إعلان
إعلان

” نداء لصباحات بعيدة ..سردٌ بلغة الشعر ” للشاعر طلال الغوّار .. بقلم : منذر يحيى عيسى

#سفيربرس

إعلان

هل يستطيع الشاعرُ الفكاكَ من الشّعر عندما يكتبُ في أجناسٍ أدبية أخرى؟
هذا هو السؤال الذي واجهني وأنا أستلم نسخة هديتي من منجز الشاعر طلال الغوّار /نداء لصباحات بعيدة/وهو كتابٌ سرديّ صدر مؤخراً، كأنه روايةٌ بعناوين فرعية على شكل قصصٌ قصيرةٌ مترابطة ضمن السياق ومن الناحيةِ الفنية نلاحظ عناصر الرواية /الزمان والمكان والسرد/وهو بطل الرواية واشارات لبعض الأشخاص.
بعد الانتهاء من القراءة والمتعة التي رافقتني أستطيعُ الإجابةَ عن السُّؤال أعلاه أنّ الشعرَ قدرُ الشاعرِ ولا حيلةَ لهُ بالهروبِ إلى جنسٍ أدبي آخر.
طلال الغوار شاعرٌ، كتبَ وأستطيعُ القولَ /سيرةً ذاتيةً/ بلغةِ الشعرِ، نحنُ من جيلٍ واحدٍ ولكن من بلدين متشابهينِ في أقدارهما، جيلُ الأحلامِ والطموحِ والانفعالاتِ والانشغالِ بالهّمِ الوطنيّ والقوميّ وبناءِ الذاتِ، والخروج من جحيم واقعٍ متخلف،
جيلٌ كنا فيه وقوداً لمن سبقنا، وعندما وصلوا تمسّكوا بأماكنهم حتى النهاية وبقينا نحترقُ وقوداً لتلكَ الأحلامِ وثمناً لمواقعهم، وبقينا ننتظرُ لنفاجأَ بأن الكهولةَ بدأتْ تُعلنُ مظاهرَها على أجسادنا التي أنهكها تعبُ السنينِ فقالوا لنا: دوركم انتهى، وحانَ دورُ الشبابِ، حتّى أنّ الشّجرةَ دخلتْ زمنَ قحطها ويباسها، ولا ثمارَ تُرتجى، وما بقي من الثّمارِ غزاهُ عفنُ الفسادِ.
سقطت الإيديولوجيات، وساد فكْر غيبيٌّ عاد بقوةٍ ليؤكدَ لنا حقيقةَ خيبتنا، ومرارةَ خديعتنا، وكذبَ مَنْ رأينا فيهم القدوةَ والمثال، فكانوا نموذج لفزاعةِ طيورٍ زائفة.
طلال الغوار وأنا وجيلُنا كلّه، بدأَ الحنينَ إلى زمنِ الأحلامِ يراودنا بعد صدمةِ الخديعة والسقوط المريع لتطبيق ما حلمنا به، وناورنا كثيراً للوصول إليه، ولكنه راوغنا كسرابٍ فأنهكنا الزّمن وخزلنا الجسدُ، فكان لا بد لنا ونحن الحالمين من خلق زمنٍ على هوانا، أو أن نعودَ إلى زمن البراءة ومخازن الذاكرة وفضاءاتها، كتاجرٍ مفلس يعود للبحثِ في دفاتره القديمةِ.
قبل أن أغوصَ مع صديقي طلال الغوّار في سيرته أو سيرة جيلنا، أستطيع القول: أنّه وفي هذه النداءات قد كتب عن طلال الغوار أولاً وعنّي أنا وعن أبناءِ جيلنا الذي أجرؤ على تسميته جيل الخيبات والهزائم، ورغم ذلك فإن طلالَ قد كتب بروح طفل لم ينكسر لا يزالُ يحلمُ أنّ باستطاعةِ أصابعهِ أن تلامس النجومَ وتقطفها ساعة يشاءْ، هي وفق ما أرى وما أشعر به حين أكتبُ مثله هي حالةُ نكوصٍ إلى زمنِ البراءةِ، أو حنين إلى نشأة الدفء والأمان المنشودِ بعدَ أنْ أصبح الحلم ترفاً في زمن سقوط كلِّ الأحلام، وضغط الزمن الذي أصبح خلفنا شئنا أم أبينا.
يبدأُ سرديَته بعنوانٍ صادمٍ /الكرسيّ/ محاولاً وبرمزية وضعه في مكانٍ هامٍ من أساس البيت أو الوطن أو أساس المكاتب، وربط به شخصية من خُصّصَ له وحسبَ مرتبته، وقد يندمجان، وبعد ترك الكرسي قد يكون السقوط مريعاً، رغم أن ما بُذل للجلوس غالياً وقد كان ويكونُ الثمنُ دمَ أبرياء.
وليس الكرسيّ دائماً للتسلّط والغرور، فقد يكون حسب مكانه لأشياء أخرى كالتأمّلِ والاندماج مع الطبيعة والتحليق في سمواتٍ بعيدة، كما قد يَخْلُقُ ألفةً مع المكان، ومن كرسيّه الذي أنسنهُ استطاع العودة خمسين عاماً إلى طفولة تشكلُ له ولنا المنبع والملهم الذي لا ينضبُ وسيكون زادنا حتى الموت.
طلال الغوار الطفلُ الكبير الحالم لا بدَّ أنْ تكون بداية ذاكرته ومفتاحُ ذكرياتهِ، مكان الولادة وبيت الطين، وطين الطرقات ودفء الأنفاس والنشأة الأولى، ذكّرني عنوانه الفرعي/ بيتنا الطيني/ بومضة قلتها ذات حنين:
طينُ قريتي
المشبعُ بالَّلذةِ واللُّزوجةِ والغبارْ
لمّا يزلْ عالقاً على حوّافِ
الروحْ..
أجمعُ أجزائي وأثر القبلة المستحيلةِ
وأعدو..
أعدو.. لملاقاةِ شمسٍ
تنهضُ من سرير نهرٍ
لتحْلقَ في حزنهِ النهار…/
ولهذا الطّفل الصّديق أُهديها، وهو يصفُ بدقّةِ معمارٍ ذلك البيت الذي يشكل الرحمَ الثاني، وتشتعل جمرات الذكرى بمجرد العودة إلى القرية والولوج في سراديب الذكريات يقول: “رأيت الطفل الذي كنتُه يخرجُ من بين أصابعي ويبتكر طرقاته بين الأعشاب والنباتات البرية وعلى حافات السواقي، فيما الأشجار تواكب خطواتِهِ وتحفه بغنائها الأخضر على طوال الطريق” هل من شعر أسمى من هذا السرد والتعبير والصور المبتكرة؟!
يا صديقي طلال أنا معك في تلك اللحظات وأقول:
للأمكنة ذاكرتها
وقد تبوحُ بأسرارِ
من عبروا..
موجعةٌ تلكَ اللحظات وقاسيةُ على قلب شاعر
بوصف رائع للصّداقة مع الشجرة وأصواتِ الطيور يوّصّف لحظاتٍ من الحميمية بين أغصانها، والأروع أن ينصبَ فخاخا لاصطياد الشمس، أو أن يستدعي الشمس لتجلس في حضنه على حافة النهر كي يمشط شعرها.
للهِ درك يا طلال كيف كنت ترعى الأغنام والطرقات والسواقي وتتأبّط النهر مع الصّباحات؟! كيف؟! ولماذا كنت تتعب الضّفاف التي ترافق سيرك؟!
أقول لك يا شاعري الجميل!
في فضاءٍ من عبقِ الطفولةِ
ورائحةِ الأرضِ
خافقةً تحلّقُ الروحُ بجناحينِ
من وردٍ وكلامْ..
وتهيمُ في سماءٍ تستحم بزرقةِ المدى
فيوشحّها الغمام..
وقد ذكرتني بعلاقةٍ كانت لي مع شجرة قرب بيتنا في فسحةٍ تشّكل استراحةً للمتعبين:
“شجرة تينَ خالدة في الذاكرةِ
(السلطانية) كانت تُدعى..
أذكرها مثل حضنِ أمٍ حنون..
كنّا تحت أفيائها تتكورُ
وتحملنا أغصانُها الملساءُ
وفي البالِ تبقى حضناً وكفاً طافحاً
بالخير
يا لتلكَ الأيّام يا صديقي وأنت تبحثُ عن طائرِ الأحلام واتجاهاته فكلّها تقود إلى جهات القرية، ستعودُ تلك الأيام إلى محاريب الذكرى وأقانيمِ الذاكرة، فكم اشتعلنا لنضيء لحظتنا العابرة، وكلّ الذين عبروا هم حرّاسها، اليقظون في خدرها ليسألوا وهم في الغياب كم اشتعل شوقُ الكلام!؟ وأنا أؤكد معك بالقول كاد الحنين أن يكون إنساناً.
ولا ينسى الشاعر (نهر دجلةَ) وهو سرّ وجود قريته ورمزها وروحها واصفاً حالته وتغيّر شكله ولونه في الربيع مندفعاً غاضباً جارفاً بعض جيران ضفافه من الأشجار والنباتات مؤكّداً أنّ الحياة هي مثل نهرٍ يجري وبصخبه يؤكد استمرار الحياة، هل يستطيع من عاش على ضفافه نسيانَ تلك التغيرات على المسار؟!
تباعدت البيوت وترافق ذلك مع تغير العلاقات الاجتماعية وتغير كل شيء ورسمت للحياة والطبيعة ملامح أخرى، وتتبدَى لشاعرنا ملامح أشجار الصفصاف العارية التي تستحم بعيداً عن أعين الناس في خفر لذيذٍ ولكن هل للضفاف ذاكرة؟!
ولماذا يقسو النهر على الطفولة ويأخذ (ليلى) وهي غصنٌ يتدلّى من ذاكرة الطفولة، ماذا تقول رسائل النهر للضفاف؟! وهل للماء لغة؟ وبشاعرية يتساءل هل الضّفاف مقبرةُ الأمواج أم بيتها؟ برؤية الشاعر يؤكد ان الشاطئ بيت ومنه تولد الأمواج مرة أخرى.
بحنين موجع لنا وله يسترجع وجه أبيه وهو يحرث الأرض في موسم زراعة القمح واصفاً قامته وملامحهُ، وهو الذي اعتاد رؤيته في لباس مدني مختلف كونه كان موظفاً حكومياً، وقد عاد إلى القرية بعد أن كان مثار الإعجاب والدّهشة، وهو الحالم ولكن بواقعٍ آخر وطريقٍ يقود إلى ضفاف أخرى، وتترائ عليها ملامح الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية.
وبجمال آسر يصف ليلةً على بيدر القمح ورؤيا تظهر فيها نجمةُ تتلألأ على جبين والده، بشفافية وسمو روح الشاعر يصف ظلال الغوار مرافقة والده وشغف الوالد في رؤيته وهو يسير خلفه ويتّبع خطواته وكان كطفل شاعر يرى والده ملاكاً وحالماً وشاعراً.
وهو المعتقل السياسي 1959 في عيد العمال العالمي. وعاد فلاحاً إلى القرية بعد انكسار أحلامه، وطفق يرسم أحلاماً جديدة تخصُّ امتداده، تخصّ طلال الطفل الذي غدت المدرسة موئل أحلامه القادمة. وقد غدت خيباتهُ أغصاناً يابسة، لكنه جعل من الأحلام عكازاً للصباحات.
يؤكد طلال استمرار حياة والدهِ برؤية الشاعر.
وتثير الطرقات في نفس الشاعر إيحاءات عديدةً أبرزها الاكتشاف ولها رؤية حسيّة ماديّة وهي تثير مشاعر مختلفة من البهجة أو الضّجر وهو يرى أن الطرقات قصائد.
ولهذه الطرقات حكايات مع الفلاحين المتعبين وغناء العشاق. مستذكراً نصيحة والده بابتكار طرقات جديدة. وبشعرية يستعرض جمال السير تحت المطر في الطرقات وأنا أقول له:
/أنْ تسيرَ تحت المطر
يعني أنكَ تُعيدُ التوازنَ المفقودَ
بداخلكْ..
يعني أن هناكَ بقعاً تحتاجُ
ماءً يعيدُ إليها نبضاً مفقوداً../
يستمر صديقي طلال بالتحليق في فضاءات الطفولة، عارضاً لحالاتٍ من العلاقة مع الأحياء الأخرى في الطبيعة، وهو يتقن الوصف ويستغرقه المكان.
ويبرز وجه /مريم/ طافياً على بحيرة الذكريات، مقعدٌ واحد في الابتدائية، والتوق الشديد إلى المدرسة التي تؤمّن اللقاء والعلاقة ضمن المدرسة وشعور المحبّة المتبادل وقساوة العطلة الصّيفية لتباعد البيوت في القرية أو لقاءُ مصادفة كلمح بصر لم يكتمل.
ومرض أيام، ومن ثم العودة إلى المدرسة وعتاب خجول حول اللقاء الذي لم يتم.
أتوقف هنا عند مشاعر الأطفال في تلك المرحلة هل هي التعلق أم الحب، أم حالة خاصة يعيشها ذوو النفوس الشاعرة؟
وبانتماء صادق لبيئته يصف بدقة إيقاعات الحياة في تلك البيئة: ولأن الليل صديق للعشاق والشعراء فكان له نصيبُ من استعادة ذاكرة شاعرنا الجميل مع إجراء مقارنة بين ليل الشتاء والصيف وحالات الليل المختلفة ووجه (مريم)، والأحلام، وغياب القمر يجعل الليل مرتعاً للمتطفلين واللصوص، والنجوم بنات الليل الجميلات وله شرفات عالية تّتكئ عليها العاشقات، وليل طلال الغوار الطفل صديقٌ يسهر معه ويأتي بقصائده ويذهب للنوم ليتركهُ وحيداً.
لك يا صديقي طلال أقول:
من حضن الشفقِ
أقطف نجمهْ
أودعها كأس الليل
أستدعي كل الخلان
طلال الغوار يتعلّقُ بالقمر ليلاً وكم رآهُ يسير حافياً فوق الأشجار وأسطح البيوت ليتركه نائماً حتى توقظه الشّمس صورٌ شعرية باذخة من خلال سردٍ باذخ.. لم يغفل شيئاً من التفاصيل فحتى شجيرات الورد كان لها حصّة وقد أنسنها على طريقة الشعراء.
للأمكنة ذاكرتها، يعود وهو على مشارف السبعين إلى مرحلة الانتقال من القرية إلى المدينة/ تكريت/ ويقارن الفضاءات المختلفة، واصفاً طبيعة المدينة والذكريات فيها. وتعب الناس وملامح الشقاء البادية على الوجوه، وبعضهم يتأبّط أحلامه ويمضي في طريق المستقبل، والآهات المنبعثة كنداءٍ مكتومٍ والتي تفتح ثقباً في جدار الروح، والتغيّرات التي طرأت والطرق المعبدة وأماكن الأثرياء الجدد وتسخير الجغرافية لمصالح أشخاص، والطفولة الهاربة مع انكسار الأحلام والغياب.
للمقاهي حصّة في سردية طلال، حيث يصف حياة المقهى /مقهى مرعي/ وخلفية القسمية ودالتها، والنهر الفاصل بين /تكريت/ وريفها جعل من المقهى مكان لقاءات وتجمعِ والمقهى كمكان مرتبط بالتحولات المختلفة وأبرزها السياسية وتشكل مجموعات داخلها وفق الاهتمامات السياسية أو الفكرية مستعرضاً وجوهاً من الأسماء الأدبية اللامعة في هذا المقهى استحال ركاماً وطوى معه تاريخاً بقي في الذاكرة وهي التي وقعت في الشبهات بسبب أفكار بعض الشباب الذين ارتادوها. وعناوين الكتب التي كانوا يحملونها بذهن الشباب المتوقد يسترجع الشاعر عناوين كتب رافقته، ومراقبة الأمن لذلك، والتقارير الكيدية، لكي يبقى تحت عباءة ما هو سائد، والخوف من الحرية، عجيب كيف آنسن المقهى، وكيف أضحى كصديق، وله معه ذكريات. يخطفه عالم الشعر الساحر والشعراء وتبدأ التجربة! وكيف تكتسي الكلمات العارية بأزهى الأثواب بفعل الكتابة وتتراقص كالعرائس وتنبض فيها الروح، وتشعُ بالضياء، وقد تفعل الكلمة فعل الرصاص.
وتبدأ رحلة الاكتشاف والتقصي في عوالم الأوزان والبحور وإطلاق تسميات مختلفة عليها متذكّراً أسماء الزّملاء من الشّعراء، مؤكداً الميل فيما يكتب إلى الوضوح، فبرأيه الغموض كهف معتم، والموروث وثقافة الماضي المهيمنة ليست مقدساً! هذا هو الشاعر طلال الغوار! وبدوري هنا أقول له بتساؤل ونحن من عانى وجع القصيدة:
/هل تستطيع القصيدة
التي تبرعمت في حناياها
وردة الشعر الضاحكهْ
أن تُعلنَ أشرعتها
مبحرةً
في وفاء نهرٍ
حالمةً ببحرٍ
واسع الضفاف
لا حدودَ لزرقته
ولا يُعرَفُ مدارٌ لنوارسهِ العاشقهْ؟!/
هل تستطيع القصيدة أن تُبلسمَ وجعَ الروح؟!
الشعر مهنة وجع القلب، القابل للتصدعِ أمام غمزة جفن، أو وجه أنثى يبرق ولو في الخيال!
وأتت ترى ما تراهُ بروحِ العصرِ أنّ الحداثة ليست تنكّراً للتراث وقد كان التراث يوماً معاصرة! إن النظرة والموقف من التجديد ومواكبة روح العصر هو نمط تفكيرٍ يتعلق بالشخصية وبنظرتها إلى الحياة وسننها والأبرز فيها التطور كحقيقة علمية.
عانى طلال الغوار من الهيمنة السياسية كما أبناء جيلنا جميعهم ورافقتها الهيمنة الثقافية وما زالت، ولكن روح التحدي قادت إلى الضفاف (الأفكار حدائق)، هكذا رأى.
ويرى الشاعر بحسّهِ النّقدي المرهف أن الكلمات عند الشاعر يجب أن تكون محمّلة بالرفض والجنون والحلم والفرح والحزن والألم فالكلمات تفرح وتحزن وتغضب، وتبتسم أحياناً،
حزينةً وقدْ فارقت معانيها القداسهْ؟
بعد هذا يا صديقي طبيعي جداً أن تشعرَ بالغربة في محيطكَ وحيداً مع قصائدك! ترافق دروبكَ أو تحلقُ معها في سموات عذاب.
هل يستطيع الشاعر المرهف أن ينسى أول خطواته في دروب العشق والسير على حافة الهاوية واللقاءات في المقبرة! ومشاعر تجتاحُ كيان الجسد عند اللقاء يعجز الطب عن تفسيرها، والسؤال هنا يا صديقي لماذا اخترت المقبرة مكاناً للقاءات عشقك؟! هل أردت أن تقول: أن الحب نقيض الموت؟ أم الخوف من أعين الرقيب قادتك إلى جوف المقبرة حيث عالم السكينة والأمان وحيث أن سكانها أكثر صدقاً وبراءة، وما أجملك وأنت تجيب على سؤالها: (أراك تنظر إليّ بدهشةٍ! ما الذي تراهُ؟ وجوابك: كنت أرى نفسي!
ومن حقك بعد هذا يا صديقي أن ترى عند الوداع سرب فراشات تنبجس من بين أصابعها ويلاحقُ أذيال الضوء الذي تركته خلفها الشمسُ وهي ذاهبة للمغيب.
وما أعظم شعورك في درب العودة والأشجار تتبع خطواتك بغناءٍ أخضر، فيما النجومُ تحطُ راقصةً على كتفك! ما أجملك من شاعر!
هل توافقني الرأي يا صديقي أن تجارب العشق الأولى في زمن البراءة تترك بصمتها خالدة على جدران القلب يعجز الزمن عن إزالتها وتكون نبعاً ثرّاً وعذباً لسيل الكلمات التي تتشكل في بيداء العمر القادم حدائق ورد وأغنيات؟! تعود لتطفو كالنيلوفر على سطح أوراقنا البيضاء، وتحلّقُ أسراب طيورٍ حالمةٍ تلك هي القصائد التي تبلسم وجع قلوبنا في منافينا البعيدة.
ما سرّ علاقة الشاعر بالشجرة التي ترافق خطواته بغناء أخضر؟! وما هي الأسرار التي يبوحُ بها للأغصان، وهل تشبه شقوقها الجراح التي حفرت عميقاً في الروح قبل الجسدِ؟
وما سرّ شغبنا في كتابة اسماء من نهوى على جذور الأشجار؟!
هل هي محاولة فعل للاندماج بالحياة وللتأكيد على أن الحبّ هو الحياة؟! ذكرتني بومضةٍ قلت فيها ذات وجد:
/حاذري
الشجرةُ الشاهدةُ
أباحتْ لزوّارها كلّهم
بأسرارنا..
لكنها تلعثمت بها
وساد صمت../
وأنت أيها الشاعر أعلنت صراحة انتماءك للشجرة، منتمياً بذلك للحياة ولاستمرار الخصوبة ووفرة العطاء، مؤكداً على الترابط بين الشعر والطبيعة، كما أعلنت صراحةً أنك جزءٌ من الأمكنة التي تركت بصمتها على مسار حياتك ومضيت متوكئاً على كلماتك تسترجعُ صدى أصواتٍ تحاولُ جمعها في أوعية القلب كمطر نادر لتحيي موات الجسد، فهل تفعلها القصيدة؟! أنا أفعل مثلك عندما تداهمني الهاجرة أقول:
/لأستريح من عنت الوقتِ
أطرقُ بابَ القصيدة..
يفاجئني اللوزُ
بطعم كأغنياتِ الجبالْ
ويُشرق الربيعُ
بساطاً موشّى بقصب الرؤيا../
يتطرق الشاعر المرهف طلال إلى العلاقة مع الوطن وهذا أمر طبيعي والشعراء أكثر الناس إدراكاً لأهمية الأمكنة والأحضان الدافئة فكيف بالأوطان وهم كالأطفال يبحثون عن جرعة حنان لأنّهم عجزوا عن مغادرة الطفولة.
ولكن المرارة تتجلى أن تقودك خطواتك إلى ظلام السجن تحت شعارات ترفعها أنت وتردّدها ولكنك تسجن تحت رايتها؟!
لم أستغرب انخراط الشاعر في الهمّ الوطني منذ المرحلة الابتدائية والأوطان تعاني من الانقلابات والتحولات، فأنا قد عايشت الأمر في بلدي وكانت السّياسة رغم طفولتنا تشدنا إلى عالمها ربما بسبب المعرفة المبكرة ورهافة المشاعر، والطريقة الأسهل هي الكتابة على الجدران والخوف من الملاحقة والمطاردة حدث هذا في العام 1963م ويمكن أن تكون بداية العمل السياسي. وأؤكّد رأي الشاعر في أن السلطة دائماً تجد نفسها على حق والحقيقة ملكها، والرؤية السياسية لدى هذه السلطة تفتقر إلى الثقافة وهذه حال كل السلطات، وهؤلاء هم سرّاق والمآثر الآخرين ومنتحلي بطولاتهم ليستأثروا بالحياة وبالتاريخ هذا العسق قاد شاعرنا إلى السجن وقضى عاماً في ظلامه، يستفيض بوصف معاناته وهو الشاعر المرهف مسترجعاً وصيّة والده والاهتمام بالدراسة، ولحظات لقاء مع العشيقة ونصيحة منها للابتعاد عن السياسة لأنه مراقب، ولكن؟!
البلاد عشيقة علنية للشاعر لا يخفي مشاعره نحوها ويجاهرُ بحبّها نعم يا صديقي سمة السياسة في بلدان العرب هي الاقصاء من أجل الاستئثار بالسلطة. مع ذلك تعال معي لنخاطب البلاد:
/أيتّها البلادُ المضرجةُ بعطرها
المستحمّةُ بزرقة بحرها والسماء
دعيني على كتفك أنزُفُ دمعتين
وأُعمّد روحي بطهرِ الترابِ
وأبديةِ الانتماءْ../
وتبدأُ الحربُ وتلقي بظلالها على المشهد العام والشاعر يراقب ما يحصل في الشوارع وعلى الوجوه، واستقبال الموت والشهداء كحالة طبيعية، وأؤكّد معك أن لا أحد يربحُ الحرب وحدها الغربان هي التي تسمن. ورغم أنه ضدّ الحرب فقد خاضها من منطلق أنه مواطن يخضع لقانون الخدمة العسكرية، فهو مع بلده وهي تخوض حرباً مع دولة أخرى. وقد استمرت الحرب طويلاً وتوقفت ولكنها لم تنته .
ولبغداد حصتها في نداءات طلال الغوار خصوصاً بعد عام 2003 والتغيّرات التي عصفت بها وغيرت الخطاب السياسي والمواقف وبدأـت روائح الطائفية تعبق بالمكان. وبغداد لم تعد في بغداد فصباحاتها مهشمة كما تمثال أبو جعفر المنصور والشوارع مقطّعة، وبغداد تسافر في جراحها، والحياة وهم والحدائق لم تعد خضراء..
وهنا يسترجع الشاعر أيام بغداد التنوع والتآلف والأخوة وثقافة التعاون والحب والإباء وعبق التاريخ والماضي..
كما يستعرض صوراً من ممارسة الأمريكان مع العراقيين، صور اليتامى وانتظار الغائبين، الجثث، ليل بغداد الحزين، وقد تحولت إلى جرح مفتوح، أسمح لي أن أقول:
هل ثمة من صغير
بعد هذي الحرب؟!
أيها الشعراءْ
لقد هربتْ الطفولةُ مع أشلائها
إلى مكان قصي..
وإذا ما عادتْ
متوكئةً على ذاكرتها
سيكونُ قد مضى زمنٌ
طويلٌ.. طويلْ
برؤيةِ ورؤيا الشاعر يؤكد طلال الغوار على أن العراق هو وطن وبلد للمواطنة وليس بلد مكونات كما ورد في الدستور هذا يعني بأن المحاصصة لهذه المكونات هي نظام الحكم رافضاً بحسّه الوطني هذا الدستور ورافضاً الانكفاء على الطائفة والمذهب والقبيلة والمنطقة والعرق، مؤكداً على أن الطائفية إلغاء للوطن والمواطنة..
هذه هي ديمقراطية أمريكا وتمزيق للعراق وانتماءات ضيقة نفسها كريه. وقد تم استبدال ما هو ثقافي بما هو ديني ولا صلة للثقافة بالسياسة.
يؤكد طلال الغوار برؤيته الدقيقة أن السياسيّ حالياً في العراق لا رؤيا سياسية له، ورؤيته تتحضر في كيفية تحقيق طموحه الخاص. ولا ديمقراطية والسّرقة والخطف والعنف وانتحال الصفات هي السائدة..
يروي حادثة خطف تعرضّ لها وخلق أجواء رعب وقد انكشفت هويتهم من خلال أغان تفوح منها رائحة الطائفية.
بعد دخوله في نفق مظلم وكيسٍ مظلم كما البلاد كلها أعادوهُ إلى مكانه بعد إعادتهم بطاقة اتحاد الأدباء وطلبوا بسخرية سماع شعر غزلي. أية سخرية هذه وأي قدر هذا؟!
يرى الشاعر أن الحياة أضحت متاهة يدور فيها المخادعون والسّاسة الملتحون والمعمّمون بروائح طائفية نتنة، والخوف هو سيد الموقف، وقد امتلأت الجدران بصور المعممين حتى الغناء أصبح مُنفّراً ولا يُلائم الذوق، يتساءل الشاعر بمرارة إزاء هذه الحالة هل المخرج هو تقديم سيجارة وابتسامة للجندي الأمريكي بدل البصاق بوجهه؟!
ولدمشق في سردية طلال الغوار وهو العاشق لها ولشوارعها القديمة وعبق الياسمين وزخرفة الأبواب، والجامع الأموي وجلال التاريخي، وقبر القائد صلاح الدين الأيوبي، هناك حيث يطلّ التاريخ وذكريات المدرسة ومدرس التاريخ..
وفي دمشق لا بدّ من استحضار الشعر، وبيت الشاعر نزار قباني العابق بالشعر وذكريات القراءات الشعرية الأولى، ومعاكسة الشعر لمنطق الأشياء، الشعر في كلّ مكان، ودمشق كما يرى تكتب القصائد، وبذكاء صنف الشعراء في علاقتهم مع الشعر، وهنا ذكرني صديقي طلال في تعاطيه مع الشعر بالومضة التالية لي ومني إليه: /الشعرُ أشواقُ الأرواحِ
في شجوها الشفيف
متى يشاءُ
يُحركُ جمرَ الذكرى
الثاوي تحت رمادِ وقتهِ..
الشعرُ
عزفُ الريح
على أغصانِ الشجرِ
لحظةُ انبهار
والشعرْ غناءُ الطيرِ
في هجرته
نحو زرقة الأحلامْ..
وتحرك صبايا دمشق جمر الذكرى وتشتعل القصيدة التي ترافق الشاعر في تجواله.
في لقاءات دمشق لا بد من حوارات حول الشعر والجمال وكيف سرق الربيعَ العربي صباحات البلاد وخلّف آثار جراح لا يستطيع الشاعر طلال وهو من رافقت طفولته السّياسة لا يستطيع الخلاص من الحديث عنها، وبلاده تعاني ما تعانيه من فوضى وخراب وعمائم ونفس طائفي. وهنا تنّحّتْ القصيدةُ مفسحةً المجال للواقعِ والحياة والناس.
الشاعر يفسح المجال السردي للقاءات تمّت في دمشق وهي تكرّس لوثوق العلاقة بين دمشق وبغداد عبر التاريخ وربما تكون الثقافة هي القاسم المشترك الأكثر حضوراً من السّياسة لقاءات ٌمع شعراء وأديبات، وصباحات لا تحلو إلاّ بالشعر وبعطر الياسمين، وبسحر جمال الوجوه والمعرش حتى على الجدران ولمدينة طرطوس حيّز من النداء الذي أطلقه طلال الغوار بدءاً من قريته على ضفاف دجلة، طرطوس الساحرة الجمال وطبيعتها العاشقة للشعر وجولته مع فنانين تشكيليين في تلك المناطق التي تفرض الشعر على الوجدان، فيكفي أن ترافق غابةً أو جزءً منها لتنهمر عليك القصيدة مطرا ًأخضراً وغناءً عذباً كمياه الينابيع.
هل تذكر يا طلال تلك الأمسية الشعريّة في مقر فرع اتحاد الكتاب العرب بطرطوس وقد حللت ضيفاً جميلاً وقدمتكَ حينها لجمهورك بمقطوعة لك سحرتني حين قراءتها تقول فيها:
/ذات الشعر الذهبي
اللماع
كلّ صباحٍ
تعبرُ نافذتي
زائغة النظراتِ
تقطف غصناً
من عمري
وتغيب../.. هل بقي يا طلال أغصان على شجرة عمرنا؟! كم كان لقاؤك مع جمهور طرطوس دافئاً وحميمياً وشاعرياً هل تذكر؟!
أقول يا صديقي وأنا أشعر بحزن غامض بعد انتهاء هذه الدراسة والسؤال الذي بدأت به، والجواب الذي تكوّن في النهاية أنك لم تستطع فكاكاً من الشعر رغم أنك لجأت إلى السرد، وقد أبدعتَ فيه كالشعر..
معكَ عدنا إلى طفولتك وطفولتنا المتشابهة ومراحل اليفاع والشباب وذروة الأحلام، وغامرنا في السياسة والحياة والشعر، والكثير من الأسئلة الوجودية.
مع طلال الغوار، لا تستطيع أن تجد مهرباً عند البدء بقراءة نصوصه إلاّ أن تسير معه في دروب ومسارات رحلة العمر وبشغف لا يقاوم..
صديقي يبدو ونحن أبناء جيل واحد، جيل الأحلام الكبيرة والتوق إلى المعرفة والانكسارات، وها نحن نمضي إلى الضفة الأخرى نحمل نثار ذكرياتنا والحنين إلى زمن عبر كومضة..
صديقي لقد أيقظ نداؤك الصباحات، وتبرعم الشجن والحنين على شجرة العمر ومن أزهار حدائقك وفكرك العروبي يضوعُ عطرٌ يدق بوابات القلوبْ..
-نداء لصباحات بعيدة – الشاعر طلال الغوار.
صادر عن دار الينابيع عام 2022م
يقع في 166 صفحة من القطع المتوسط اشتملت على ثمانية وثلاثون عنواناً.
-صدر له /9/ مؤلفات شعر وسرد
-كتب عنه أدباء ونقاد في /4/ مؤلفات
3-6-2023م

#سفيربرس _ بقلم  : منذر يحيى عيسى _رئيس فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب.

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *