إعلان
إعلان

الجولاني: من الظل إلى الصدارة، هل تكون سوريا ساحة التنافس الإقليمي؟ قراءة في التحولات السورية الكبرى .بقلم : خلدون شاكر اللولح

#سفيربرس

إعلان

“السياسة ليست سوى حرب بوسائل أخرى”، هذا ما قاله الفيلسوف الألماني كارل فون كلاوزفيتز، ويبدو أن المشهد السوري اليوم يجسد هذا المبدأ بامتياز. فمع تصاعد الحديث عن إعادة تشكيل خارطة النفوذ في سوريا، ومع بروز (أحمد الشرع) القائد العام لإدارة العمليات العسكرية وزعيم “هيئة تحرير الشام” كأحد الفاعلين في المشهد السياسي السوري الجديد، تنفتح آفاق متعددة على تساؤلات كبيرة حول طبيعة النهج الذي قد تتبناه بين الأطراف الإقليمية الكبرى: تركيا، إيران، وإسرائيل.

القرارات التي تُتخذ اليوم في دمشق وأنقرة وطهران وتل أبيب لها أبعاد تتجاوز الحدود الجغرافية لسوريا، ما يضع الشرع في موقع حساس بين تحالفات متشابكة ومصالح متضاربة. فكيف يمكن أن يتطور هذا النهج؟

1. الجولاني وتركيا: ما وراء جبل قاسيون
في السياسة كما في الجغرافيا، لكل جبل ظل، وظل جبل قاسيون اليوم يمتد ليشمل ليس فقط دمشق بل أيضاً أنقرة. و ظهور وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ومدير الاستخبارات إسماعيل قالن على هذا الجبل يحمل رمزية عميقة. هل هي رسالة مفادها أن تركيا، التي لطالما اعتُبرت لاعباً أساسياً في الملف السوري، تعيد تعريف دورها عبر دعم صعود شخصيات جديدة مثل الشرع؟

تركيا تجد نفسها اليوم أمام خيار معقد. فهي من جهة تسعى لضمان أمن حدودها الجنوبية ومنع قيام كيان كردي مستقل، ومن جهة أخرى ترى في الشرع شريكاً محتملاً يمكن أن يوازن بين أهدافها الإقليمية وحساباتها الداخلية. كما أن تصريحات الشرع الأخيرة حول الترشح للرئاسة السورية تبدو وكأنها تأتي كجزء من سيناريو مدروس بعناية لتقديمه كوجه مقبول محلياً ودولياً، وخصوصاً لأنقرة.

يقول نيكولو مكيافيلي: “الفرصة لا تنتظر أحداً”، ويبدو أن تركيا ترى في دعم (أحمد الشرع) القائد العام لإدارة العمليات العسكرية وزعيم “هيئة تحرير الشام” فرصة لتحقيق استراتيجيتها في سوريا، مستغلةً خبرته العسكرية وشبكته الاجتماعية التي بناها عبر سنوات الحرب الماضية. ولكن يبقى السؤال: هل يمكن للشرع أن يتجاوز كونه أداة في يد الأتراك ليصبح لاعباً مستقلاً؟

2. أحمد الشرع وإيران: شراكة تكتيكية أم تناقض استراتيجي؟
إيران، التي تعتبر نفسها الحليف الأبرز لسوريا، تراقب عن كثب تحركات الشرع. ففي الوقت الذي تسعى فيه طهران للحفاظ على نفوذها التقليدي في دمشق، قد ترى في الشرع تهديداً أو فرصة، حسب طبيعة مواقفه وتحالفاته المستقبلية.

التحالف بين الشرع وإيران قد يبدو مستبعداً بالنظر إلى الفجوة الإيديولوجية بين الطرفين. ولكن السياسة لا تعترف بالثوابت؛ فالشرع قد يجد نفسه مضطراً إلى التنسيق مع إيران في مواجهة التحديات المشتركة، وخصوصاً الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية.

يقول ونستون تشرشل: “ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم في السياسة، فقط المصالح دائمة”. وبناءً على هذا المبدأ، قد تتقاطع مصالح الشرع مع إيران في بعض القضايا، لا سيما إذا قرر تقديم نفسه كمدافع عن السيادة السورية ضد التدخلات الخارجية. ولكن هل يستطيع الشرع إقناع طهران بأنه الشريك الأمثل في هذه المرحلة؟

3. الشرع وإسرائيل: بين الهدنة والمواجهة
إسرائيل، التي تراقب عن كثب التحولات السورية، قد تجد في صعود من استلم مفتاح القصر السوري فرصة لفتح قنوات اتصال جديدة، أو تهديداً يجب احتواؤه. الشرع، الذي كان في السابق على رأس تنظيم يُعتبر من ألد أعداء إسرائيل، قد يختار خطاباً مختلفاً إذا أراد كسب قبول القوى الدولية.

في حديثه عن السياسة الواقعية، قال هنري كيسنجر: “لا يمكن أن تكون السياسة أخلاقية، ولكن يمكن أن تكون فعالة”. إذاً، هل يتبنى الشرع نهجاً براغماتياً يحاول من خلاله التوصل إلى تفاهمات غير معلنة مع إسرائيل، أم أنه سيظل في موقفه التقليدي المعادي لها؟

تصريحات الشرع حول “سيادة سوريا” ورفض الاعتداءات الإسرائيلية تعكس نبرة وطنية قد تلقى صدىً واسعاً في الداخل السوري، ولكنها قد تضعه في مواجهة مباشرة مع تل أبيب. السؤال هنا: هل يمكن للشرع أن يجد صيغة توازن بين الحفاظ على هذا الخطاب الوطني دون التصعيد مع إسرائيل؟

4. المواقف الإقليمية والدولية: حزب الله والتوازنات الجديدة
تعليق الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم على الأحداث الأخيرة في سوريا يفتح نافذة لفهم التوازنات الجديدة. الحزب، الذي يعتبر أحد الحلفاء الأساسيين لإيران والنظام السوري، قد يرى في صعود (أحمد الشرع) القائد العام لإدارة العمليات العسكرية وزعيم “هيئة تحرير الشام” تحدياً لموقعه في المعادلة السورية.

