إعلان
إعلان

كتبت ميرال حسن : غ…زة، إنها الساعة الآن منتصف البكاء إلا دمعة.

#سفيربرس

إعلان

القُبلة، كآخر رشفة في فنجان القهوة، كسيجارة ما بعد الأكل، هكذا هي الشهوة التي تُلحف في دغدغة الأرواح بمناخسها حتى يصير التأوه جُرحًا يوحى إليه، والنزيف قهقهة تسيل، والألم منتشيًا شامتا سامدًا. وأنت لست أصمًا ولست أبكمًا رغم تصاعد تراب معركة الهزيمة، الهزيمة التي لم تفقدك بوصلة الرؤية.

هنا لا يحتاج المشهد لذكاء أينشتاين ولا صراخ عصام الشوالي. هنا تُختصر القضية برمتها في واقع بدا عفويًا ليتحدث عن قهر يمضي كسرد نص معدًا ومكتوبًا سلفًا. هنا الصرخة بعد أن سكنت الشياطين أوطاننا: أُحادية الوجع/ ثنائية الظل، ثلاثية القهر/ رباعية التشرد.

فسلام الله عليكِ يا غزة. حين طلبتِ الغناء، استحدت شفراتنا ونضحت من أجسادنا دماءً على جدائل الريح عطرًا خائسا. سلام الله عليكِ من نار تترقرق ومياه تستعر، لحروب تتلمس فرائسًا لم تزل في أجواف الأرحام وأصفاد المشيمة. سلام الله عليكِ صلاةً ينكب عليها الواجدون في صوامع أرواحهم المقرحة، حارثين بأزاميل زفراتهم معدنها اللافح، صائغين من لحمها المنغوم آلهةً تمزقهم.

سلام الله عليكِ وطنًا، فعكازًا شذبته أنامل خونة أهل الدم في محيطك. ففي زمن لا يشبه الزمن، وفي عصر تتساقط فيه معاني العزة والكرامة كما تتساقط أوراق الخريف، ذابلة، صفراء، تائهة في مهب الرياح. عصر يختلط فيه الدم العربي بالتراب ليكون شاهدًا على مهانةٍ لم يعرفها التاريخ من قبل. تقف أوطاننا العربية اليوم في مواجهة المرآة، شاحبة، مكسورة، ملطخة بدماء أبنائك، وتسمع أصداء استغاثاتك شعوبهم وهي تضيع في زحمة التخاذل والخنوع.

وينفصم العقد حينما يتقطع وينحل، وتنفصم شخصية الإنسان حينما يتشوش عقله ويفقد توازنه وتواصله بواقعه. وتنفصم المجتمعات حينما تنقسم على نفسها وتسقط في ضالة الاستقطاب والتمحور على أطراف الخير أو الشر.

إنه عصرٌ يتبنى فيه الأخ تآمره على أخيه، وتمتد فيه الأيادي العربية لتوقع صكوك الموت على أشقائها بدلاً من أن تكون ملاذًا وأمانًا. فكيف وصلنا إلى هنا؟ وكيف تحولنا من أمة تجسد أسمى معاني التضامن والشرف إلى أمة تُباع فيها دماء أبنائها في سوق المصالح السياسية؟ كيف يمكن لنا أن نبرر هذا العار ونحن نرى كل يوم مدنًا عربية تُسوى بالأرض، ومجازر لأطفال يُذبحون، ونساءً تُهجّر، بينما تختار بعض الأنظمة العربية الرقص على جثث إخوتها؟

هنا تقف نظرية خطوط فيثاغورث عاجزة، تفقد برهانها الصحيح ليفصح الوتر المائل عن حقيقته الأزلية، وتزعزع المعادلات لاستقبال أوصافها اللاحقة. في زمن تسود في فضاءاته أفعال ذلك الوتر. فعندما ننظر إلى لبنان وغزة اليوم، نشهد مأساة ليست جديدة في تفاصيلها، ولكنها جديدة في انحرافاتها. إذ لم تعد هذه الحروب تُدار فقط من قِبل أعداء الأمة الواضحين، بل أصبحت تُدار كذلك بأيادٍ عربية خانت دماءها وقيمها. ترى دولًا عربية تبني صروح قوتها المزعومة على أنقاض بيوت أشقائها، في سبيل كسب رضا القوى الكبرى التي تتلاعب بالمنطقة كأنها رقعة شطرنج لا تعنيها أرواح الأبرياء.

