الشاعرالعراقي عبد الرزاق عبد الواحد ورحلة مع الشعر أيام الزمن الجميل ..
#سفيربرس _ حاوره: زياد ميمان

كان لي حوار مع الشاعر العراقي الكبير الراحل عبد الرزاق عبد الواحد الذي التقيته في دمشق وكان لقائي به في مقهى طليطلة وقد نشرت عن هذا اللقاء بعد رحيله مقالة بعنوان في الطريق إلى طليطلة وقلت فيها:
في الطريق إلى طليطلة..حكاية لقاء مع الراحل عبد الرزاق عبد الواحد
طلبت أن أجري لقاء مع الشاعر العراقي الكبير الراحل عبد الرزاق عبد الواحد، عندما كان في دمشق ولما وافق على اللقاء لم تسعني الفرحة وخاصة أن اللقاء سيكون عن تجربته الشعرية والحياتية، اتصلت به كثيراً وساعدني بذلك الشاعر العراقي عمر عناز كونه كان سكرتير التحرير في وكالة أنباء الشعر، لم أوفق في وقت سابق ولم أحصل منه على موعد مؤكد لهذه المقابلة، التي كنت أعتبرها فريدة بالنسبة لي كصحفي يدخل غمار تجربة شعرية لشاعر فذ كهذا الرجل.
فقد كان كثير السفر، لكن لدمشق عنده مكانة خاصة ومنزلة مرموقة فلا يلبث أن يسافر حتى يعود إليها فلا يريد أن يتركها .
تمكنت أخيراً بعد طول انتظار أن أحظى بموعد ثابت فكان يوم الأربعاء الموافق ل 14 يناير 2009 ، توجهت من مقر سكني بريف دمشق من مدينة قارة وهي على بعد 100 كم عن دمشق وفي خلدي الكثير من الأفكار والكثير من الأسئلة لهذا الشاعر الكبير، وصلت إلى المكان الذي حدده لي، فقد اختاره بنفسه إنه مقهى طليلطة في منطقة المالكي بدمشق القريب من حديقة الجاحظ، انتظرته على باب المقهى الذي كان يعج المقهى بالرواد وأكثرهم من الأدباء والكتاب مشهورين وغيرهم، دخلت في رهبة وقلق كيف سأبدأ حديثي معه، كيف سأكسر الجليد بيني وبينه، وانا انتظر لاحت لي سمرته وبياض شعره يدخل من الباب، هب بعض الشعراء الشباب للسلام عليه، سلم عليهم بكل رحابة صدر وابتسامة لطيفة، واقتربت منه وعرفته عن نفسي، قال لي أهلاً بك تفضل ماذا تشرب، ونادى النادل وطلب لنا القهوة، عرفته بنفسي وعملي وسر كثيراً عندما علم بوجود وكالة للشعر، فقال ياه كم نحن بحاجة لإعلام متخصص في الأدب والشعر، بادرني الحديث هل أسئلتك طويلة قلت ولكنها متوقفة على قدر إجابات حضرتك، فبينما أحضر أوراقي وجهاز التسجيل عندي وهو يسلم برفع يده يميناً ويساراً على مرتادي المقهى وكأنهم أسرة واحدة الكل يعرفه والكل يرد على سلامه بحرارة
هذا مقهى طليطلة قال وأرتاده كثيراً لذلك تجد الكثير من زواره يعرفونني، فدمشق غالية علي وأنا قلت فيها قصيدة شكراً دمشق ربما سمعتها مني سابقاً.. أجل أجل سمعتها في مهرجان تكريمي أقيم لك مؤخراً ضمن فعالية دمشق عاصمة الثقافة العربية.
دمشق كانت تعج بالأمسيات والفعاليات والمهرجانات، قال نعم هذا صحيح فهي مدينة صاخبة أدبياً وثقافياً.
كان في خلدي وهو يتحدث عن دمشق الشاعر الكبير نزار قباني فكان صديقه وعاشا في بغداد فترة من الزمن فقلت في نفسي أي زمن عشته يا عبد الواحد وقد عشت أيام الزمن الجميل مع نزار والسياب وغيرهم، وها أنت اليوم في دمشق تعيش المنفى وتعيش مهرجاناتها وفعالياتها.. لقد قاطع أفكاري بسؤاله متى نبدأ صديقي قلت له بأي وقت تشاء، فقال فلنبد إذن..
وبدأت الأسئلة وهو يجيب عنها بسلاسة وتعمق بنفس الوقت، جاءه اتصال على الهاتف النقال فقال من بعد إذنك سأجيب لأنه من خارج سورية، ومن خلال الحديث علمت أنه أحد شعراء السعودية يطلب منه المشاركة بمهرجان شعري هناك وافق ولكن ختم حديثه مع الشاعر بقول “أنتتظر ما تتفقون عليه وتخبروني وأنا سألبي الدعوة بكل سرور”.
ثم واصلنا الحديث عنه وعن أيامه مع نزار والسياب وأيام بغداد والشعر والدراسة هناك. لقد جرى بيني وبينه هذه الحوار الذي تم نشره في صفحات الوكالة بتاريخ 19 يناير من عام 2009 وبعد نهاية اللقاء ودعته بحرارة وعلمت وقتها أنني كنت مع أحد عمالقة الشعر العربي.
علمني هذا الشاعر الفذ كيف يكون الوفاء للوطن وكيف يحمل وطنه في جوارحه أينما توجه وحتى أثناء رحيله تمنى أن يضمه تراب العراق لكن لم يكن ذل ك فقط دفن في الأردن رحمه الله .
أما الحوار فقد شاركني فيه الشاعر العراقي الحبيب عمر عناز وكان وقتها سكرتير تحرير وكالة أنباء الشعر ، وقد تم نشر الحوار بتاريخ 2009،01.19 وتعنون الحوار بـ:
في حوار الذكريات والشعر
الشاعر العراقي الكبير عبدالرزاق عبدالواحد للوكالة : قصائدي أغضبت نزار قباني من زوجته بلقيس ..والبياتي ليس شاعراً ..السيّاب قال لي : أين تجد مثلي جمهوراً
نزار قباني قال للفتاة التي تصوره : يا بنتي أنا تعبان تعبان
قصيدة النثر تسمية مضحكة بمعنى أبيض أسود أو صيف شتاء !
المنابر تسقط الشاعر أمام جمهوره !!
يتنفسه الشعر وهو يؤثث رئة البوح بكلماته المفعمة بكل شؤون وشجون العراق، يخيط بالسعف تنهيدة النخل وبالقصب ضحكة الهور وبزغردات الصبايا لهف العائدين وبأدمع الثكالى وجع الراحلين..في سيماه تتجلى مواسم من الحزن والقلق والانتظار والترقب والإصرار والتحدي وكل أبجديات مسلّة الإرث العراقي الذي مازال يرتل الوجع في سمفونية لامتناهية.
ما إن تحادثه حتى يتبدى لك عن أفلاك تطوف فيها كل معاني الإنسانية التي تستمد روحانيتها من حكاية الشعر الذي يفور بين جانحيه، إنه الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد .. آخر اهرامات القصيدة العمودية والناطق الرسمي باسمها في هذا الزمن الذي يحتاج إلى شاهد بأهمية شاعرنا ليؤكد أن للقصيدة طعمها الذي لايمكن تغييره ولونها الذي لايمكن تزويره، تزدحم ذاكرته بتفاصيل تحكي عن أسماء ونخب ومشاهد وآراء مشحونة بالشعر والشعراء.. بذكريات دار المعلمين العالية والسياب والملائكة وسعدي يوسف وبمقهى حسن عجمي وبالمرابد والأيام الثقافية.. رحلنا معه عبر هذا الحوار الممتد بين مطلع التلمذة ومنزع الأستذة نقلب أوراق مسافة شعرية هي بين ايديكم:
“الموقف هو سيد الإنسان”
يقول البعض ان عبد الرزاق عبد الواحد قد أعاد تصدير صورة شاعر البلاط من خلال ما أنتجته من قصائد ذات توجه واحد على الأغلب فماذا تقول أنت؟
لقد كرر النقد العربي المعاصر كثيرا أن مابيني وبين المتنبي أن المتنبي كان شاعر سيف الدولة فقط فالمتنبي كان يسقط كل حلمه في البطولة على سيف الدولة كبطل واختلفت عنه أنني أسقطت حلمي في البطولة على العراق وعلى صدام حسين رمزاً للعراق لكن العراق هو الأساس في شعري كله، فقصائدي التي كتبتها في معارك القادسية أثناء حربنا مع إيران كانت كلها متوجهة إلى بطولة الجندي العراقي بالدرجة الأولى وبطولة الشعب العراقي فأنا لست شاعر بلاط أنا شاعر العراق، ولئن ظُن أنني شاعر بلاط فصدام حسين قد مات، ” من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت “، والعراق حي لا يموت فأنا أكتب الآن وما زال صدام حسين رمزاً للعراق الحي وصدام حسين شهيد عند ربه يرزق وأكتب للعراق لأن العراق حي يرزق وسأبقى على هذا لأن شاعريتي علمتني أولا وعلمني العراق ثانياً وصدام حسين ثالثاُ أن الوفاء وأن الموقف هو سيد الإنسان.
“قصيدة النثر صيف شتاء”
– عبد الرزاق عبد الواحد شاعر قصيدة عمودية بامتياز، ألا ترى أن التقليعات التي مرت بها القصيدة العربية قد أحدثت هوّة تحول دون تقبل القديم بشكله المتعارف عليه ؟
أنا لن أنال من المحاولات الإبداعية للشعر لأني من المؤسسين لقصيدة التفعيلة، نحن كنا كوكبة واحدة وعلى رأسها السيّاب ومحمود البريكان ورشيد ياسين وبلند الحيدري وسعدي يوسف وأكرم الوتري وأنا كنت لصقهم فنحن من الأوائل الذين أسسوا للتحول الحديث في الشعر العربي، لكن تعجلت الأجيال التي أتت بعدنا في أنها بنت على بناء وأساس كان مايزال قلقاً، فالقصيدة التقليدية أو القصيدة العمودية مضى عليها ألفا عام رسخت قواعد وأسس ثابتة لا يُختلف عليها، وجاء هذا التحول الهائل في القصيدة.. ولن أقول ان السياب كان اسبق لأن السيّاب سُبق بــ 25 عاماً في قصيدة التفعيلة،، علي أحمد باكثير كتب التفعيلة، شعراء المهجر كتبوا التفعيلة، والشعراء العرب في الأندلس كتبوا التفعيلة، ولكن ماحدث أن أجيالاً متعجلة في التحويلات وأسباب هذه التحويلات أن الوطن كان يمر بمخاضات ومتغيرات كثيرة وكان الشعر أحدها وربما أختلط الحابل بالنابل وكل صار يدلو بدلوه وينسب نفسه إلى الشعر الحديث الى ان وصلنا الى مايسمى قصيدة النثر التي هي عندي تسمية مضحكة يعني ابيض أسود قصيدة النثر صيف شتاء هذان ضدان ولكل ميزاته ومقوماته.
هناك من النثر ما هو أجمل من الشعر، فعندما نأتي الى “العصفور الأحدب” فهذا النثر يبلغ ذرى عالية جداً يمكن أن يسمى نصاً نثرياً ويمكن لهذه الإشكالية أن تنتهي، أنا كنت من البادئين في هذا وبالتالي لن أنعى على الحداثة حداثويتها وإنما أنعى على اللعب في الشعر، نحن الآن صرنا في زمن يتعاون فيه شاعر رديء مع ناقد رديء على خلق قارئ رديء وهذا أمر مرعب ويخشى أن يصبح النموذج رديئاً وبالتالي تصبح عملية استعادة الشعر عملية صعبة جداً والا مامعنى أن يكتب هذا النثر ويتعكز به على وسائل موسيقية من الإيقاع، فيه من الطفولة ومن الجهل بالشعر الكثير أيضا وفيه من الجهل الشيء الكثير.
ويضيف :لدينا الآن عاصفة من التحولات فلدينا الإنترنت وماينشر عبر هذه الوسيلة الإعلامية الخطيرة ويكتب تحته أنه شعر وقد ينسب إلى شعراء غيرهم ويحتاج النقد أن ينهض بدوره الخطير الآن وإلا يكون هناك ضياع كبير.
“ألخص لكم تجربتي بخمسين عاماً في عشر سنوات”
– أنت تشيد دوماً بتجارب الشعراء الشباب في العراق ماهي المنطلقات التي تؤسس عليها رأيك بهذه الشريحة وهل ثمة أسماء تذكرها لنا؟
أنا عندما أُسال عن الشعر وفي العراق بالذات أقول أنا لا أخاف على الشعر لأني تركت موجة عالية لابد أن ترتفع وهي ترتفع الآن، ففي اواخر الثمانينات دخل مكتبي سبعة شباب أعرف أربعة منهم ولا أعرف الباقين والأربعة كانوا شعراء جيدين وعرضوا عليّ أنهم اتفقوا على أنهم سيشكلون ” ندوة عبد الرزاق عبد الواحد الشعرية” ويحتاجون موافقتي على ذلك،، وافقت ويسعدني ذلك..
واشترطوا علي أن أعيش معهم يوما كل أسبوعين وصار بعد ذلك يوما كل أسبوع فأصبح هناك يوما كاملا من الشعر يقرأون لي وأقرأ لهم واسمعهم ويسمعونني وأناقشهم فيما يكتبون ويناقشونني فيما أكتب وبعد عامين وصل عددهم إلى عشرين شاعراً يُنتقون انتقاءً، وفي ذلك الوقت كنت أقول لهم إن لم تستفيدوا وأنا ألخص لكم تجربتي بخمسين عاماً في عشر سنوات فعندئذ لن نضيف للشعر شيئاً، يجب أن تأخذوا تجربتي في عشرة أعوام وتضيفوا عليها أربعون عاماً قادمة من التقدم، لن تكونوا أنا مرة أخرى يجب أن تكونوا أنا وتضيفوا أربعين عاماً إليّ، هؤلاء كان معظمهم من الأطباء والمهندسين والعجيب أنهم كبار في الطب والهندسة ومنهم اثنان شاركا في مهرجان حمص وسمعتهم فكانا عملاقين رغم وجود الكثير من عمالقة الشعر في هذا المهرجان، وأذكر من هؤلاء شعراء على رأسهم الدكتور وليد الصراف طبيب من الموصل وهي ليست مدينة أدب بل مدينة علم شاعر هائل ومنهم أيضا مضر الآلوسي وبسام صالح ومحمد البغدادي ومهدي الغانمي وأسماء كثيرة أخرى حوالي عشرين شاعرا هم شعراء كبار وهؤلاء ينتظر منهم أن يرفعوا موجة الشعر عالية جدا كما حصل في بداية الأربعينات في العراق، ماينفع الناس يمكث في الأرض أما الزبد فيذهب جفاءً وبدء الزبد يذهب جفاء وعملية العبث في الشعر بدأت تظهر.
الآن هناك منابر، فالوطن العربي هو وطن منابر لأن أحداثنا لاتنتهي ومآسينا لاتنتهي وأعراسنا لاتنتهي فنحن وأنا خبرت هذا في العراق حتى احتفالاتنا العلمية حتى مؤتمر للأطباء يجب أن يفتتح بقصيدة، الشعر زاد يومي للعرب ولهذا فالمنابر محك كبير للشاعر يقف ويسقط الشاعر أمام جمهوره ولدينا في العراق جمهور صار حكماً حقيقياً من كثرة ما ألقي الشعر على مسامعه ويمكن أن يرصد الشاعر رصداً ويُسقطه بلحظة واحدة.
“البياتي عمره ماكان شاعرا”
– من الرائد الأحق بالشعر الحر بعد السيّاب ونازك.. أنت أم البياتي ؟
البياتي اتركه جانبا، البياتي عمره ماكان شاعرا، كان شاعرا وسطا أو مادون الوسط لكن هناك شعراء قديرون في الوطن العربي منهم محمد علي شمس الدين من لبنان، في العراق الان ليست الصورة واضحة لدي.. منذ خمس سنوات تركت العراق، بدأوا تقليديين عمودين ثم تحولوا .. يوسف الهايبي محمد الغزي شعراء حقيقيون، فهناك شعراء كبار، ولا نريد أن نغوص في الأسماء حتى لا ينتقدنا أحد
– بحكم معرفتك بهم ارو لنا حدثا لا يعرفه أحد سواك عن نزار .. نازك.. السياب
لا أدري إن كان حدثاُ خاصاً.. يمكن أن اصف إحساسي تجاه هؤلاء ..
فنزار المشهور بقصائده التي هاجمه الكثيرون بأنها قصائد فيها من الجنس، أكاد أن أقول لم أر في حياتي إنساناً أكثر تهذيباً و أعلى خلقاً من نزار، لاتصدر عنه كلمة وعرة أو خشنة، لايرفع صوته في منتهى الرقة والأخلاق والتهذيب.
هو كان أحياناً يسأم من كثرة الالتفاف حوله وأذكر مرة كنا في منتزه الزوراء في بغداد أقيم لنا في إحدى المرابد حفل غداء من قبل اتحاد النساء العراقيات وكنا نتمشى وأنا معه يداً بيد في المتنزه وكانت فتاة جميلة جداً تتنطط حوله – وليس حولي طبعاً – وبيدها كاميرا وتلتقط له الصور وكان في طور التماثل للشفاء إثر النوبة القلبية الثانية التي تعرض لها، فعثرت هذه الفتاة وهي تقفز بجانبه فقال لها نزار ” يابنتي انا تعباااان تعبااااان “.
نزار إنسان عفيف وهو لايكابر رغم اعتداده بنفسه وأذكر كنا جالسين معا أنا وزوجتي وهو وبلقيس رحمهما الله فقال لبلقيس أتحفظين من غزل عبد الرزاق فقالت أنا اقرأ له ولا أحفظ فقال (لعمى باليين نزار قباني بلوة مايقرؤوا غزل عبد الرزاق ) مع أني أنا لست شاعر غزل أمام نزار فبيننا مابين الأرض والسماء نزار هذا خلقه .
نازك الملائكة
نازك لم أتعرف عليها بحكم الوضع الاجتماعي في العراق فنازك من عائلة محافظة وأبوها المرحوم (صادق الملائكة) كان أستاذنا يدرّسنا اللغة عربية في الرابع الثانوي وكان يحدثنا عنها كثيراً وهي كانت لصق عقله وقلبه ففي دروس النحو يتحدث عنها وروى لنا مرة قصة عنها أنها كانت صغيرة السن لايتجاوز عمرها 7سنوات يأتي اصدقاؤنا إلى البيت وخبروا أن لديها قابلية على الايقاع والاتيان بكلمات موقعة على بعضها وكانوا يمتحنونها بها.. وقال الاستاذ صادق الملائكة ” في يوم من الأيام احد اصدقائي قال لنازك ممكن أن تأتيني بكلمة على وزن – روزنامة- والروزنامة تعني التقويم عندنا، قال فالتفتت اليه وهي تبتسم ثم قالت -شاي ماما- مافي كلمة على وزن روزنامة ” فاتت بكلمتين وجمعتهما ليكونا على نفس الإيقاع والوزن.
نازك ظلت بعيدة عنا بحكم البيت المحافظ ولكنها التبست بحياتنا الأدبية التباساً كبيراً وكنا نحن الشعراء الشباب نذكرها كثيرا في أحاديثنا وفي مجالسنا وكانت متميزة،
السيّاب.. إذا أردت أن اتحدث عنه فأحتاج إلى كتاب.
أولا كان أعز أصدقائي فكان هو في الصف الرابع في الكلية وأنا كنت في الأول وكان هو أستاذي في الشعر وهو الذي جعل الشعر هماً حقيقاً لدي، ماذا أروي عن السيّاب؟ لن أروي عنه شخصاً لكن عندما أقول السياب شاعرا فالوعي الشعري لدى السيّاب وعي مذهل.
كنا مرة جالسَين في المقهى ننتظر بقية العصابة بقية الكوكبة من الأصدقاء فلم يأت احد فقال لي: عبد الرزاق اقرأ لي شعرا، فقلت: لا اقرأ.. قال لماذا.. قلت أمجنون لأقرا الشعر أمامك.. وأنا كنت مبتدئا في الشعر فقال: أنا جمهورك الآن وأين تجد مثلي جمهورا..
وقرأت له حتى انتهيت وأبدى بعض الملاحظات على ماقلت وأبدى إعجابه أيضا لكنه قال لي شيئا حفظته وعلّمته للأجيال من بعدي.
قال ” عبد الرزاق أنت لست الشاعر وأنت تكتب القصيدة، انما أنت الشاعر وأنت تسقط عن القصيدة كل زوائدها كل النموات غير المتعافية فيها وكل الاستطالات التي تأكل من نسقها الحقيقي، يمكن أن تكون مقاطع شعرية جميلة جدا ولكنها تضعف من القصيدة وعملية إسقاطها هي العملية الشعرية الحقيقية،
هذه المسألة تذكرتها يوما وأنا أقرأ أن رجلاً جاء الى النحات العظيم مايكل انجلو فقال له وكانت أمام انجلو كتلة هائلة من الصخر فقال له يا سيد انجلو انا أعجب كيف تحوّل هذا الجلمود إلى تمثال جميل جدا فقال انجلو انا لا أستطيع أن أحوّل الصخر إلى تمثال فقال الرجل وكيف ذلك، قال” أنا لا انحت تماثيل، أنا انظر لهذه الصخرة فأرى داخلها تمثالا اسقط كل الزوائد عنه…. هنا أدركت ما قاله السياب وهو إسقاط كل الزوائد عن القصيدة وفعلاً عشتها وعلمتها لكل تلامذتي وهم يملؤون العراق الآن، هم أكبر شعراء العراق ، أن يكونوا حذرين في النمو غير المعافى للقصيدة،
وعند السيّاب ” واو” كانت مشنقة لقصيدة الخمسينات وكتبت عنها مقالا نقديا من خمسين صفحة ترجمه أحد الاساتذة إلى الفرنسية ووضعه في كتابه وقال مارأيت نقداً ينبع من الشعر كهذا النقد، وقد خفت ان اواصل النقد لأن النقد يأخذ من جوف الشاعر ويضيع الشعر.
أقول كان عند السياب “واو” كلما بدأت القصيدة تخرج من سياقها ومجالها يقطع ويعطف بواو مثل:
وفي العراق جراح
وما مر عام
وكل عام حين يعشب الثرى..
السيّاب عبقرية كبيرة.. عبقرية من قصب، كان يُلقي مرة قصيدة في تظاهرة وقف على سطح سيارة وبدأ يقرا :
بسمة النور في ثغور الجراح
أنت قبل الصباح نجم الصباح
كلما لحت في خيال الطواغيت
وألهبتي مرقد السفاح
ذاب قيد على اللظى وتراخت
قبضات على عظام السلاح
وأنا كنت امسك ساقيه لكي لا يسقط من على السيارة وهو يرتعش كريشة في مهب الريح واقسم أن أصابعي كانت تلتقي حول ساقه والبنطال والجوارب معا كأنها قصب.. هذا الإنسان كان شعلة وكان مكونا من أعواد قصب، السيّاب أكل نفسه واكلته عبقريته.
وعندما اسأل من الذي أسس قصيدة التفعيلة أقول السيّاب إذا قرّرنا أن صاحب التأسيس هو الذي طبع ختمه على الآخرين والسيّاب كان من الشاعرية بحيث استطاع أن يرسخ هذا الأمر.
– سوى اهلك- بعد أن تعود إلى بغداد- إلى أي مكان تتوجه لتطفئ جمرة الترحال؟
هنا انهمرت من عينيه دمعة …
بغداد نفسها.. تكاد تكون كل بقعة في بغداد فيها لي قلب ينبض ومحلتي التي ولدت فيها الكريعات ومحلتي التي عشت فيها القادسية بيتي هناك الذي تركته إخواني الأدباء العراقيين ومجالسنا هناك هذه واحات حياتي التي بين معابرها تركت اختاماً لأقدامي ملطخة بالدم، إذا عدت لهذا فأكون قد ولدت مرة أخرى وأتمنى أن أولد من جديد وأنا واثق بأنني سأعود إلى العراق يوماً ما وعندما أعود أعود طفلاً مرة أخرى.
أراه من جانبين
– إبداعيا ومؤسساتياً كيف ترى المشهد الثقافي العراقي الآن؟
أراه من جانبين، جانب رسمي متهافت يحاولون تقويمه بأي شكل من الأشكال لكي يكون مشهدا ثقافيا وهو ليس مشهداً ثقافياً على الإطلاق وليس مشهداً أدبياً ولايوجد فيه روح وأصحابه يعيشون على فتات المحتلين وأعوان المحتلين ولا إبداع تحت أقدام المحتل.
ومشهد حقيقي لأدباء العراق، شعرائه كتابه وقصاصيه الذين هم ضد ومكتومو الأصوات،
وأحيانا أراهم هنا في سورية أو في أي مكان آخر يدعون الى الوطن العربي واسمعهم رائعين هؤلاء رائعون، يكتنزون، أولاً كثرة الضغط تولد انفجار مماثلاً في القوة
وثانياً إخلاصهم وغيرتهم على العراق تدفعهم إلى الإبداع الحقيقي وهؤلاء يشكلون المشهد الحقيقي للأدب العراقي وهو مشهد غير مرئي لأنه مكتوم الأنفاس إلا ما يتسرّب إلى الوطن العربي رغم كل القيود.
– ماذا تقول لدمشق
قصيدتي في تكريمي في دمشق ” شكراً دمشق ” هي أجمل ما كرمت بها دمشق وحديثي معها كان طويلا…فشكراً دمشق
وعنوان القصيدة شكرا دمشق
– يدنا مبسوطة لحمل رسالة منك إلى من تشاء فلمن ترسل وماذا تقول ؟
لكل العرب.. هذه غزة تذبح والعراق يذبح والطريق سيمر عليكم جميعاً ومتى تتعظون؟
أتمنى أن يتحد الحكام العرب مرة على كلمة حق ولا أدري لو كان للشعر سوطاً لرأيت جلودهم كلها تقع، ولكن الكلام لا يؤثر في أسيادنا الحكام
وقلت في قصيدة:
عتْبٌ على النفس لاعتْبٌ على أحد
أني أنادي بلاد العرب يا بلدي
أقول أهلي وإن كانت خناجرهم
في أضلعي وخطاياهم على ولدي
كان بودي أن تكون هذه القصيدة حاضرة معي لأقرأها لك كاملة وهي تصدق في كل زمان ومكان من الوطن العربي.. اننا متى نلتقي متى نتفق على جراحنا، متى نتفق على حقنا متى نتفق على أننا جميعاً مهددون.. لا أدري هل هي غيبوبة.. هل هو خوف.. ربما..
تنهد ثم قال ..
كان يوماً بعيداً ذلك اليوم الذي كنا نقرأ فيه وقد تقصدت أن ارفع يوم لأنها عندي هنا اسم كان ليست فعلاً ناقصا
كنا نقرأ :
بلاد العرب اوطان.. من الشآم لبغدان
ونقرأ..
عليك مني السلام يا أرض اجدادي
ففيك طاب المقام وطاب إنشادي
كنا نتغنى للوطن كله فهل مازال الوطن يتغنى أو مازال أولادنا يتغنون لوطنهم لهذا الوطن المتفرق المتناحر المخذول في بعض أماكنه حد أن تطأ رؤوسه أقدام الآخرين والمذبوح في مناطق أخرى حد ان يخضب دمه أقدام السائرين.
هل اتفقوا على شيء، هل يملك أولادنا أن يغنوا لهذا الوطن الآن وماذا يغنون إذا غنوا.. دماء من يغنون.. ذلة من يغنون.. حصار من يغنون.. أتمنى أن نجد لأولادنا مايزهون به..
وهكذا طاف بنا الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في فضاءات تعبق بالشعر وذكرياته، تجولنا معه نتهجؤ جغرافية زمن شعري ازدحمت تفاصيله واشتبكت تآويله وبقي مفتوحا على كل الاحتمالات المدهشة.
الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ولد في بغداد بتاريخ 1 تموز 1930 وانتقلت عائلته من بعد ولادته إلى محافظة ميسان جنوب العراق حيث عاش طفولته هناك، ولُقب بشاعر أم المعارك، وشاعر القادسية، وشاعر القرنين، والمتنبي الأخير.
عاش حياة الغربة بعد احتلال العراق متنقلاً بين دمشق وباريس وأمريكا والأردن وقدم خلال مسيرته الشعرية الكثير، حيث فاقت دواوينه الشعرية 59 ديوان وكان أولها عام 0195، وتوفي صباح يوم 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 عن عمر ناهز 85 عاما في باريس ودفن في العاصمة الأردنية عمان.
#سفيربرس _ حاوره: زياد ميمان