سوريا بين اليوم و الأمس ـ بقلم : د. سناء شامي
#سقيربرس ـ روما

في القرن الرابع قبل الميلاد، حاول الإسكندر المقدوني دمج الشرق والغرب: سوريا كانت بالنسبة له المكان الأجدر لمثل هذا اللقاء المذهل بين الروح الكلاسيكية لليونانيين والروح العاطفية للشرق السامي. وكانت النتيجة هي ولادة المدن الهلنستية الرائعة في أفاميا وأنطاكية، والتي توضح الدور الأساسي الذي لعبته سوريا في هذا اللقاء الذي كان لا بد منه بين الحضارة اليونانية الرومانية والحضارة الشرقية، لأن سوريا كانت مقاطعة حدودية بين الغرب الروماني والشرق الفارسي. تُعّد سوريا مركزًا للتجارة و بين شمال أفريقيا و الجزيرة العربية والشرق والغرب وآسيا الصغرى، و هي أيضًا بوابة أساسية إلى أوروبا. بفضل موقعها الجغرافي أصبحت سوريا بلداً متعدد الأعراق، حيث امتزجت فيه شعوب ولغات مختلفة: الآراميون، الكنعانيون، اليهود، الأنباط، الفرس، اليونانيون، الرومان، البيزنطيون والعرب.
هذه هي سوريا، لا جديد تحت سمائها، فالكل تهافت و ما زال يتهافت عليها… قدرها أن تستقبل الجميع… هناك من يدخل عاشقاً، و هناك من يقتحمها طامعاً، هناك من يسرقها و يمضي، و هناك من يبقى فيها ليزيدها تنّوعاً… سوريا، منذ آلاف السنين إعتادت زوّارها الطيبيين، و المجرمين، و المنافقين، و الحالمين، الملوك، الأمراء، الرؤساء، الفرنجة، العرب، المؤمنين و الكافرين، البتروليين، الصهاينة، الوطنيين و تجار الوطن، و الأمريكيين و الإرهابيين و أصحاب العمامات و اللحى، و حاملين الصولجان و الصليب و سرّاق الأنبياء و محرفيّن الكتب السماوية، و الجهلاء و العلماء… سوريا إعتادت كل هؤلاء، لكن لم تعتاد يوماً الزوال، لأنها أرض الأنبياء و زوالها مرتبط فقط بيد خالق الأرض و السموات. هي تعرف ما يُحاك لها و تعرف ما في بطنها من ثروات، و بأن ولادة قيصيرية تنتظرها: صمودها جعلهم يبدلون المبضع السياسي بآخر إقتصادي. سوريا تعرف، بأن حرب العراق-إيران فتح باب صراع عربي-قومي-فارسي، و بأن حرب الكويت حولت الصراع إلى إسلامي-إسلامي أي شيعي سني، و هذا كان قد بدأ منذ أن أعاد الغرب الخميني إلى إيران ليحكم بإسم الثورة الإسلامية… سوريا تعرف بأنها في نهاية المطاف هي المستهدفة، فبعد الإتفاق الإبراهيمي بين أمريكا و إسرائيل و الذي فرض على دول الخليج إتفاقية الدفاع المشترك، يحاولون جميعهم إقتحامها من باب الإقتصاد… إعتادت سوريا على جميع الصراعات الخارجية و الداخلية، و على وجهات النظر الجيوسياسية و جيو طاقة و جيو إقتصاد… ربما تتظاهر بقبول الإستعمار الزئبقي الإقتصادي، الذي سيرتدي حلة السلام و الإنفتاح و الإنتصار على أسد كانوا هم صانعين أنيابه و مخالبه، و قبله أيضاً والده و قبلهم أيضاً جميع رؤساء و ملوك المنطقة، منذ سقوط الدولة العثمانية، الذي كان لا بد من حدوثه في ظل التغيرات الجيوسياسية التي لم تتوقف يوماً و الناتجة عن صراع القوى الكبرى فيما بينها…قوى تعود اليوم إلى سوريا بمسرحية الإقتصاد مقابل السلام … سوريا تستوعب كل هذا، لكن بشرط أن لا يتنازل شعبها عن وجوده و حضارته و أن لا يشارك في هدم الهوية الحضارية و التراثية و الأخلاقية و الدينية و كل ما يميز هوية بلاد الشام بإسم الإنفتاح الإقتصادي، و أن لا ينبهر بلعبة الرخاء المادي، فخصخصة الإقتصاد سيف ذو حدين، ففي أوربا أدى إلى تحجيم دور الدولة و أضعف من سيادة قراراتها… إذا إستطاعت سوريا تطبيق الليبيرالية بشروط سورية فقط، كما فعلت اليابان في السابق ، فهذا سيؤدي إلى تفاعلات إيجابية لمستقبل البلد، أما إذا سيطرت النيوليبرالية على القرار السياسي من باب الإقتصاد و مؤسسات المال الدولية الفوق حكومية، فأن الأمر سيؤدي إلى تذويب كل خصوصية بلاد الشام في البوتقة الإمبريالية العالمية، و سيصبح معادة إسرائيل، ممثلة الصهيو إمبريالية في المنطقة، خطئ سياسي لا يجوز إرتكابه كي لا تتضرر المصالح الإقتصادي للشركات المستثمرة و التي سيكون لها ثقل مركزي في القرار السياسي…ربما سيحاولون إقناع سوريا بأن إسرائيل ليست بالعدو، بل هي شريك إستراتيجي ضد مطامع إيران، و ربما سيفرضون عليها السلام مقابل الإستعمار الإقتصادي لثرواتها… هل تتذكرون عندما غورو الفرنسي نزل بجيوشه على الساحل السوري، ثم فرض على الملك فيصل بأن يحّل الجيش و يسلّم السكك الحديدية و يقبل التعامل بالعملة الفرنسية و بأمور أخرى تقضي على سيادة سوريا مقابل السلام… حينها تردد فيصل ثم قبل بعد أن وافقت الأغلبية على ذلك، من الضروري أن يعود الشعب لجذور مآساته، حينها الوحيد الذي عارض هذا الخنوع كان وزير الدفاع يوسف العظمى الذي خرج بثلاثة آلاف من الجنود التي تحمل بنادق إنكليزية، ليس إلا…كان من الطبيعي أن تنتصر فرنسا بأسلحتها الثقيلة و يستشهد يوسف العظمة و من معه في ميسلون، دفاعاً عن كرامة بلده، حتى الشرفاء الذين دافعوا عن سوريا، دافعوا ببنادق إنكليزية، أكرر، من الضروري أن يعود الشعب لجذور مآساته، كي يفهم كم أن اليوم شبيه بالأمس… بإستشهاد يوسف العظمى إستشهدت الدولة السورية، و إبتدأت دولة السلطة… يروي لي أبي حكاية هروب جدي من حي الصالحية ليختبئ في منطقة الحفة في جبال اللاذقية هروباً من الفرنسيين الذين إعتبروه إرهابي لأنه كان يساند حركات التمرد ضدهم و يدافع عن سوريا بما يملك، لم يكن جدي الشاب حينها ليستوعب ظروفه الجديدة و لماذا إنتقل من ظل دولة عثمانية إسلامية قوية إلى دخول دولة أجنبية على بلده… ثم للوهلة الأولى إستبشر جدي خيراً و طمئن قلبه، فالثورة العربية الكبرى جاءت من الحجاز، و لعّل فيها خير و تحرر من الحكم العثماني… لكنه تفاجئ بتقسيم فرنسا لبلده إلى ستة دول: دولة دمشق، حلب، العلويين، جبل لبنان، جبل الدروز و دولة لواء إسكندرون، لم يكن يعرف جدّي ماذا تعني كلمة الإنتداب و من هو غورو اللئبم هذا و لا ماذا يعني تقسيم ولايات الشام العثمانية! كان جدي مثل آلاف الرجال يفهم لغة الكرامة فقط و بأن الشام شامه و كان كل ما يهمّه هو أن يحكم السلطان بالعدل… كان جدي يربط حب الشام بحبه لناسها، و للعدل و الحق، و بحبه للصلاة و للجار أيّاً كان معتقده… لكن غورو هذا لا دين له فهو يريد سرقة بلاد الشام و تدنيس حرماتها. رحل يوسف العظمة و هرب جدي إلى جبال اللاذقية، و توالت على دمشق حكومات إدارية تعيّنها تارة فرنسا، و تتحالف مع معارضيها بريطانيا و صارت سوريا منزوعة السلاح و بدون جيش و لا بنك مركزية، ثم في 2 نيسان/آبريل من عام 1922 زار المسؤول الأمريكي تشارلز مارتن دمشق ليدرس مدى تقبّل أهل الشام لفكرة الإنتداب… و إنتشر الناس في الشوارع منددين بزيارته و برفض الإنتداب و تمزيقه لسوريا على أساس عرقي… لكن فرنسا إستمرت في إستعمارها، و صنعت ما يسمى بالإتحاد الفيدرالي السوري بين “الدول الخمسة” إذ تركت دولة لبنان خارج الإتحاد ليصبح دولة “مستقلة”. رحل يوسف العظمة، و ناضل زعماء الثورة السورية الذين أجبروا فرنسا على توحيد سوريا، و بعد معاهدة باريس 1936 من أجل إستقلال سوريا، و إنتخاب الآتاسي رئيساً، توالت الأزمات السياسية و حلت الحرب العالمية الأولى و سلّم الفرنسيين لواء إسكندرون، و فشلت حكومة جميل مردم و من تلاها من حكومات يقررها الغرب، بالسيطرة على الوضع، مما أدى إلى إستقالة الآتاسي…و عاد الجيش الفرنسي المراكشي ينتشر في أحياء و شوارع دمشق، و تمّ حل الدستور و تشكلت حكومة إدارة أعمال يرأسها بهيج الخطيب الذي كان مديراً في وزارة الداخلية، و لم تكن لحكومته الإدارية أي دور سياسي، بل عمل على فصل الكثير من المدراء و الموظفين السوريين، و صارت حكومة الخطيب تابعة لحكومة فيشي الفرنسية و الموالية للنازية، و منذ تموز/يوليو 1940 فرض الحلفاء حصار إقتصادي على سوريا و تمّ إغلاق إنبوب النفط العراقي الذي كان يمّر بسوريا و مُنعت التجارة بين سوريا و لبنان و الدول المجاورة، و أدى هذا الحصار الإقتصادي إلى نتائج وخيمة و رفع أسعار الخبز و المواد الأساسية إلى خمسة أضعاف… لقد حُوصرت سوريا إقتصادياً لمنع ألمانيا من إستغلالها لضرب الحلفاء في مصر و العراق… ثم في عام 1941 دخل الحلفاء سوريا، و إنتهت حكومة الخطيب ليحل محله خالد العظم… ثم عادت و دخلت فرنسا الحرة و أُنتخب تاج الدين الآتاسي رئيساً للجمهورية و في 28 إيلول/سبتمبر 1941 تمّ الإعلان عن إستقلال سوريا، على أن تُجرى إنتخابات نيابية حالما سمحت الظروف الدولية بذلك…و تبدّل لقب المندوب الفرنسي بلقب الممثل الفرنسي… و في عام 1943 سمحت فرنسا للسيد عطا الأيوبي بتشكيل المجلس النيابي، ثم تم إنتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية… و في نيسان 1946 رحل آخر جندي فرنسي من سوريا، فقد إرتبط إستقلال سوريا بنهاية الحرب العالمية الثانية… لتبدأ مرحلة لعب سياسي جديدة، من خلال إدخال سوريا في هيئة الأمم المتحدة و الجامعة العربية لتصبح عضو مؤسس فيها… رحل جدّي و جميع الشرفاء الذين دافعوا بإيمان مطلق عن شرف الشام، و تراجع دور الكتلة الوطنية في الإنتخابات اللاحقة، و زاد صراع 1948 مع إسرائيل تفاقم الوضع الإقتصادي، و تعاظم دور الجيش و إنقلب رئيسه حسني الزعيم على رئيس الدولة القوتلي، و غضب الشعب من حسني الزعيم الذي أقرّ الهدنة مع إسرائيل، و أوقف العمل بالدستور و أجرى إنتخابات أدت إلى فوزه بالرئاسة …و بعد ثلاثة أشهر فقط من حكمه، أطاح به سامي الحناوي و تشكلت من جديد حكومة وطنية بقيادة هاشم الأتاسي، الذي سعى مع زعماء وطنيين من حماة و حلب للتقرب من العراق إقتصادياً و عسكرياً من أجل تحقيق سوريا الكبرى و توحيد الهلال الخصيب تحت التاج الهاشمي، إلا أن إنقلاب الشيشكلي مدعوماً من المملكة المصرية و المملكة العربية السعودية حال دون ذلك، ألم أكرر لكم بأنه ما أشبه اليوم بالبارحة…و توالت الإنقلابات و الإنقسامات وصولاً إلى إنتخابات عام 1954 و صعود اليسار البعثي، و حشدت تركيا جيوشها بعد توقيع سوريا الوحدة مع مصر الناصرية في عام 1955، و تم إغتيال عدنان المالكي، و إتُهم حزب القومي الإجتماعي بإغتياله…فشلت الوحدة مع مصر و سيطر مجلس الأمن القومي على الوضع في سوريا… و إستمرت الإنقلابات و تغيير الدستور وصولاً إلى آخر رئيس في الجمهورية السورية الأولى، ألا و هو ناظم القدسي، و رئيس حكومته معروف الدواليبي الذي أعتمد نظام الإقتصاد المفتوح فنظمت الأحزاب الإشتراكية مظاهرات ضد الرجعية… ثم 1962 إنقلاب فاشل ضد ناظم القدسي تلاه في 8 آذار / مارس من عام 1963 إنقلاب آخر من قِبل حزب البعث المهيمن على السلطة العسكرية، و تعطل الدستور مرة أخرى و أُعلنت حالة الطوارئ و تنافرت قيادات حزب البعث إلى حين إنقلب حافظ الأسد بمعاونة أخوه رفعت و مصطفى طلاس على صلاح جديد الداعم لتحرير فلسطين و على الرئيس الآتاسي بما سمّاه الحركة التصحيحية، التي في النهاية حققت أطول فترة حكم ثابتة في تاريخ سوريا… ميشيل عفلق المفكر السوري الذي أطلق شعار وحدة عربية إشتراكية و هو أحد مؤسسي حزب البعث العربي في عام 1947، كان يهدف مع مفكرين عرب نزهاء مثله بالإطاحة بجميع الحكومات المدعومة من الغرب و بناء إقتصاد صناعي عربي حديث، لكن إلى يومنا هذا رحل النزهاء و بقيت شعارات عفلق حلماً، و إستمر الغرب و ما يزال بإدارة مصير سوريا من وراء الكواليس…ها هي سوريا ما زالت شاهدة على تداول حكمها بين مستعمر غربي و آخر وطني… رحم الله جدي و غفر له، فقد مات معتقداً بأنه طرد العدو من الشام.
#سقيربرس ـ روماـ بقلم : د. سناء شامي