فتعال أيها الموت الرحيم، عانقني بعطش اللهفة والانتظار. فدمنا لا يشبه دماء الآخرين، بدليل أنهم يدمنون سكرته، ولحمنا لا يضاهي مذاقه لحمًا، بدليل أنهم يشتهون شواءه كل صباح. تعال أيها الموت لتحكم عناقنا، علك ترحمنا من حكومات تتآمر وتشارك في لعبة القتل والتدمير، لحروب أبدية لا تستحق لهم فخرًا ولا تربأ بنا عزاءً، لجبهات لم تكن أسبابها مندوحة غير مجد عاهر ووسام قاتل. علها كانت ككل طلق النساء تفي بولادة فلسطين.

فمن يثبت لي أن أرحام نسائهم ليست أكثر من مصنع لشهوات حرب يقودها الأنذال وخنث الشعارات، حتى شعار ما بعد الآخر. حروب تتنقل كديدان الربيع، لا توقفها حتى الخرافة والأعاجيب. حروب ترك بها ذاك الأب في غزة أطفالًا لا يعرفون البوكيمون ولا السندباد، بل قصة لـ “علي بابا والأربعين حرامي.”

فما نشهده اليوم ليس مجرد حرب على الأرض، بل حرب على العروبة ذاتها. حرب بمرحلة جديدة من التآمر العربي العربي، حيث لا يكتفي العرب بعدم الوقوف مع أشقائهم، بل يشاركون في ذبحهم بأيدٍ ملوثة بأموال القوى الغربية. فكيف يمكن لحكومات عربية أن تدعم الاحتلال والقتل بطرق مباشرة وغير مباشرة؟ وكيف يمكن لها أن تغمض أعينها عن جرائم ترتكب يوميًا بحق شعوب عربية؟ إنه لخنوع محزن، يدفعنا إلى التساؤل: هل بقي في الأمة نخوة؟

لقد أصبحت العروبة كلمة جوفاء، يُرفع لواؤها في الخطابات السياسية لتجميل الصورة، لكن واقعها بات مشوهًا. في ظل جامعة تأسست لتكون حصنًا للدفاع عن حقوق الشعوب العربية، أصبحت اليوم مجمعًا للمصالح الشخصية والسياسات البائسة التي تبيع الأرض والعرض مقابل فتات مصالح ضيقة.

فماذا يمكن أن تقوله مقالة أمام واقع جرى من دمائه شظايا عناقيد غضب، عنبًا في نبيذ الماجدين السكارى على دمه كذباب يبحث عن بصقة أو بقعة سكر. عن عهرة شقوا رفاته كنشق السم لوطن وجد فيه نصوص خيانتهم.

خيانة إعلام يُدار من دولة أساس شرعها هو تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، دينٌ يقول فيه رسول الله ﷺ: “دم المسلم على المسلم حرام”، أن تتحول إلى أداة للتشفي بدماء عربية، أداة تتبنى إرسال رسائل سياسية تتعمد فيها اغتيال شخصيات، من ثوار ومقاومي المحور. أليس هذا اغتيالًا مزدوجًا، اغتيالًا للجسد واغتيالًا للروح؟ إنه ليس فاضحًا فحسب، بل هو جريمة أخلاقية بكل المقاييس، جريمة تسلب منا إنسانيتنا وتخلع عنا كل معاني التضامن والتراحم.

هنا حيث اللعبة التي تُدار على وطن مشنوق بحبل غسيلهم القذر لفكر مريض عاجز، مرتعه زيف السنن. وبينما يفترش كبار حلفاء الاحتلال موائد الاحتفاء بعهرهم، أقف أنا مع صغار المقاومة إكبارًا وإجلالًا لكبارهم.

أما وإني قلت بعض ما في نفسي، أعدكم بالوعد الحق الذي كنت أطلقه من نوافذ منزلنا القديم، مذ كنت طفلة، والذي كان يصدح على أنغام تلك الأنشودة الوطنية الحماسية التي دائمًا ما كانت تستبق الأخبار العاجلة بصخب: “الآن الآن وليس غدًا.”

وكالعادة كنت أُنهر بنفس العبارة المتكررة: “ألا تخفضي صوت الراديو هذا؟” باستياء وتجهم، أخفض الصوت ذاهبة لأوي في فراشي وأنا أدمدم: “الغضب الساطع آت، وأنا كلي إيمان.”.

#سفيربرس ـ بقلم : ميرال حسن

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *