحسرات
عساها شواطي القلب يُعشبُ رملها ينادي على البَحارِ طيرَ اللهفاتِ
ألا ليتَ شعري هل نزلت مرافئي ألا ليتَ شعري هل ضممتُ فُراتي
***
كهفهم حريزٌ والروائية نهلة يونس
وكانت للروائية نهلة يونس، أمين صندوق فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب مشاركة مضيئة، والتي عرفت عن نفسها قائلة: (في قرية يطوّق جيدها أشجار صنوبر باسقات.. ولدت عام ١٩٧٤، ومن عبير ثمارها تلك الأشجار تكوّن شهد موهبتي..قرية الصليّب في ريف صافيتا ضمن محافظة طرطوس هي المكان المرافق لنشأتي.. نلت الشهادة الثانوية سنة ١٩٩٣، لكنّ القدر شاء عدم إكمال تعليمي في الجامعة.. ربما ليفسح المجال أمام موهبتي لتولد من رحم المعاناة. متزوّجة ولديّ ثلاثة أولاد. نلت شرف انتسابي لاتحاد الكتاب العرب، بعد طباعة ثلاث مجموعات قصصيّة، ورواية قيد الطباعة في وزارة الثقافة.. لديّ مجموعات أخرى تنتظر دورها وثلاث روايات أيضا..)
قرأت الروائية نهلة يونس: قصة بعنوان: (كهفهم حريزٌ) : من مشاركتها نقتبس: [سيقولونَ ثلاثةٌ والموتُ رابعهم.. أو خمسة والموت سادسهم، رجماً بالغيب، أو لعلّهم أكثر، لا بل ربما أقلّ، والله وحده العليم؟! المهمّ أنّهم كانوا، ولمّا تزل رياحينهم كنثارِ باسمينٍ يشتمّها الوجعُ بهم. لم يجدوا الكهفَ ليدخلوا في سباتِ أولئك من فتية، ولا الملكُ من يلاحقهم طريدة، هم عزّلُ في يبابٍ يتشاحب، أو همُ الأفقُ المتيابسُ على وقعِ جفاف السّبع. الحرُّ والقُرُّ اتخذا من أجسادهمُ أخاديد، والوجوهُ الرّاضية.. المستبشرةُ تطوفُ أعينها في كلّ حدبٍ للصّبر أو صوب للنجاةِ، بحيث لا تغيبُ عن أطرافهم قشّة أسقطها خوف طائرٍ يسعى لبناءِ عشٍّ بآمالَ متهالكة، كما همُ.. وساررته ذاتهُ حال رؤيته لهم كما السّنونو بموتٍ يقترب، مخلّفاً بمعاناته تلك أسوةَ صبرٍ حسنة، أو جزعاً، لعلّه من نوعٍ سادس، أو سابعٍ… سيقولون، سيتساءلون!! لكنّ سؤلهم الزّاوي أجهش حينما مضغ إلهامَهُ ذاك. الجفونُ تناوست بعد مضي عقاربِ الزّمنِ في لسعهم عنوةً، بالتّزامنِ مع عقاربَ أُخرى وجدت في أجسادهمُ المنهكةِ فريسة تُفرغُ في ضياعها زُعافها. أمّا الشّمسُ هذه الصّديقةُ التي تواطأت مع حاجتهم إليها، فأبت المضيّ إلا بتثاقل أعطاهم بعض الأمل ليجّهزوا الحفر المطابقة لمقاس ومآل تضحياتهم.. قال أحدهم ذو الوجه الأبيض المتسامر حنقاً على مصير لم يرغب به نهاية قبل تحقيق النصر، قال: إذاً؟! شرق آخر بلعاب آيل للتجفاف؛ ثمّ علّق سعلا: إلى الموت.. !! بكى أصغرهم سناً، وناجى: أينه.. أنا أبحث عنه منذ لهاث، ها قد جئناه نلاحقه في بيداء من الهشيم بينا يمعن بعدا.. يا له من صيّاد تسهر عليه طريدته حسب وصف أحدهم؟! جفّف دموعه بكم حسراته أو ما بقي منها، واستسلم لنواح انشقّت على وقع نايه ينابيع عدّة كان قد صحّرها الألم. نهض الآخر الجالس المتباعد يرتّب في يده منذ حوار شيئاً استرعى انتباههم بين آه فاصلة وأخرى.. وزّع قطعاً على رفاقه جميعاً بينما الشمس تزاور عن باب أملهم ذات الأمل.. وذات اليأس، ويقينهم باسط ذراعيه على وصيد تعاستهم، يقطع عليها ما تنتظره من متعة السقوط على القمة.. التقط كلّ منهم ما وضع في يده توّا.. إذ لطالما تاق فضولهم قبلئذ لمعرفة ما يكتبه على قصاصات الورق ذاك المتبارد كما الحجارة حولهم، والتي استعاضت عن حمأة الشمس بصبرة الليل… الضوء متخافت في يده.. كما الشمس في دلوكها، لكنّ عيونهم تلقّفت ما رمى إليه صاحبهم، فرموا بالورقة تباعاً كمن أصيب بمسّ، مع تلاوة كلّ منهم لما ألفى عليه آباءه من متعوّذات. بالتزامن مع قشعريرة مزعجة ربت على وقع سياط كلمات تناثرت صغراً؛ وتعاظمت وجعا، كتب: (فلنجهّز حفراً.. وليُجهِز كلّ منّا على الآخر). ارتجف أبداهم قراءة، ثمّ سأله بصوت ارتدى الأسود لثاماً:كيف؟! ما طريقة القتل الرحيم خاصّتك؟! أجابه متفرّساً: بما بقي من رصاص!! ارتجف كبيرهم سنّاً وبالتالي قلباً: والرصاصات تعدّنا؟! ردّ الصامت المتآمر مع الوقت والرحمة: هلّا أعرضتم عن هذا؟! ران صمت أمضى من وقع الحسام المهنّد، إذ اختلى كلّ منهم بمسرح ذاكرته يستعرض معه مآل هذا الوضع الذي علموه محتّماً، ثمّ تنفّس الصامت متابعاً: أو نستطيع؟! تبادلوا نظرات كساها غبار الشفقة ممّا يقدمون على فعله من موت أكبر، أجاب صاحب الأوراق : يا صاحباي الموت.. قبل أن يصلوا إلينا، تداخلت الأصوات لهنيهة: متى نبدأ؟! كلّ شيء أرحم من وقوعنا بأيدي الكفرة الفجرة.. نحن أرحم بأنفسنا.. صوت بكاء أحدهم مّمن قصّ على مسامع تعبهم مقدار شوقه إلى أمّ مريضة وأخوة صغار.. دفع صوته ببعض النار في هذا المرجل الذي يستشيطون فيه وهناً، فجلس بجانبه ذو القلب الكبير مطبطباً على كتفيه مؤاخياً وجعه، وتمتم بحذر: كن أنت قاتلنا جميعاً، وحينئذ فكّر؛ إن كنت لا تريد الموت، أكمل المسير برصاصة أخيرة أماناً لك من الوقوع في شركهم.. ارتجف وصاح: بالله عليكم اصمتوا.. تالله هو العطش والجوع أعميا بصائركم، هو القدر الحاكم، لا قاتل ولا مقتول.. الأرض تقلقلت تحت قساوة حوارهم.. ومادت على وقع الألم المتهاطل من جباههم، حتى أينعت بأزهار على عدد ذرّات شذاهم، والسماء الشاهد الكالح الصامت الذي يرى ولا يكاد يُرى، في هذا الليل المتساجي.. كانوا يتقاسمون الموت زمراً، وهو يبكي على نجيع صبر يتنافذ، متسائلا: تراها أيّهم ضحيّته الأولى… في الهزيع الأخير من ضياعهم.. افترشوا الأرض، والتحفوا السماء، وتناوموا حالمين بمضاجع وثيرة كأحضان أمّهاتهم، على سُرر مرفوعة أيقظتهم همهمات الموت قادماً يثرثر باحثاً عن آثارهم ليصبحوا وليمة غدر وحقد وخيانة.. تبادلوا اللكعات مستيقظين من فرح مشاعر شاءها القدر حلماً.. وحينما أيقنوا اقتراب رجس الإرهاب من طهرهم، تناول الباكي أحبّة هو فاقدهم مسدّسه، وعلى وقع صوت الطلقة التي نفذت في جبهته رعباً، زلزل في أسماع الخيانة التي تردّد اسم الله على ما حُرّم من غير حق.. فكانت تمسك بتلابيب خلاص تأخّر. لم يتيسّر لهم دفنه فترك قصيدة رثاء لليلة أخرى مقمرة… يقال: ثلاثة ورابعهم الموت، أو أكثر وسابعهم الألم واجتباهم الحقّ بينما النصر يبسط ذراعيه على وصيد جهادهم، لكنّ رجلا من بين المتسائلين قال: لنتخذنّ عليهم مسجداً…
في هذا النص تتناغم المشاعر الإنسانية الأمل بالنجاة، مع القلق للمصير المؤلم الذي ينتظرهم، كما يظهر الأثر القرآني في معظم مفردات النص، لمجموعة مقاتلين أحبوا وطنهم، وتمنوا أن يكون مصيرهم كمصير أهل الكهف الذين ناموا سنين طويلة، واستيقظوا ليجدوا ستار الظلم قد انزاح من زمان، ولكنهم لم يستمتعوا بالنصر.. إذ باغتتهم المنية في كهفهم..
***
غسان حورانية وأبو شاكوش…
في دمشق الياسمين ولد الكاتب والروائي المبدع غسان محمد منذر حورانية (9/1/1972)، حيث درس وتعلم في مدارسها وجامعاتها، وهو
حاصل على شهادة تأهيل اعلامي، في فن كتابة السيناريو والحوار التلفزيوني والسينمائي والمسرحي، من معهد دراما أكاديمي بدمشق.
شهادة تقدير وجائزة “best talent” من الجامعة السورية الخاصة لأفضل عرض مسرحي جامعي، وهو عضو في جمعية القصة والرواية، له العديد من المؤلفات الأدبية، والقصصية، منها : (“القناع”، “القط أكل عشائي”، “الروائي المهاجر). كما له اسكتيشات مسرحية بعنوان الموظف والأميرة.. تم عرضها على مسرح الجامعة السورية. مشاركة في تأليف كتاب ” إيران كما شاهدناها ” صدر عام 2019 عن دار كنانة. ومشاركة في المسلسل الكوميدي “جاري الانتظار” عُرِضَ على الفضائية السورية. القصة والسيناريو والحوار للفيلم السينمائي “الضياع” بالتعاون مع المخرج خميس المجدلاوية. مشاركة في المسلسل الكوميدي “تكات لايت” بالتعاون مع الفنّان رضوان القنطار. والعديد من الأعمال قيد الطبع. من مشاركته نقتبس: [اندفع صديقنا في ذلك اليوم كالريح العاصفة وبيده شاكوش كبير للدفاع عن أحد الرفاق، عندما اعترضه أحدُ المشاكسينَ “الزعران” في حيّنا، فما كان من ذلك الشابُ الا اللوذ بالفرار إلى غير رجعه، ولم نعد نراه بعدئذٍ إلا عابراً للسبيل.. فاكتسب صاحبُنا منذ ذلك الحين لقب أبي شاكوش ملازمةً! عندما أطلقنا عليه هذا اللقبَ لم نكن نعرف بأنه سيلازمُه طيلةَ حياته، بل لم نكن نعلمُ بأن هذا اللقبَ سوف يعرضُه، ويعرضُنا معه يوماً ما لأمورٍ قد لا تحمدُ عقباها.. أما أبو شاكوش، فقد فعل هذا اللقبُ فعلهُ في نفسه، فكان على ما يبدو يروقُ له أن يحملَ صفة حامي الحمى في هذه الشلة، وإذا أردتم الحقيقةَ فإنه لم يكن مؤهلاً كما يجب لحملِ عبءَ هذا الدورِ الذي يحتاجُ إلى امكانياتٍ بدنيةٍ لم تكن متوفرةً لديه على الوجه الأكمل.. أما معنوياً فقد كان مقداماً، وذا قلبٍ شجاعٍ، وعاطفةٍ جيّاشةٍ نبيلة، وكان مستعداً دائماً للتضحية لحماية رفاقه.. علماً بأننا جميعاً كنا منقادينَ لما اكتسبناه في بيئتنا المحلية من تربية أسرية منحتنا طباعاً هادئة مسالمة، جعلت من أبي شاكوش متميزاً عنا بعض الشيء.. باندفاعه وصلابته. منذ ذلك الحين أصبح كلُ العبءِ في قيادة الشلة ملقىً على أبي شاكوش فأخذنا نحمِّلهُ ما يطيقُ وما لا يطيق، وأصبحنا نزجُّ به في مشاحنات ومماحكات لم يكن له باعٌ فيها قَبْلَ حادثةِ “الشاكوش”.. وخاصةً مع “القبضايات المتعنترين” الذين كانوا يملؤون حيِّنا في ذلك الحين، ومع مرور الأيام أصبح صديقنا وبشكلٍ تلقائي مثالاً ورمزاً للشجاعة والبطولة، نلوذُ به، وننضويَ تحت جناحه، ونرمي على عاتقه كلَ ما يعترضُنا من مشكلات وعقبات.. مما زاده ثقةً في النفس منحته اصراراً للمضي بمعنوياتٍ عالية، ركبنا موجتَها لأبعدِ الحدود.. فكنا إذا ذهبنا إلى بعض المطاعم في المصايف، لا نترددُ بالطلب منَ “النادل” إعادةَ حسابِ الفاتورة عندما نجدُ مبالغةً في قيمتها، أو تغييرَ الطعامِ برمَّته إن وجدنا فيه عيباً.. أو حتى الامتناعَ عن دفع قيمةَ الطلبِ في حالِ كان الطعامُ لا يرتقي لأذواقِ بعضِنا.. وكنا نركنُ سيارتَنا بالمكان الذي نريده، من دون أي مراعاةٍ لأحد، أو الالتفاتِ لما يقول، بالإضافةِ إلى تصرفاتٍ عدة تدلُ على اعتدادِنا بأنفسِنا، وعدمِ اكتراثِنا بالعواقب. مع مرور الأيامِ بدأَ يخامرُنا شعورٌ بالخوفِ منَ المجهول، ولم تعد محاولاتُنا تُجدي في تهدئة صاحبَنا، وثنيهِ عن بعضِ تصرفاته التي انتقل بها من مرحلة الدفاع عن الخطأ، إلى مرحلة ذاتيةٍ، بات يندفعُ خلالها إلى نصرة من يراه هو على حق.. ولم يعد لاندفاعهِ ما يبرره.. وكم كنا نتمنى في هذه الحال لو أنه توقف عند الحدودِ التي رسمناها له، ولكن لا فائدةَ من ذلك، إذ إنَ درهَمَ مالٍ يحتاجُ إلى قنطارِ عقل كما يقال، كذلك درهمُ قوةٍ يحتاج إلى الكثير من الرويّة والحكمة والتدبير. ولتجنبَ الإطالةِ أروي لكم آخرَ ما حدثَ معنا في هذا المجال، فقد كان من عادتنا في عطلة نهايةِ الأسبوع أن نقضيَ الليلَ في إحدى مقاهي مصيفِ بلودان، ملتقى الشبابِ والأحباب.. وقبلةُ العشاقِ والحالمين.. في ثمانيناتِ القرن الماضي، لقضاءِ سهرةً من سهراتِنا المعتادة في فندق بلودان الكبير، وكنا نعدُ الدقائق للوصول إلى هذا المكانِ الذي تهفو إليه الأرواحُ، حيث تنتظرنا سهرةٌ عامرةٌ مع باقي أفرادِ الشلة، وقد كنتُ أقودُ سيارتي ومعيَ أربعةٌ من الرفاق، وكان “أبو شاكوش” كعادته يتصدَّرُ المقعدَ الأمامي. كنا نغني بشكل جماعي، ونمرحُ ونتبادلُ النكت، وعندما وصلنا إلى المنعطف الأخير الذي يؤدي إلى ساحة (فندق عقل) تجاوزتني سيارةٌ بسرعةٍ خاطفة، كدت خلالها أفقدُ السيطرةَ على مقود القيادة! مما جعلنا نصيح جميعاً بصوت واحد: يا لطيف!! أما صديقُنا أبو شاكوش، فقد امتدَ بنصفه الأعلى من النافذة، وأخذ يكيلُ الشتائمَ بصوتٍ عالٍ نحو تلك السيارة التي توقفت على يمين الشارع، فامتدت يدُ أبي شاكوش نحو المقود وأجبرني على الوقوف خلفَها، ولم تفلح كلُ محاولاتِنا في ثنيهِ عن النزولِ من السيارة، فاندفعَ باتجاه سائقِها كالسهم، بعدما طلب منا اللحاقَ به لنشاهده وهو يؤدبُ ذلك الوغد على حد تعبيره. اندفع الجميعُ خلفَ أبي شاكوش، وكنتُ آخرُهم، حتى إذا كان بإزاء نافذة السائق توقف بشكل مفاجئ، وتجمَّد مكانه، وكأنه مسمارٌ دُقَ في الصخر، نظر أمامه فإذا هو وجهاً لوجهٍ مع عملاقٍ ذي رأسٍ كبير، ترزحُ تحتُه رقبةً عريضةً يحملُها كتفان منتصبان ككرتي البولينغ الفولاذيتين.. مد الرجلُ نحو وجهِ أبي شاكوش يداً لا تشبهُ كلَ الأيدي العادية التي أعرفها، بل كانت أقربُ ما تكونُ إلى جذع شجرة سنديان انتفخت حولها الشرايينُ من كل جانب.. وسألهُ بصوت كهزيمِ الرعد: ماذا تريد؟ لم ينبس أبو شاكوش ببنت شفة، وكأنما اعتقل لسانُه في حلقه، فلم يعد قادراً على تحريكِه، وبقيَ متسمراً مكانَه لا يتزحزح، فعاود الرجلُ السؤالَ بنبرة أعلى جعلتْ الرفاقَ يتراجعون القَهقَرى إلى السيارة، وكنت أولَهم.. وفي هذه اللحظة حانت من أبي شاكوش التفاتةٌ إلى الوراء فلم يجد أحداً خلفَه، فعرفَ أنه قد أصبح وحيداً وعلى أبواب مواجهةٍ لن تكونَ متكافئةً بأي حال من الأحوال.. فقد كانت نظرةً واحدةً إلى ذلك الرجلِ الذي كانت العضلاتُ تتراقصُ على عضديه وساعديه بنزق وكأنها تستعد هي الأخرى للانقضاض.. كفيلة بإلغاءِ أي نية أو تفكير في المواجهة. حركتُ السيارةَ ببطءٍ نحو سيارة الرجل، متيحاً لأبي شاكوش الفرصةَ للفرارِ إذا لزمَ الأمر.. وتوقفتُ بجانب نافذته تماماً.. بشكل أتاح لنا رؤيةَ أبي شاكوش ينحني بإجلالٍ وهو يرتجفُ نحو الرجلِ العملاقِ وهو يتمتمُ قائلاً: كلُ ما أريدُه منك قُبلةً من شاربيك، طبعَها أبو شاكوش عميقةً على خدِ الرجلِ، وانطلق نحونا (بخُطىً متثاقلة) وكأنَ رجليهِ لم تعد قادرةً على حمل هيكله، لينسلَ هذهِ المرةِ من البابِ الخلفي للسيارة، ثم انطلقنا بعدَ أنْ رمَقَنا الرجلُ بنظرة وانطلق نحونا (بخُطىً متثاقلة) وكأنَ رجليهِ لم تعد قادرةً على حمل هيكله، لينسلَ هذهِ المرةِ من البابِ الخلفي للسيارة، ثم انطلقنا بعدَ أنْ رمَقَنا الرجلُ بنظرة لا تخلو من المكر والخبث والسخرية.. لنطلقَ جميعاً ضحكةً عاليةً مجلجلة، هزت مشاعرَنا من الأعماق.
نجا صديقُنا من هذا الموقف بأعجوبة.. ولكنه لم ينج من سياط ألسنتِنا حتى الآن، فما زِلنا كلما دقَ الكوزُ بالجرةِ نلومه على تركِهِ الرجلَ دونَ تأديب، ونتهمُهُ بالجُبنِ والتخاذل، وعلى الرغم من أن هذه الحادثة سلبت صديقَنا صفةَ القبضاي التي تنازل عنها مضطراً من تلقاء نفسه، إلا أنها لم تفقده لقبَ أبي شاكوش الذي ما زلنا ندعوه به إلى يومِنا هذا…
**
وفي نهاية الفعالية قام بالمداخلة السادة: (هيلانة عطا الله، صبحي سعيد، د.إبراهيم زعرور، أ.أيمن الحسن)
واختتمت الفعالية بشكر الحضور على مواظبتهم واهتمامهم بما يقام في فرع دمشق من فعاليات.
#سفيربرس _ ماجدة البدر