ولكن السياسة تتطلب أحياناً تقديم تنازلات تكتيكية. يقول نابليون بونابرت: “السياسة هي فن الممكن”، وربما يكون ممكناً أن يتعايش الشرع مع حزب الله ضمن إطار تفاهمات مرحلية تخدم مصالح الطرفين.

في المشهد السوري المعقد، يتحرك الشرع على حبل مشدود بين تركيا، إيران، وإسرائيل. قدرته على النجاح تعتمد على مدى مهارته في بناء تحالفات مرنة دون خسارة قاعدته الشعبية. و كما قال جون كينيدي: “التغيير هو قانون الحياة، وأولئك الذين ينظرون فقط إلى الماضي أو الحاضر سيفوتهم المستقبل”. إذاً، هل يستطيع الشرع أن يكون جزءاً من التغيير القادم في سوريا؟ وهل يمكن أن يصبح لاعباً إقليمياً قادراً على تحقيق توازن بين القوى الكبرى؟

الإجابة ستتضح في قادم الأيام، ولكن الأكيد أن سوريا اليوم ليست كما كانت بالأمس، و الشرع يقف عند مفترق طرق ستحدد وجهته مصير بلد بأكمله.

يتطلع الشرع إلى الحكم، وتبدو أولويته موجهةً بالاتجاه نفسه مع نظرة الأتراك: شرق سوريا والمسألة الكردية.
هو قال إن الشعب يقرر شكل السلطة، وتحدث عن انتخابات ولجنة دستورية ومعايير الحكم، والانفتاح على الطوائف الأخرى، ثم فرّق بين “المجتمع الكردي” وPKK، ولفت إلى أن وزارة الدفاع ستقوم بحل جميع الفصائل ولن تبقي سلاحاً خارج سلطة الدولة.
هذا الكلام يعني “قسد” بالمباشر، لأن الآخرين لن يمانعوا بترك السلاح لسلطةٍ مركزيةٍ في دمشق، خصوصاً إذا كان المناخ الذي تعمل فيه دامجاً لجميع فئات المجتمع، فهل تسلم “قسد” سلاحها لدمشق المتناغمة مع أنقرة؟

المعادلة هنا معقدة للغاية. فـ “قسد”، التي كانت حليفاً للولايات المتحدة وتستمد قوتها من دعمها في مواجهة داعش، قد تجد نفسها أمام خيارات صعبة في حال تم التوصل إلى تفاهم بين دمشق وأنقرة. فإذا نجح الشرع في بناء مناخ سياسي دامج لجميع فئات المجتمع، فقد يكون قادراً على جذب “قسد” للتفاوض. ولكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا ضمنت الأخيرة أن مصالحها وحقوقها محفوظة، وأن العملية السياسية تشمل تمثيلاً عادلاً للمجتمع الكردي.

يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد”. يبدو أن هذه العبارة تصف تماماً وضع “قسد” في المرحلة الراهنة؛ فهي بين ضغوط أنقرة، التي ترى فيها تهديداً أمنياً، وبين دمشق، التي تسعى لاستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية.

في هذا السياق، قد تلعب أنقرة دوراً في الضغط على “قسد” لتقديم تنازلات، خصوصاً إذا توصلت إلى تفاهم مع (أحمد الشرع) القائد العام لإدارة العمليات العسكرية وزعيم “هيئة تحرير الشام” بشأن ضمان مصالحها الأمنية. ومع ذلك، يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن للشرع أن يخلق صيغة تضمن تسليم السلاح ودمج “قسد” ضمن الدولة السورية دون إثارة نزاعات جديدة؟

سوريا تقف اليوم أمام مشهد سياسي معقد، حيث تتشابك الملفات الإقليمية مع الطموحات المحلية. الشرع، في سعيه للحكم، يُظهر رغبة في تقديم نفسه كمرشح توافقي قادر على التعامل مع تعقيدات الداخل والخارج.

5. الشرع وتركيا: شرق سوريا بين المسألة الكردية وتفاهمات الحكم
يتطلع أحمد الشرع (الجولاني) إلى الحكم، واضعاً نصب عينيه أولويات تتقاطع مع الرؤية التركية، خصوصاً في ملف شرق سوريا والمسألة الكردية. في تصريحاته الأخيرة، أشار إلى أن “الشعب هو من يقرر شكل السلطة”، متحدثاً عن انتخابات ديمقراطية، لجنة دستورية، ومعايير واضحة للحكم تشمل الانفتاح على الطوائف الأخرى، مما يعكس تحولاً في خطابه السياسي باتجاه طمأنة مختلف المكونات السورية.

ولكن المثير للانتباه كان تفريقه الصريح بين “المجتمع الكردي” وحزب العمال الكردستاني (PKK)، وهي إشارة مباشرة إلى رغبة في التفاوض مع المجتمع الكردي السوري، مع اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه تنظيمات تعتبرها أنقرة عدواً لها. أضاف الشرع أن وزارة الدفاع السورية المستقبلية ستتولى حل جميع الفصائل المسلحة، مؤكداً أنه “لن يبقى سلاح خارج سلطة الدولة”.

هذا الخطاب يبدو موجهًا بشكل خاص إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تُعتبر لاعباً أساسياً في شرق سوريا. فالشرع يُدرك أن التحدي الأكبر في هذا الملف هو إقناع “قسد” بالتخلي عن سلاحها لصالح سلطة مركزية في دمشق. لكن طريقه مليء بالتحديات، أبرزها ملف شرق سوريا والمسألة الكردية. نجاحه يعتمد على مدى قدرته على تحقيق توازن بين الضغوط التركية، طموحات “قسد”، ومطالب المجتمع السوري.

كما قال نيلسون مانديلا: “القادة العظماء لا يبحثون عن الإجماع، بل يصنعونه”. يبقى أن نرى ما إذا كان الشرع قادراً على صنع هذا الإجماع الذي قد يُعيد رسم خارطة سوريا السياسية، ويحدد ملامح المستقبل القريب للبلاد.

6. واشنطن، قسد، وأنقرة: لعبة التوازنات المعقدة
من الواضح أن “قسد” لا تبدو مستعدة لتسليم سلاحها بسهولة، خصوصاً بعد الإشارة الأخيرة التي خرجت من قيادتها، والتي طالبت واشنطن بدعم حل فيدرالي لسوريا. هذا الطرح يُلقي بظلاله على العلاقات التركية-الأميركية، إذ إن خيار الفيدرالية يتعارض بشكل مباشر مع المصالح التركية التي تسعى إلى منع أي كيان كردي مستقل على حدودها.

افتراق أميركي-تركي أم تسوية مؤقتة؟
إذا قررت واشنطن الذهاب بعيداً في دعم الخيار الفيدرالي، فإن ذلك قد يؤدي إلى افتراق حقيقي في العلاقة بينها وبين أنقرة، مما يعمّق الشقاق بين الحليفين التقليديين في حلف الناتو. لكن هناك خيار آخر، وهو أن تؤجل واشنطن دعمها الكامل لهذا الحل، وتسعى بدلاً من ذلك إلى تقديم ضمانات للأكراد ضمن نظام مركزي بقيادة دمشق.

إلا أن هذا الخيار يحمل في طياته مخاطرة كبيرة، حيث قد تتحول مسألة سلاح “قسد” إلى ورقة ابتزاز مستمرة في يد الشرع. إذا ظهرت أي إشارة من مناصريه تُعتبر معادية لإسرائيل، أو إذا بدا تماهٍ مفرط مع السياسات التركية، فقد يجد الشرع نفسه أمام ضغوط داخلية وخارجية، مما يعقّد المشهد السياسي بشكل أكبر.

سوريا كمسرح لـ”نظرية اللعبة”
الواقع الحالي في سوريا يشبه لوحة شطرنج تُدار فيها ألعاب التنافس والتعاون. ضمن سياق “نظرية اللعبة”، يمكن القول إن الفاعلين الرئيسيين -واشنطن، أنقرة، و الشرع- يلعبون أدواراً متشابكة تعتمد على المساومات، الخداع، والتحالفات المؤقتة.

أنقرة، اللاعب الأكثر ديناميكية في هذا المشهد، تجد نفسها في وضع صعب. من جهة، تريد القضاء على أي تهديد كردي محتمل على حدودها. ومن جهة أخرى، تحتاج إلى الحفاظ على علاقاتها مع واشنطن التي ما زالت ترى في “قسد” شريكاً استراتيجياً في مكافحة الإرهاب.

كما قال ونستون تشرشل: “الدبلوماسية هي فن إخبار الناس بالذهاب إلى الجحيم بطريقة تجعلهم يتطلعون إلى الرحلة.” أنقرة، في هذه اللحظة، تبدو متقنة لهذا الفن، وهي تمارس سياسة الضغط الناعم والتهديد المبطّن لإجبار واشنطن على تقديم تنازلات، سواء في الملف الكردي أو في ملفات أخرى تتعلق بسوريا.

الشرع بين أنقرة وواشنطن
أما الشرع، الذي يسعى إلى تقديم نفسه كزعيم مركزي جديد، فهو الآن في قلب هذه اللعبة. من مصلحته أن يظهر كحليف استراتيجي لأنقرة، مع الحفاظ على توازن دقيق مع واشنطن. لكن هذا التوازن لن يكون سهلاً، خاصة إذا قررت واشنطن تعزيز دعمها للفيدرالية.

إذا تمسكت “قسد” بخيارها الفيدرالي، فقد تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع أنقرة، ما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري جديد. وفي المقابل، إذا قدمت تنازلات وقبلت الاندماج في نظام مركزي، فإن ذلك سيخلق فرصة للشرع لإظهار نفسه كصانع سلام وقائد قادر على تحقيق التوافق.

سوريا بين رهانات واشنطن وأنقرة
المشهد السوري الحالي يبدو وكأنه يدار على حافة الهاوية، حيث تحاول كل من واشنطن وأنقرة فرض أجندتها الخاصة، بينما يحاول الشرع أن يلعب دور الوسيط الذي يستفيد من هذا التنافس. لكن يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع هذه الأطراف تحقيق توازن يسمح ببناء سوريا جديدة؟ أم أن البلاد ستظل مسرحاً لألعاب القوى الدولية والإقليمية؟

كما قال الفيلسوف نيكولو ميكافيلي: “الحرب قد تكون مبررة، لكن نتائجها دائماً غير مضمونة.” هذه العبارة تلخص تماماً حالة سوريا اليوم، حيث تتقاطع الطموحات الإقليمية مع المصالح الدولية، في لعبة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بنتائجها النهائية.

7. الشرع بين سياسة أردوغان وسياسة إيران: خيارات المستقبل
قبل أسابيع قليلة، خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريح غير اعتيادي، قال فيه إن تركيا معنية بإيقاف الأطماع الإسرائيلية في المنطقة، وإن عدم تحركها سيجعل من إسرائيل خطراً مباشراً على الأناضول. كان التصريح لافتاً للغاية، خاصة أنه جاء في ظل تطورات كبيرة في الملف السوري.
السؤال هنا: هل كان أردوغان يستبق الحدث السوري الكبير، ليقول إن تركيا ستكون أقرب جغرافياً إلى الخطر الإسرائيلي وستواجهه؟ أم أن التصريح مجرد استكمال لسلسلة من الرسائل العدائية الخطابية التي اعتادت أنقرة على توجيهها لإسرائيل؟

سياسة أردوغان: عدوانية الخطاب وتناقض الفعل
على مدى العقد الماضي، اتسمت سياسة أردوغان تجاه إسرائيل بتناقض واضح. من جهة، كان الخطاب التركي الرسمي عدوانياً ومليئاً بالتصريحات النارية، التي استهدفت كسب تأييد الشارع الإسلامي والعربي المناصر للقضية الفلسطينية. ومن جهة أخرى، كان التعاون الاقتصادي والعسكري بين أنقرة وتل أبيب مستمراً بلا انقطاع.
هذا التناقض دفع أردوغان ثمناً سياسياً باهظاً في الانتخابات الأخيرة، حيث خسر جزءاً من أصوات مناصري القضية الفلسطينية، الذين باتوا يرون في خطابه مجرد “دخان بلا نار.”

كما يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: “حين تتناقض الأفعال مع الأقوال، يضيع الثقل الأخلاقي للقيادة.” هذا ما حدث مع أردوغان، الذي يحاول اليوم إعادة بناء صورته كزعيم يتخذ مواقف جريئة تجاه إسرائيل، ولكن هل يمكنه أن يفعل ذلك دون التضحية بمصالح بلاده الاقتصادية والجيوسياسية؟

سياسة إيران: نار بلا دخان مباشر
على النقيض من تركيا، كانت سياسة إيران تجاه إسرائيل تتسم بالعكس تماماً: “نار من دون دخان مباشر.” دعمت طهران الجماعات التي تقاتل إسرائيل (مثل حزب الله وحماس)، وشاركت في عمليات سرية مثل الاغتيالات وهجمات الطائرات المسيّرة. لكنها حرصت على تجنب أي صدام مباشر وكبير مع تل أبيب، باستثناء وجود مستشارين إيرانيين في سوريا.
هذا النهج الإيراني يعكس حكمة براغماتية عميقة، إذ تدرك طهران أن أي حرب مباشرة مع إسرائيل قد تكون مكلفة للغاية. كما قال الفيلسوف الصيني صن تزو في كتابه “فن الحرب”: “أفضل الحروب هي تلك التي لا تُخاض.”

الشرع: بين خيارين متناقضين
إزاء هذين النهجين، يجد أحمد الشرع (الجولاني) نفسه أمام مفترق طرق حاسم. فمع تطلعه لتقديم نفسه كزعيم مركزي جديد في سوريا، يحتاج إلى صياغة سياسة خارجية واضحة تجاه إسرائيل.

الاقتراب من النهج التركي:
إذا اختار الشرع السير على خطى أردوغان، فقد يعتمد سياسة خطابية عدائية ضد إسرائيل، مع الحفاظ على قنوات خلفية للتعاون الاقتصادي أو التفاوض، خاصة إذا كانت أنقرة شريكة رئيسية في دعم حكمه.
لكن هذا النهج يحمل مخاطر كبيرة، إذ قد يضع الشرع في مواجهة مع الحركات المقاومة لإسرائيل، التي قد ترى في مواقفه ازدواجية لا تختلف عن سياسة أردوغان.

الاقتراب من النهج الإيراني:
إذا اختار الشرع السير على خطى طهران، فقد يركز على دعم غير مباشر للعمليات ضد إسرائيل، مع تجنب أي تصعيد علني. هذا الخيار قد يمنحه تأييداً أكبر من القوى المقاومة لإسرائيل، لكنه سيضعه في مواجهة محتملة مع أنقرة، التي لن تقبل بأي تحالف بين دمشق وطهران يستهدف إسرائيل.

توازن هش أم سياسة مستقلة؟
الخيار الثالث، والأصعب، هو أن يحاول الشرع بناء سياسة مستقلة تماماً، تجمع بين الحزم والمرونة. قد يختار توجيه خطاب متزن لإسرائيل، يتجنب التصعيد المباشر، مع السعي إلى تحصين الجبهة الداخلية السورية ضد أي محاولات إسرائيلية للتغلغل.
هذا الخيار يتطلب براعة سياسية ودبلوماسية فائقة، خاصة أنه سيحتاج إلى موازنة العلاقات مع تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة، في وقت واحد. كما قال الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه: “السير على الحبل الرفيع يحتاج إلى توازن، ولكن أيضاً إلى شجاعة.”

الشرع ورهانات المستقبل
السؤال الأساسي هنا ليس فقط إلى أي نهج سيميل الشرع، بل كيف سيحدد أولوياته؟ هل سيعتبر إسرائيل التهديد الأكبر لسيادة سوريا؟ أم أنه سيركز جهوده على بناء الداخل السوري، مع تأجيل أي مواجهة خارجية؟

التحركات القادمة للشرع ستكشف الكثير عن رؤيته الاستراتيجية. ولكن كما قال الفيلسوف الفرنسي بول فاليري: “السياسة هي فن توقع ما لا يمكن توقعه.” وفي الشرق الأوسط، حيث تتشابك المصالح والأطماع، يبقى كل خيار مفتوحاً على احتمالات غير متوقعة.

8. الإيغال الإسرائيلي في سوريا: تداعيات ونتائج
من المؤكد أن النفوذ التركي سيظل المهيمن على المدى القصير في شمال سوريا، خاصة مع خروج إيران التدريجي من المعادلة السورية. لكن على المدى البعيد، يبقى التحدي الأكبر هو قدرة مقاتلي الشرع على التوفيق بين عدائهم لإسرائيل وتكيفهم مع مناورات أنقرة، التي تسعى للحفاظ على توازن مصالحها مع تل أبيب وواشنطن.

طبيعة مقاتلي الجولاني: صراع الهوية والمصلحة
إن مقاتلي الجولاني يتمتعون بخلفية أيديولوجية معادية لإسرائيل، مما يجعلهم في تناقض حتمي مع أي مناورات تركية تهدف للتطبيع مع إسرائيل أو التعاون معها ضد خصوم إقليميين. هؤلاء المقاتلون، الذين خاضوا سنوات من الصراع، يرون في إسرائيل تهديداً مباشراً لسيادتهم وللأراضي السورية.

خروج إيران:
مع خروج إيران من سوريا، ينتفي الدور الطائفي الذي كان يحرك جزءاً كبيراً من الصراع، مما يفتح المجال أمام هؤلاء المقاتلين للبحث عن شركاء جدد يشاركونهم رؤيتهم في مواجهة إسرائيل، بعيداً عن الاعتبارات الطائفية أو الولاءات الإقليمية.

تعزيز السيناريو المعادي لإسرائيل:
الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة لسيادة سوريا، بما في ذلك الغارات الجوية على مواقع عسكرية ومدنية، وتدمير البنية التحتية، تساهم في تغذية عداء أوسع تجاه إسرائيل. هذه الانتهاكات لا تستهدف فقط القدرات العسكرية للنظام السوري، بل تساهم أيضاً في زعزعة الاستقرار وخلق بيئة خصبة للمزيد من التطرف.

الإيغال الإسرائيلي في سوريا: انتهاكات مستمرة
السياسات الإسرائيلية في سوريا لا تقتصر على “حماية الأمن القومي”، كما تدّعي تل أبيب، بل تتجاوز ذلك إلى محاولة فرض سيطرة بالنار على الجغرافيا السياسية للمنطقة. كما هي اليوم تستهدف الغارات الإسرائيلية بشكل أساسي مواقع إيرانية أو تابعة لحزب الله، لكنها غالباً ما تضرب مواقع الجيش السوري، مما يضعف قدرته على فرض السيادة على أراضيه.
هذا الاستهداف المستمر يساهم في تحويل الجيش السوري من قوة قادرة على حماية البلاد إلى قوة مستنزفة ومنهكة، غير قادرة على ردع أي عدوان خارجي.

انتهاك القانون الدولي:
الغارات الإسرائيلية المتكررة تعد خرقاً صارخاً للقانون الدولي، خاصة ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على احترام سيادة الدول الأعضاء.
هذا السلوك الإسرائيلي يعزز فكرة أن تل أبيب تعمل خارج إطار الشرعية الدولية، مما يوفر ذريعة للمقاتلين المعادين لإسرائيل لتبرير استمرار نشاطهم المسلح.

الأهداف السياسية وراء التصعيد الإسرائيلي:
تسعى إسرائيل إلى استنزاف سوريا وتحويلها إلى ساحة صراع دائم، مما يضمن بقاءها ضعيفة وغير قادرة على تشكيل أي تهديد مستقبلي.
الهدف الإسرائيلي ليس فقط القضاء على النفوذ الإيراني، بل أيضاً خلق واقع سياسي وأمني جديد يُضعف أي حكومة مركزية في دمشق.

كيف يدفع ذلك المقاتلين للبحث عن شركاء؟
مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، سيتزايد الضغط على مقاتلي الشرع للرد. وفي ظل غياب دعم إقليمي مباشر (إيران خرجت وتركيا تناور)، قد يجد هؤلاء أنفسهم مضطرين للبحث عن شركاء جدد، سواء من داخل الساحة السورية أو خارجها.

شركاء داخليون:
المجموعات المعارضة الأخرى قد تجد في مواجهة إسرائيل هدفاً مشتركاً لتوحيد الصفوف، مما يقلل من التوترات الداخلية ويركز الجهود على “العدو الخارجي”.

شركاء خارجيون:
الدول أو الجهات الفاعلة المناهضة لإسرائيل، مثل بعض الفصائل الفلسطينية أو حتى قوى دولية ترى في السياسة الإسرائيلية تهديداً للاستقرار، قد تكون مستعدة لدعم المقاتلين السوريين في مواجهة هذا التحدي.

الإيغال الإسرائيلي والمخاطر المستقبلية
استمرار إسرائيل في استهداف سوريا دون رادع يحمل مخاطر كبرى، أبرزها:

تأجيج النزاعات الإقليمية: أي تصعيد إسرائيلي قد يؤدي إلى مواجهة أوسع في المنطقة، خاصة إذا شعر المقاتلون بأنهم مجبرون على الرد بأي طريقة ممكنة.
تعزيز التطرف: الانتهاكات الإسرائيلية تعطي ذريعة للمجموعات المتطرفة لتبرير وجودها واستمرارها، مما يطيل أمد الصراع السوري ويعقّد أي جهود للسلام.
إضعاف الشرعية الدولية: استمرار إسرائيل في انتهاك القوانين الدولية دون محاسبة يضعف من مصداقية الأمم المتحدة ويشجع دولاً أخرى على التصرف بشكل مماثل.

هل تتحرك دمشق؟
رغم كل التحديات، يبقى السؤال الأهم: هل تمتلك دمشق القدرة على توجيه هذا العداء نحو مشروع وطني شامل؟ وهل ستستطيع استعادة السيادة وتوحيد الجبهة السورية في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية؟

الإجابة تعتمد على قدرة دمشق على إعادة بناء جيشها، واستعادة شرعيتها كقوة قادرة على فرض السيادة وحماية الأراضي السورية. وفي ظل غياب أي ضامن دولي لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، يبقى خيار المقاومة هو الأرجح، سواء من خلال المقاتلين الحاليين أو عبر شركاء جدد يظهرون في المستقبل.

سياسة التدمير الاستباقي: خلق الأعداء واستفزاز المحايدين
إن اعتماد إسرائيل على ما تسميه “التدمير الاستباقي”، الذي يقوم على استهداف النوايا وليس الأفعال، هو سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، حيث يتجاوز القواعد المتعارف عليها في القانون الدولي، ويكرّس منطق القوة على حساب سيادة الدول.

1. منطق “محاسبة النوايا”
التبرير الإسرائيلي:
تدعي إسرائيل أنها تستهدف مواقع في سوريا خشية أن تصل إلى أيدي مجموعات مسلحة قد تستخدمها ضدها في المستقبل.
هذا المنطق يشرعن الهجمات الاستباقية دون أدلة فعلية على التهديد الفوري. و يفتح الباب لأي دولة لشن هجمات على أخرى بناءً على “الشكوك” فقط، مما يؤدي إلى فوضى في النظام الدولي.

مثال مفترض:
تخيل أن تقوم دولة ما بشن هجوم شامل على دولة أخرى بذريعة أنها تخشى نوايا حكومة جديدة أو ثورة داخلية قد تهدد مصالحها. هذا السيناريو يخلق سابقة خطيرة قد تتكرر في أماكن أخرى من العالم.

2. الموقف الأميركي: دعم غير مشروط
التأييد الأميركي:
عبرت وزارة الخارجية الأميركية عن دعمها للاعتداءات الإسرائيلية وبررت ذلك بكونه “دفاعاً عن النفس”. فدعم واشنطن لهذه السياسة يعكس ازدواجية في المعايير، حيث ترفض مثل هذه الأعمال في أماكن أخرى، لكنها تدعمها عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
هذا الدعم يعزز فكرة “الفتوة” في العلاقات الدولية، حيث تُمنح دول معينة حق التصرف دون مساءلة، ما يثير غضب الدول الأخرى ويعزز فكرة النظام العالمي غير العادل.

3. نتائج سياسة “الفتوة” الدولية
خلق الأعداء الجدد:
سياسة التدمير الاستباقي، بدعم أميركي، لا تؤدي فقط إلى استفزاز الخصوم الحاليين، بل تدفع المحايدين أيضاً إلى اتخاذ مواقف عدائية. حتى الجهات التي لم تكن تعادي إسرائيل قد تجد نفسها مضطرة للتعاون مع خصومها نتيجة هذا الاستفزاز. و عندما تواجه دول أو مجموعات مختلفة عدواً مشتركاً يتبع سياسة عدوانية، فإن ذلك يخلق بيئة مناسبة للتعاون بينهم، بغض النظر عن اختلافاتهم الأيديولوجية أو السياسية.

4. البعد الإقليمي: بذور التعاون ضد إسرائيل
استمرار إسرائيل في استهداف الجيش السوري وغيره من الفصائل يعزز الشعور بالعداء المشترك تجاهها. هذا الشعور قد يكون الدافع الأساسي للتقارب بين فصائل متباينة أيديولوجياً، مثل مقاتلي الشرع وبقايا فصائل المقاومة الأخرى.
إيران وتركيا:
رغم التوترات بينهما، فإن هذه السياسات الإسرائيلية قد تدفعهما إلى تنسيق غير مباشر، خاصة إذا شعرتا أن مصالحهما الإقليمية مهددة.

5. ما يوحي بذلك أيضاً؟
البيئة الجديدة للتعاون:
الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة توفر ذريعة أخلاقية وقانونية للجهات المتضررة للتعاون ضدها. حيث إسرائيل، بسياساتها الحالية، تزرع بذور تحالفات جديدة قد تكون عابرة للطوائف والحدود.
تنامي الأصوات الدولية الرافضة:
رغم الدعم الأميركي، فإن هناك أصواتاً دولية بدأت تنتقد هذه السياسات وتدعو إلى احترام سيادة الدول.
هذا الانتقاد قد يكون بداية لتحولات في مواقف دولية، تخلق ضغطاً على إسرائيل لتغيير نهجها العدواني.

إسرائيل في مواجهة العواقب طويلة المدى
سياسة “محاسبة النوايا” والتدمير الاستباقي قد تحقق مكاسب تكتيكية قصيرة المدى لإسرائيل، لكنها على المدى الطويل تزرع بذور عداء أوسع، ليس فقط مع أعدائها الحاليين، بل أيضاً مع أطراف محايدة كانت تفضل البقاء بعيداً عن الصراع.فإذا استمرت إسرائيل في هذه السياسة، فإنها لن تواجه فقط خصوماً تقليديين، بل تحالفات جديدة أكثر تنوعاً وعداءً، ما قد يعيد تشكيل المشهد الإقليمي ضدها.

الشرع ينتقد إسرائيل: رسائل ضمنية وسط واقع إقليمي متشابك:

انتقاد الشرع لإسرائيل بصورة واضحة يحمل أبعاداً استراتيجية تكشف عن مواقفه تجاه الصراع الإقليمي المعقد. تصريحات الشرع جاءت في سياق يتجاوز مجرد الإدانة إلى محاولة رسم مسار سياسي ودفاعي متوازن، وسط واقع داخلي منهك وصراعات إقليمية تتقاطع فيها المصالح الدولية. حيث أشار إلى أن مبررات إسرائيل لتجاوزاتها ضد سوريا ليست سوى حجج واهية لا تبرر التصعيد الخطير. مما يعتبر تجاوز إسرائيل لخطوط الاشتباك يُهدد بتصعيد غير مبرر في المنطقة.
الانتقاد لم يكن مجرد رد فعل سياسي، بل رسالة لإسرائيل والمجتمع الدولي بأن تصرفاتها تؤدي إلى تقويض الاستقرار في الشرق الأوسط.

2. أولويات الشرع: سياسة واقعية في ظل واقع داخلي صعب
تثبيت دعائم الحكم:
الشرع يدرك أن الوضع الداخلي في سوريا لا يحتمل الانخراط في صراعات جديدة، خصوصاً مع التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه البلاد.
التعامل مع القضية الكردية لهذا بدى أن الشرع يركز على إيجاد حلول للقضية الكردية باعتبارها أولوية داخلية قد تؤثر على وحدة سوريا وسيادتها.
النهج الإسرائيلي قد يزيد من تعقيد هذه المسألة، خاصة إذا استمر في استهداف شمال سوريا والمناطق الحدودية.

3. الجرائم الإسرائيلية: تحديات أمام الدبلوماسية السورية
زيارة وفود استيطانية للأراضي المحتلة:
هذه الخطوة تُعتبر استفزازاً مباشراً وتصعيداً يهدف إلى ترسيخ واقع الاحتلال على الجولان السوري.
الشرع قد يُوظف هذا الحدث لإبراز ملف الاحتلال الإسرائيلي كجزء من سياسته الخارجية المستقبلية، خاصة في المحافل الدولية. فالتحركات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة تزيد من تعقيد الموقف السوري وتُضعف أي محاولات لإعادة ترتيب الأولويات الداخلية.

4. ماذا عن تركيا وموقفها من إسرائيل؟
سياسة أنقرة المتقلبة:
تركيا تحت قيادة أردوغان تعتمد نهجاً متوازناً مع إسرائيل يجمع بين التصعيد الإعلامي والتعاون الاقتصادي.
التصريحات العدوانية تجاه إسرائيل لا تعكس دائماً سياسات أنقرة الفعلية، التي تتسم بالمرونة في الحفاظ على المصالح المشتركة مع تل أبيب.
المعادلة الإقليمية بين أنقرة ودمشق:

إذا واصلت إسرائيل استفزازاتها في سوريا، قد تجد أنقرة نفسها أمام خيار معقد: دعم دمشق بطريقة غير مباشرة أو مواجهة انتقادات داخلية وإقليمية بسبب تقاعسها عن التصدي لسياسات إسرائيل.
هذا الوضع قد يدفع تركيا إلى مراجعة مواقفها بما يخدم توازناتها الإقليمية، خصوصاً مع تصاعد دور روسيا وإيران في المنطقة.

5. إسرائيل وسياسة فرض الأمر الواقع
إسرائيل تستغل الفراغ الإقليمي:
الوضع المنهك في سوريا يُعطي إسرائيل مساحة أكبر للتحرك بحرية وفرض وقائع جديدة على الأرض.
دعم واشنطن المستمر لإسرائيل يُعزز من هذه التحركات، مما يضعف أي جهود عربية أو دولية لإعادة الاستقرار إلى المنطقة.
تصعيد أم احتواء؟
قد يحاول (أحمد الشرع) القائد العام لإدارة العمليات العسكرية وزعيم “هيئة تحرير الشام” استخدام الضغوط الإسرائيلية كذريعة لتعزيز موقفه السياسي داخلياً، وإعادة ترتيب الأولويات الدفاعية والخارجية. لكن التصعيد الإسرائيلي قد يُجبره على كشف توجهاته المستقبلية في وقت أقرب مما كان يُخطط له.
الخلاصة: بين الواقع والتحدي
انتقاد الشرع لإسرائيل يعكس إدراكه لحجم التحديات الإقليمية، لكنه يواجه معادلة صعبة بين التركيز على الداخل السوري ومواجهة التهديدات الخارجية.
أما تركيا، فرغم خطابها العدائي تجاه إسرائيل، فإنها لا تزال تُفضّل سياسة التعاون البراغماتي مع تل أبيب، مما يجعل موقفها تجاه الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا مرهوناً بتغيرات المعادلة الإقليمية.

إذا استمرت إسرائيل في سياسة التصعيد، فقد تدفع الأطراف الإقليمية المختلفة، بما فيها تركيا وسوريا، إلى إعادة تقييم علاقاتها وتوجهاتها، ما يُنذر بتحولات قد تُعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة.

تركيا وإيران: تقاطع المصالح وصراع النفوذ في سوريا الجديدة
تصريحات هاكان فيدان الأخيرة تحمل أبعاداً استراتيجية تشير إلى تطلعات تركيا في سوريا الجديدة، وخصوصاً دورها في مواجهة الكرد وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية. لكن الحديث عن مستقبل النفوذ الإيراني وحزب الله في ظل هذه التحولات يفتح الباب لتساؤلات عديدة عن مدى تأثير التحولات التركية والإسرائيلية على الدور الإيراني في سوريا.

1. الموقف التركي: ضد الكرد وضد واشنطن؟
تصريحات فيدان بشأن المرحلة الانتقالية:
تركيا تعتبر أن أي مشاركة للكرد في السلطة الانتقالية السورية هو تهديد مباشر لأمنها القومي. هذا الموقف يضع أنقرة في مواجهة واضحة مع واشنطن، التي تدعم القوات الكردية في شمال شرق سوريا.

رسالة إلى إيران وروسيا:
بتأكيدها على “الكلمة العليا” في سوريا الجديدة، تُرسل تركيا إشارة إلى حلفائها المفترضين بأنها تسعى لتكون اللاعب الرئيسي في صياغة مستقبل سوريا. و مع التعاون مع روسيا وإيران قد يستمر، لكن الخلافات حول الأكراد ودور الفصائل المسلحة الموالية لأنقرة قد تُثير توترات.

2. إيران وحزب الله: بين التراجع والتكيف
تراجع النفوذ الإيراني:
إيران تبدو في مرحلة إعادة تموضع بعد سنوات من التدخل العسكري المباشر في سوريا.
حزب الله أيضاً خفّف من وجوده العسكري المباشر، خصوصاً مع تراجع حدة الصراع الداخلي السوري وانشغاله بالوضع اللبناني.

تعتمد إيران اليوم على تحالفاتها مع قوى محلية داخل سوريا، مثل الفصائل الشيعية والمجموعات الموالية لها، لضمان الحفاظ على نفوذها. لكنها تواجه صعوبة متزايدة في مواجهة التحركات التركية، خاصة مع تقاطع المصالح بين أنقرة وتل أبيب في استهداف الوجود الإيراني.

3. حزب الله في المشهد السوري الجديد
الدور المحدود:
حزب الله لم يعد القوة المهيمنة كما كان خلال ذروة الصراع السوري.
لكنه يحتفظ بوجود استراتيجي على الحدود السورية اللبنانية وفي مناطق جنوب سوريا، لضمان استمرار دوره كقوة ردع ضد إسرائيل. و مع تعاظم الدور الروسي والتركي في سوريا، يجد حزب الله نفسه في موقع الدفاع عن مكتسباته دون القدرة على فرض شروطه على الطاولة السياسية.
أي تحرك إسرائيلي ضد حزب الله أو إيران قد يدفع الحزب إلى الرد عبر سوريا، مما قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب في المنطقة.

4. تركيا وإيران: صراع نفوذ أم تنسيق مرحلي؟
إن التنافس على الملف السوري: من جهة تركيا التي تُصر على دور رئيسي في مستقبل سوريا، بينما تسعى إيران للحفاظ على مكتسباتها. يخلق صورة من التباين في الرؤى بين أنقرة وطهران حول مستقبل الأكراد ودور الفصائل المسلحة والتي قد يؤدي إلى خلافات كبيرة. بكن رغم التنافس، هناك مجال للتنسيق بين الطرفين في مواجهة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي.
لكن هذا التنسيق لن يُخفي التوترات طويلة الأمد بينهما، خاصة مع اختلاف الأولويات.

5. الخلاصة: سوريا الجديدة وموقع الجميع
تركيا: تسعى لأن تكون اللاعب الرئيسي، مع التركيز على منع الأكراد من المشاركة السياسية وتهميش النفوذ الأمريكي.
إيران وحزب الله: في مرحلة التراجع وإعادة التكيف، لكنهما يحتفظان بمواقع استراتيجية لضمان عدم فقدان التأثير.
إسرائيل: تواصل استهداف الوجود الإيراني في سوريا، مما قد يُعقد حسابات الجميع ويدفع الأطراف المختلفة إلى مراجعة مواقفها.
على المدى الطويل، يبدو أن النفوذ التركي في سوريا سيكون في صراع مفتوح مع النفوذ الإيراني، حيث ستحاول كل من أنقرة وطهران فرض رؤيتهما على مستقبل سوريا، بينما يبقى الشرع أمام تحدي تحقيق التوازن بين هذه القوى الإقليمية والدولية.

سياسة هيئة تحرير الشام تجاه إسرائيل: احتمالات المرحلة المقبلة
مع سيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق وبداية تنظيم سلطتها، يبدو أن العلاقة المحتملة بينها وبين إسرائيل ستعتمد على عدة عوامل متداخلة، تشمل الأيديولوجيا، الظروف الإقليمية، والديناميكيات الدولية.

1. موقف أيديولوجي رافض لإسرائيل
التركيبة العقائدية:
هيئة تحرير الشام تمثل تيارًا إسلاميًا جهاديًا يُعرف بعدائه الأيديولوجي لإسرائيل ودعمه التاريخي للقضية الفلسطينية. هذا الارتباط يجعلها أقرب إلى المواقف التقليدية التي تعادي إسرائيل بشكل علني، على الأقل على المستوى الخطابي.

الشعبية الداخلية:
للهيئة اليوم مصلحة في كسب تأييد الشارع السوري، الذي يُعتبر بغالبيته داعمًا للقضية الفلسطينية ومعاديًا للاحتلال الإسرائيلي. فأي مهادنة تجاه إسرائيل قد تُضعف شرعية الهيئة أمام جمهورها. بكن مع التركيز على الاستقرار الداخلي كأولوية بناء السلطة، يُتوقع أن تكون أولوياتها موجهة نحو تثبيت سلطتها وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدمرة.
هذا قد يفرض عليها تجنب أي تصعيد عسكري مع إسرائيل أو القوى الدولية في المرحلة الأولى، خصوصًا مع حاجتها لتفادي تدخلات خارجية جديدة.
مهادنة مرحلية:

قد تعتمد الهيئة نهجًا براغماتيًا يُشبه ما اتبعته فصائل أخرى، حيث تُجنّب نفسها صراعًا مباشرًا مع إسرائيل، دون أن تتنازل عن مواقفها الأيديولوجية.
3. استثمار في القضية الفلسطينية

تعزيز شرعيتها عبر فلسطين:
يمكن للهيئة أن تعيد توجيه خطابها السياسي لتركيز جهودها على دعم القضية الفلسطينية، سواء عبر الإعلام أو بتقديم دعم محدود للمقاومة في غزة والضفة الغربية. هذا النهج يمنحها شرعية إقليمية ويُسهم في خلق صورة إيجابية لها لدى الدول والمجتمعات المؤيدة لفلسطين.
تحديات الدعم العسكري:
أي محاولات لدعم المقاومة الفلسطينية ماديًا أو لوجستيًا ستواجه عوائق كبيرة بسبب الحصار الدولي وإسرائيل، مما قد يُبقي الدعم رمزيًا أو غير مباشر.
4. احتمالات المواجهة مع إسرائيل
تصعيد محتمل:
إذا شعرت الهيئة بأن إسرائيل تُهدد سلطتها أو تتدخل في شؤونها، فقد تتجه نحو التصعيد العسكري، خصوصًا إذا دعمتها قوى إقليمية كإيران أو حزب الله.
إسرائيل، التي تُجيد التعامل مع مثل هذه التهديدات، قد تُنفّذ ضربات استباقية لإضعاف الهيئة ومنعها من تحقيق أي تقدم عسكري تجاه الجولان المحتل.

حرب استنزاف:
إذا توترت العلاقة بين الطرفين، قد تلجأ الهيئة إلى تكتيكات غير مباشرة، كدعم مجموعات مقاومة محلية تعمل ضد إسرائيل في مناطق قريبة من الحدود.

5. الموقف الدولي من الهيئة وإسرائيل
إسرائيل تكسب الدعم الغربي:
إسرائيل قد تستخدم سيطرة هيئة تحرير الشام على سوريا لتبرير أي عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، مستغلة تصنيف الهيئة كـ”منظمة إرهابية” لدى العديد من الدول.
هذا يمنح إسرائيل غطاءً دوليًا لأي تصعيد عسكري محتمل.

حاجة الهيئة إلى الاعتراف الدولي:
الهيئة، بدورها، قد تُحاول تحسين صورتها عبر ضبط النفس تجاه إسرائيل والسعي لإظهار نفسها كسلطة مسؤولة تسعى لبناء سوريا جديدة.
الخلاصة
من المرجح أن تنتهج هيئة تحرير الشام سياسة مزدوجة تجاه إسرائيل، تجمع بين الخطاب العدائي التقليدي والتصرف البراغماتي المرحلي.
سيبقى التركيز الأكبر للهيئة على تثبيت سلطتها داخليًا، مع محاولة استثمار القضية الفلسطينية لتعزيز شرعيتها شعبيًا وإقليميًا.
لكن أي تصعيد أو تدخل إسرائيلي مباشر قد يُغير قواعد اللعبة ويدفع الهيئة نحو مواجهة مفتوحة، خصوصًا إذا تلقت دعمًا من أطراف إقليمية كإيران أو حزب الله.
على المدى الطويل، قد تكون سياسة الهيئة تجاه إسرائيل عاملًا رئيسيًا في تحديد شكل العلاقات الإقليمية ومستقبل الاستقرار في سوريا.

#سفيربرس ـ بقلم : خلدون شاكر اللولح
كاتب ومراقب مستقل.

لم أنتمِ يومًا إلى أي جهة موالية أو معارضة. أكتب بحرية بعيدًا عن الاصطفافات، وأحاول نقل رؤيتي بصدق وتوازن في مواجهة تعقيدات الواقع.
15 ديسمبر/ كانون الأول /2024

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *