كتبت ـ د. ســـناء الشــــامي EIC: East India Company
#سفيربرس ـ روما

إعلان
الثلاثاء 28 كانون الثاني/جانفي عقدت في العاصمة الإيطالية روما، فعاليات منتدى الأعمال العربي الإيطالي الرابع الذي نظمته الغرفة التجارية العربية الإيطالية المشتركة بالتعاون مع اتحاد الغرف العربية بهدف تعزيز الروابط الاقتصادية بين العالم العربي وإيطاليا. و بناءً على دعوة الحضور التي تلقتها جمعية البندقية-الصداقة الإيطالية العربية فقد حضرت هذا الملتقى مع رئيس الجمعية المهندس باولو كابوتسو و الإعلامي المعروف، عضو الجمعية و مسؤول علاقاتها العامة الخارجية و عضو فاعل في الغرفة التجارية الهندية العربية د. وائل عوّاد. ركز المؤتمر على كيفية تجاوز التحديات التي تواجه الجانبين العربي والإيطالي على الصعيد الاقتصادي والتنموي، وبحث تطوير العلاقة إلى تأسيس شراكة استراتيجية بين الجانبين، من خلال جمع كوكبة من رجال الأعمال والمؤسسات المالية والتجارية من الجانبين و دعم التعاون والفرص الواعدة على صعيد المشروعات الاقتصادية التنموية المتنوعة التي تحقق أهداف الجانبين العربي والإيطالي. شارك في هذه الفعالية د. أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، و الذي مازحته خلال دردشة خاطفة قائلة له “إنك الرجل الذي إنتقدته كثيراً و مدحته قليلاً”، فأجابني بدبلوماسيته المعهودة مازحاً: ” و أنت الصدفة الأجمل لي لهذا اليوم… في الحقيقة تفاجئت بمداخلة د. أبو الغيط التي إعتمدت على السرد المباشر باللهجة المصرية، مصرحاً بأنه فضّل هذا الإسلوب بدلاً من الكلمة الرسمية التي حضّرها مسبقاً، و ليس هذا الذي فاجئني بل تركيزه في الحديث عن أهمية العلاقات الإنسانية بين الشعوب و عن العلاقات الطيبة المستمرة بين مختلف الشعوب و عمق العلاقات الودية بين إيطاليا و مصر منذ كليوبترا و سيزار و آنطونيو. لم يتحدث أبو الغيط عن إستثمارات أو عن دور الشركات بل عن دور التفاعلات بين الناس ذاكراً بشاعة ما يجري للناس و الأطفال في غزة و في فلسطين… فاجئني د. أبو الغيط في تلميحه لما يحدث في غزة خلال مؤتمر للتجارة و الإقتصاد الكل يبحث فيه عن إمكانية صفقات، و لكن… شارك أيضاً هذا المؤتمر رئيس إتحاد الغرف التجارية آندريا بريته، و عميدة السفراء العرب في روما سعادة السفيرة آشمان عبد الحميد الطوقي، رئيس الغرفة التجارية التونسية، باربرا تشيمّينو نائبة رئيس إتحاد الصناعة، التي حاورتها بضرورة تطوير إستراتيجية العلاقات الإقتصادية بين إيطاليا و العالم العربي مع الأخذ بعين الإعتبار الجانب الثقافي و عادات و تقاليد هذا العالم و أهمية ذلك في تشكيل علاقة تجارية تشاركية بين الطرفين. من المشاركين أيضاً كان مشاركاً د. خالد حنفي الأمين العام للغرف التجارية و وزير سابق, بيترو باولو رامبينو رئيس الغرف الإيطالية العربية المشتركة، لورنسو أورتونا من مكتب رئيس الوزراء و برلماني و منسق فريق عمل خطة ماتيي و تأثيرها على الدول العربية، السيد كامل المولى رئيس مجلس التجديد الإقتصادي الجزائري، كذلك السيدة هدى يسى، رئيسة اتحاد سيدات الأعمال العرب و إتحاد مصر، ممثل في تحالف البريكس، و العديد من الشخصيات الفاعلة الإيطالية و العربية…
بالتأكيد كان مؤتمراً هاماً و هذا الحضور الكبير من مختلف الدول الآسيوية و العربية و الإفريقية و الإيطالية، يؤكد على إن العالم اليوم يتحدث لغة البيزنس و بأن شركة الهند البريطانية التي تحدثت عنها في مقال سابق، قد إنتصرت على العالم. إن الشرق و الغرب المنقسم، يجتمع اليوم في روما متحدثاً بلغة المصالح أولاً، باحثاً في ساحة المصالح الإقتصادية المشتركة مكاناً للإستمرار، في عالم تقرر قوانينه و مساره الشركات المتعددة الجنسيات و أباطرة البنوك و الإحتكار، و الفضل كله في وجود و تنامي هذه الشركات يعود لشركة كانت تُعرف في السابق باسم شركة الهند الشرقية البريطانية (EIC).
لفهم سيطرة الإقتصاد النيوليبرالي على العالم، من الضروري وضع هذه الظاهرة بدقة في سياقها التاريخي المرجعي. إن أي دراسة تأخذ في الاعتبار الموضوعات المتعلقة بالعولمة لا يمكنها أن تتجاهل المعرفة الدقيقة بالأحداث التاريخية التي وقعت منذ القرن السابع عشر مروراً بالثمانينيات و القرن العشرين وأوائل تسعينياته، والتي اتسمت بتفكك النموذج الثنائي القطبية في أعقاب إنهيار الإشتراكية مع إنهيار الاتحاد السوفياتي و صعود الولايات المتحدة إلى مرتبة القوة العظمى العالمية الوحيدة ومن الانتشار التدريجي للأيديولوجية الاقتصادية الليبرالية الجديدة في الغرب، ثم في بقية العالم.
أدى تفكك الاتحاد السوفييتي، المنافس الرئيسي للولايات المتحدة على المستوى السياسي والاقتصادي والاستراتيجي والأيديولوجي، إلى دفع إدارة واشنطن إلى تطوير عقيدة جيوسياسية تنطلق من الافتراض القائل بأن الولايات المتحدة، التي أصبحت القوة العظمى الوحيدة على الساحة العالمية، قادرة على فرض هيمنتها على العالم. إن العالم، في ظل نظام عالمي جديد، سوف يضطر إلى الاضطلاع بمهمة تعزيز زعامته “الأحادية القطبية” لبقية الكوكب، من خلال سياسات نيوليبرالية ترى في تكامل الأسواق العالمية هدفها الرئيسي. وقد حظي هذا الهدف بدعم علني من جانب جماعات المصالح المرتبطة بالشركات المتعددة الجنسيات الكبرى، و الذين كانوا رعاتها النشطين منذ بداية العولمة، و التي من وجهة نظري بدأت مع أول شركة متعددة الجنسيات(EIC)، و كانت قد تأسست عام 1600 بدعم من الحكومة البريطانية وجيش خاص كبير، بنهب شبه القارة الهندية من عام 1757 حتى عام 1780. أجبر الوضع الفوضوي الحكومة البريطانية على التدخل والسيطرة على ممتلكات شركة الهند الشرقية في عام 1858.
حققت شركة الهند الشرقية أرباحًا بملايين الدولارات من التجارة العالمية في التوابل والشاي والمنسوجات والأفيون، وأصبحت هذه الشركة الخاصة الأداة التي استخدمتها بريطانيا لإدارة سياساتها الإمبريالية في آسيا. وقد تعرضت لانتقادات بسبب إنشائها للاحتكارات، وظروف التجارة القاسية التي فرضتها، وإلحاق الضرر بتجارة الصوف. وأخيرا وليس آخرا، قامت شركة الهند الشرقية البريطانية بإقصاء أي حاكم وجدته في طريقها، واستنزفت الموارد بلا هوادة، وقمعت الممارسات الثقافية للشعوب التي تعيش داخل أراضيها الشاسعة. لقد كانت الطرف الحاد للهراوة الإمبراطورية البريطانية. وقد اكتسب مديرو الشركة ومساهموها ثروات هائلة؛ وفي الأساس، بدلاً من أن تكون شركة تجارية، أصبحت شركة الهند الشرقية دولة داخل دولة، بل وحتى إمبراطورية داخل إمبراطورية؛ إمبراطورية لم تكن مسؤولة أمام أحد سوى مساهميها. بالضبط كما فعلت و تفعل الشركات المتعددة الجنسيات في عصرنا الحالي، يكفي أن نرى ما فعلته هذه الشركات في أفريقيا و في جنوب آمريكا، ففي كثير من الأحيان تعزل رئيس الدولة الذي لا يخضع لمصالحها، و تقوم بتعيين الخانع أكثر، و لها سلطة القرار حتى داخل السلطة العسكرية، للبلدان التي تتواجد بها، بالضبط مثل شركة الهند البريطانية، التي كان لديها في شرق أفريقيا دبلوماسيتها الخاصة، واستراتيجيتها الجيوسياسية، وسياساتها، وتجسسها.
و في ذروة قوتها، كانت EAC لتمثل حكومة ظل حقيقية، دولة داخل دولة، والقوة وراء العرش القادرة على التأثير على السياسة الخارجية للندن في أطراف آسيا: من الأراضي البرية غير المروضة في تركستان إلى الهند. و من الصين إلى إندونيسيا، لأن عملاء EAC هم الذين بدأوا حرب الأفيون. لقد كان عملاء EAC هم الذين تسببوا في تراجع المغول. وكان عملاء مجموعة شرق أفريقيا هم الذين أدركوا دائمًا أهمية “الجغرافيا السياسية للمضيق” في السباق نحو الهيمنة العالمية.
و في ذروة قوتها، كانت EAC لتمثل حكومة ظل حقيقية، دولة داخل دولة، والقوة وراء العرش القادرة على التأثير على السياسة الخارجية للندن في أطراف آسيا: من الأراضي البرية غير المروضة في تركستان إلى الهند. و من الصين إلى إندونيسيا، لأن عملاء EAC هم الذين بدأوا حرب الأفيون. لقد كان عملاء EAC هم الذين تسببوا في تراجع المغول. وكان عملاء مجموعة شرق أفريقيا هم الذين أدركوا دائمًا أهمية “الجغرافيا السياسية للمضيق” في السباق نحو الهيمنة العالمية.
إذاً اليوم هو إستمرار للماضي، و التاريخ لا يتجزأ و لا يتوقف، فماذا نحن فاعلين؟
إن الليبرالية الجديدة تعطي أهمية للتكامل الاقتصادي بين مختلف الأطراف الفاعلة قبل التكامل السياسي. الدولة النيوليبرالية تبني الأسواق وتضع الناس في مواقف تنافسية. ليس هناك شيء طبيعي في فرض هذا الشكل من المنافسة و الذي في النهاية تعود أرباحها و الفتئدة منها لصالح الشركات الكبرى و لسلطوية الدولة. هذه المنافسة ليست نتيجة عمليات تجارية طبيعية، و ليست عامل مؤثر “الأكل لحوم البشر” المتأصل في ديناميكيات الرأسمالية الغربية. بل هو نتيجة لبناء سياسي دقيق يمّر عبر “خصخصة” المؤسسات العامة وكل أنواع التفويض أو التقليل من أهمية الأنشطة العامة لصالح الشركات الخاصة، الدولة نفسها صارت شركة خاصة أو عضو في الإدارة المركزية للشركات المتعددة الجنسيات التي صنعت و دعمت هذا الشكل السياسي الجديد للدولة. لقد بدأت التجارة تخرج عن شكلها الطبيعي، و الهدف تنافسي خارج الخدمات وداخلها، و بالتالي فأن السوق تحوّل إلى شبه سوق، و خرج من دوره الطبيعي الإقتصادي و الإجتماعي . لقد حدث ذلك في مجال الرعاية الصحية والتعليم والبحث العام و الثقافة: اليوم، يجب اعتبار المتحف والمدرسة والجامعة والمستشفى بمثابة شركات تتنافس مع بعضها البعض، على ساحة معركة وطنية ودولية.
إن الليبرالية الجديدة تعطي أهمية للتكامل الاقتصادي بين مختلف الأطراف الفاعلة قبل التكامل السياسي. الدولة النيوليبرالية تبني الأسواق وتضع الناس في مواقف تنافسية. ليس هناك شيء طبيعي في فرض هذا الشكل من المنافسة و الذي في النهاية تعود أرباحها و الفتئدة منها لصالح الشركات الكبرى و لسلطوية الدولة. هذه المنافسة ليست نتيجة عمليات تجارية طبيعية، و ليست عامل مؤثر “الأكل لحوم البشر” المتأصل في ديناميكيات الرأسمالية الغربية. بل هو نتيجة لبناء سياسي دقيق يمّر عبر “خصخصة” المؤسسات العامة وكل أنواع التفويض أو التقليل من أهمية الأنشطة العامة لصالح الشركات الخاصة، الدولة نفسها صارت شركة خاصة أو عضو في الإدارة المركزية للشركات المتعددة الجنسيات التي صنعت و دعمت هذا الشكل السياسي الجديد للدولة. لقد بدأت التجارة تخرج عن شكلها الطبيعي، و الهدف تنافسي خارج الخدمات وداخلها، و بالتالي فأن السوق تحوّل إلى شبه سوق، و خرج من دوره الطبيعي الإقتصادي و الإجتماعي . لقد حدث ذلك في مجال الرعاية الصحية والتعليم والبحث العام و الثقافة: اليوم، يجب اعتبار المتحف والمدرسة والجامعة والمستشفى بمثابة شركات تتنافس مع بعضها البعض، على ساحة معركة وطنية ودولية.
الأفراد الذين يوضعون في مواقف تنافسية يُهمون بأنهم يتصرفون “بحرية” في سياق المنافسة العامة. المنافسة تغير نفوس الناس: إن التفوق على الآخرين، يوهمك بأنك الأقوى و الأفضل و يغذي فيك روح الرغبة بمزيد من التفوق، حتى يصبح هذا التفوق غاية لذاتها… سيجد الفرد مضطراً لمنافسة حتى من يحب من أجل البقاء على قيد الحياة مع البقاء في عالم يطلب منك أن تكون وفير المال كي يكون لك وجود، و بدون أن تشعر ستعمل على تحويل نفسك وفقًا لمنطق دقيق للغاية: منطق تراكم رأس المال، الذي يصبح المبتغى و الهدف الأسمى للوجود و للعلاقات”. باختصار، الليبرالية الجديدة، تُحدث تحولاً في الذاتيات، التي أصبحت مدعوة إلى التواصل مع بعضها البعض في نمط تصنيف الأفراد، إبتداءً من المدرسة والجامعة، ففي منطق النيوليبرالية الأفراد أنفسهم هم رأس مال، فديمقراطية السوق الرأسمالية تهتم بإنتاج “رأس المال البشري”، أي الأفراد المزودين بـ “مجموعة من المهارات” لاستخدامها في سوق العمل.
لقد فهم باول ميشيل فوكو الفيلسوف، المؤرخ و عالم الإجتماع الفرنسي، هذا بالفعل في عام 1979، عندما صور الليبرالية الجديدة كعصا تُجبر كل واحد منا على اعتبار نفسه “رجل أعمال منافس للآخر. النيوليبرالية تجعل من المنافسة الأساس العام لجميع أنشطة الإنتاج (وخاصة تلك التي تنتج خدمات غير تجارية) و العلاقات الاجتماعية تصبح غير ممكنة، أو لا معنى لها خارج المجال الإنتاجي البحت. و الدولة كشركة منافسة سوف تحرص على إدارة هذا المنطق الشامل للمنافسة من خلال التقنيات و الخطابات و توحيد الأنشطة العامة والخاصة والاجتماعية والفردية التي تؤدي إلى تطبيع طرق العمل والوجود الاجتماعي، فالنموذج الواحد و نمطية العيش تُسهّل على السلطة السيطرة على المجتمع و التحكم به و منعه من التفكير بأن يطالبها بما يحتاجه هو، فالمنافسة لن تترك له وقتاً ليفكر بإنسانيّته.
و هنا يَكمن الحل: أن تكون مدركاً لكل هذا، أن تكون فاعلاً ضمن أنظمة السلطة التي لم تتوقف يوماً عن تجديد ذاتها، و لكن دون أن تتنازل عن إنسانيتك، دينك، هويتك و جذورك… لا قوة في العالم تستطيع أن تفرض عليك التخلي عن أخلاقك و أصلك، أو أن تفرض عليك قسوة الروح و ضعف الإيمان و تغليب الشهوات، أو التحول لآلة هدفها فقط الإنتاج التنافسي. تعلّم من تجربة المجتمعات الغربية، التي أفرغتهم الرأسمالية الليبيرالية من كل ما يجعل الإنسان إنساناً، و النتيجة كما يعلم الكثير منكم باتت مآساوية. إبقى إنسان ذو عقل و خلق، و ستبقى أنت الأقوى فالسلطة تنتصر عليك عندما تحطم فيك الإنسان.
#سفيربرس ـ روما ـ د. ســـناء الشــــامي




إعلان