ملوك الخفاء أم ملوك السحر في رواية ( أنطاكية وملوك الخفاء)..للكاتبة : لينا هويان الحس
# سفير برس -خاص

لعل قارئ هذه الرواية الملحمية عن خرافات الشمال السوري سيخرج من عوالمها وهو مأخوذ بحكايات حكّاءة الرواية ” مريم الهدهدية” الصابئية والطبيبة التي ترافقنا منذ الصفحات الأولى بدءًا من المعركة الاسطورية التي تنشب بين ملكة انطاكية الخفية ” تيخا” التي تتصدى لنهر العاصي المتمرد وترغمه على أن يصب في البحر، انتهاءا باللحظة التي ينتقم فيها العاشق الصامت من المرأة التي صدته بعناد نهر العاصي.
تبدأ الفتنة مع النص الافتتاحي في هذه الرواية المجبولة بمسك الحكاية، والتي نالت رضى ودهشة القرّاء عبر وسائل السوشيال ميديا وبمجرد صدور الرواية نقرأ اقتباسات واختيارات لجمل وعبارات توقف عندها القارئ.
يضعنا قلم لينا هويان الحسن هذه المرة على أرض سوريا الخرافية والميثولوجية من خلال ثلاثة حضورات خرافية لأم النسور “تيخا” وسيدة الحب “عشيرة” ومعلّم النسيان “باخوس.” تروي لنا مربم التي هي ابنة عرّاف شهير قُتل أو اختفى في طروفٍ غامضة بسبب نبوءة تتعلق بانتهاء حكم سلاطين آل عثمان بينما هربت مريم وعاشت متخفية في ريف انطاكية حيث يتحكم أحد الباشوات وسلالته بمصائر الجميع، وتفتننا الهدهدية وهي تحكي لنا عن القصر الذي بني على تلّة تحمل اسم عشيرة وتلك التلة شهدت لقاء الاله شام وعشيرة وبسبب اللقاء الغرامي الالهي تفجرت الينابيع وتشكلت الجبال والوديان وتقول لنا الكاتبة بصراحة أن كل جمال هذا العالم سببه الحبّ الكوني.
الرمزية واضحة في معركة الذكورة المتمثلة بالنهر العاصي والأنوثة المتحكمة والمسيطرة التي تجبر النهر على تغيير مجراه فيمتثل ولكن مياهه تحمل حسًّا انتقاميًا تجاه النساء. فنجده حاضرًا ليلعب دورًا دراماتيكيا في اللحظة المناسبة ويزهق حياة امرأة.
يمكن اعتبار رواية انطاكية وملوك الخفاء “رواية المرأة المنتصرة”. ويمكن اعتبارها “رواية تاريخية” بسبب التدفق المنساب من معلومات وأخبار مجهولة تماما للقارئ عن تاريخ الشمال السوري. كذلك يمكن اعتبارها رواية عشق بسبب الحب المتفجر بين أبطال منقادين لعواطفهم. مثل عشق فهرية لكيوان وغرام سيزار بفهرية والحب المكبوت من قبل عوني لفهرية، تعارك ثلاثة رجال حول فهوية ليفقدوها أخيرًا، وهنالك روزا الضحية، والمرأة التركمانية والدة فجر الفقيرة التي تعثر على مكان لائق لها في النصف الثاني من الرواية بسبب الفطنة التي يربيها الفقر في نفوس أبنائه، وهنالك أخيرًا المرأة التي لا تُنسى “عدوية زيغول” الملقبة ب ” دادا” المرأة الصيادة والعابثة والحرّة التي تفعل كل ما تريد وتنفذ مآربها دون أن تحسب حساب أحد ولا عجب أن تربطها الكاتبة رمزيًا با الأفعى الضخمة التي تعيش في قلعة بغراس وتقدم لها النسوة قرابينًا سرية.
سبق وأن قدمت لنا لينا هويان الحسن العالم البدوي لأوّل مرّة في الأدب السوري في عدّة أعمال بدأتها مع رواية بنات نعش وتوجتها برائعتها سلطانات الرمل وبعد ذلك أنجزت انعطافة ابداعية مباغتة ومفاجئة ومختلفة عن عالم النساء الشاميات بدأتها مع نازك خانم عارضة الأزياء الغريبة والمتمردة التي عاشت في باريس، لنتعرّف على طراز إنثوي فريد دون أن تقع في مطب “النسوية” الفجّة. ونسليهان بنت الباشا التي تروي سيرة أوّل سيدة قادت السيارة في سوريا وتوجت ابداعاتها عن دمشق برواية ألماس ونساء التي كانت أول عمل سوري يتكلم عن المهجر السوري الثري بالحكايات وكانت الرواية في القائمة القصيرة لجائزة بوكرمان العالمية بنسختها العربية، ومع روايتها التي حملت عنوانًا ملفتًا وغير مألوف:( ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلّا) شرّعت لنا تاريخ مدينة حلب المتنوع لتطلعنا على علاقات الغرباء الذين هجروا أوطانهم بسبب الهوية والدين واستقبلتهم حلب المدينة التاريخية التي ذكرها شكسبير مرتين في أعماله. والتي شكّل سكانها لوحة بازيليك نادرة للتنوع والتعايش، ومع رواية أنطاكية وملوك الخفاء نكون وجهًا لوجه مع تاريخ عاصمة سوريا القديمة انطاكية بكامل زخمها التاريخي والاسطوري لترسم لنا ملامح الجزء المسلوخ من بدن سوريا نتيجة صفقة استعمارية.
رواية انطاكية هي سيرة شرسة لنساء لا نعثر عليهن إلّا في روايات “هويان” قويات وجريئات وماكرات جعلت أحايلهن ” التشويق” ميزة أساسية في نص “سحري” الطابع.
عودة للرواية، قلنا يمكن اعتبارها رواية تاريخية اذا نظرنا للسرد القصصي الذي يدور حول أحداث تاريخية حصلت فعلًا في زمن ما، وبدت الرواية محاولة جادة لإحياء بعض الشخصيات التاريخية من خلال أشخاص خيالين أو حقيقين أو المزج بينهما معًا. زخم المعلومات الموظف على نحو حكائي ومدروس وموفق بقلم الكاتبة التي ذكرت في أحد حواراتها أنّ: ( الأدب هو الابن المدلل للذاكرة) يمنح القارئ جرعة معرفية وتاريخية ترسخ في ذهنه بسبب تقنية تمريرها عبر ثنايا النص.
العشق والموت في أنطاكية
أبدأ من إحدى عبارات الكاتبة المنشورة:( الحبّ هو الابن البار للخيانات) يمكن اعتبارها عنوانًا عريضًا لمجمل العلاقات العاطفية في الرواية اذا اعتبرنا أن قصر عائلة الباشا “منجوك” بنّي على تلّة مفخخة بالعشق المرفوض من قبل حاكمة انطاكية الخرافية الملقبة بأمّ النسور وكأنها هي من تحرّك مغزل الانتقام بهدوء وبراعة فائقين.
تطرح الكاتبة وجهة نظر غير معتادة وجريئة فيما يتعلق بالنساء وشهواتهن المتفجرة والمتدفقة على نحو موار لتدفق نهر العاصي الذكر العنيد والذي يلعب دوره كما لو أنّه ينفذ نوايا الرجال وينتقم لهم من نساء متملصات من سيطرة الذكور رغم أن المجتمع كله في صفّ الرجل لكن كما معظم نساء ( هويان) غالبًا تحقق النساء مآربهن بفضل الذكاء وحبّ النفس والاصرار.
مريانا مرّاش وحلب الثقافة:
لا عجب أن نكتشف في الصفحات الأخيرة سرّ تميز سيدة غامضة تلقب ب “الزنبق” تدير فندقا في انطاكية نكتشف أنها يهودية هاربة مع مسلم حلبي واستطاعت مواجهة الحياة بذكاء بفضل نشأتها في صالون مريانا مرّاش حيث كانت ابنة عائلة طوطح تعزف القانون قبل أن تهرب من حلب لأجل الحب.
إضافة لدهشتنا بعوالم انطاكية وريفها وقلاعها وغاباتها ومدارسها كذلك تضعنا الكاتبة في الجو الثقافي الرائد آنذاك في مدينة حلب التي تنتقل إليها عائلة منجوك بعد انسلاخ لواء اسكندرون ومرة أخرى يلوذ من تبقى من العائلة البرجوازية في مدينة بيروت هربًا من شبح التأميم.
كذلك نعرف لأوّل مرّة عن القوانين التركية الأتاتوركية الجائرة التي صدرت لنهب ممتلكات الأقليات من مسيحيين ويهود فنتعاطف مع سيزار الفايز الذي يسلب مزرعته ويُرغم على العمل بالسخرة في المحاجر مع آلاف المحكومين بالعمل الشاق بسبب الانتماء الديني وحسب.
في كل صفحة تكاد تمرر لنا “هويان” معلومة عن ماضينا المنسي، والمؤلم، وثمّة استشراف اسطوري بين السطور للمستقبل، فالرواية تُنسج من حرير تاريخنا العظيم.
# خاص سفير برس