إعلان
إعلان

مفهوم ديمقراطيّة المعرفة بين التفاوت والوعي الجمعي للأمم ـ بقلم: سلاف جورج عين ملك

#سفيربرس

إعلان

تصدّرت الموارد الطبيعيّة عبر التاريخ أولويّة المجتمعات البشريّة التي تصارعت فيما بينها مستخدِمة القوّتين الصّلبة والنّاعمة بغية ضم مصادر جديدة، كالصراع على الفحم الحجري ثم الطاقات النفطيّة والمتجددة والنوويّة، إضافة إلى المياه والثروات المعدنيّة على سبيل المثال لا الحصر، إذ لا يقتصر الصراع بين البشر ضمن ثروات الطبيعة، بل يتعدى ليشمل الموارد والثروات المعرفيّة، فالعقل وإنتاج العقل موضع الصراع الأخطر على اعتبار أن المعرفة قوّة تعزز من قيمة المجتمعات التي تنتجها وترفد مختلف مجالاتها بإرث جديد، وقد شكّل الصراع على الطاقة، كالنوويّة منها أنموذجاً غيّر شكل وهويّة السياسة والنّظام العالميين، فبعد أن حسمت حادثتي هيروشيما وناجا زاكي الحرب العظمى بين قوات المحور والحلفاء، بلغ هذا الصراع منعطفاً جديداً بين أمريكي محتكِر لأسرار صناعة المفاعلات والأسلحة النوويّة وسوفييتي ساعٍ لامتلاكها بهدف تحقيقه لتوازن القوى مع حليفه ضد الفاشيّة والنازيّة في الحرب العالميّة الثانية من جهة وعدوّه اللّدود على صدارة السياسة العالميّة مطلع النصف الثاني للقرن المنصرم من جهة اخرى، فالصراع كالتعاون جوهر العلاقات الدوليّة منذ فجر البشريّة، والأدلّة كثيرة لا شحَّ فيها، كأن يستلهم اليراع من حقبة ما قبل الميلاد أفكار المؤرّخ الإغريقي ثيوسيديدس عندما أكّد أن أحد أسباب الحرب البيلوبينيسيّة بين أثينا واسبرطة تمثّلت في ازدياد قوّة أثينا وخوف اسبرطة من تنامي هذه القوّة، بالتالي لجأت الأخيرة لإعلان الحرب على أثينا بهدف احتوائِها ووقف تقدمها وتقويضه، وهذا المنطق مستمر إلى عصرنا الحالي في العلاقات بين الأمم وفق المستويين الإقليمي والعالمي، وبما أن الحياة الإنسانيّة مثّلت البيئة الجامعة للمتناقضات كالصراع والتعاون، فإنّه يُلاحَظ استمرار الصراع في حقل العلم بين الديكتاتوريّة المعرفيّة السّاعية للتفرّد بالمعلومة بمنأى عن غيرها من المجتمعات الأخرى، كذلك على النقيض الديمقراطيّة المعرفيّة السّاعية إلى نشر العلوم وإتاحتها بحلّتها العلميّة والمبسّطة لدى مختلف فئات المجتمع، فالمعرفة للجميع، ليست حكراً على فئة، وهذا المفهوم، إن صحَّ التعبير يمثّل القانون الأسمى لديمقراطيّة العلم والمعرفة، فاحتكار المعلومات والمعارف ضمن بطون الكتب التخصصيّة كذلك أروقة وجدران المجمّعات العلميّة يخلق ويعزز الهوّة بين من يعلم ومن لا يعلم، بالتالي شيئاً فشيئاً تتجذّر الديكتاتوريّة المعرفيّة وفق ترسيخ ثقافة احتكار العلم لدى فئة دون الفئات الأخرى، مما يؤدي لاختلال التوازن بين تلك الفئات ثم تتصارع فيما بينها والنتيجة حتميّة تآكل المجتمع وتفككه.

ومن جانب آخر لا بد من الإشارة إلى أن التفرّد في العلم مسألة واحتكاره لمنع الأمم الأخرى من الاستنارة به والاستفادة منه مسألة أخرى، فكثير من المجتمعات برعت في الصناعة والتقانة كذلك الإنتاج التقني كألمانيا واليابان، لكنها لم تحتكر صناعتها، والدليل أن الصين تحقق مزيداً من التقدم في الصناعة والتقانة كذلك الهند تعزز من قدراتها في علوم البرمجة، علاوة على دول عربية رائدة في علوم التقانة لا سيما الذكاء الاصطناعي، ولكن أن ترزح دولة صغرى ضمن نفوذ دولة كبرى فتمارس الأخيرة عليها الهيمنة العلميّة سواء في اللّغة والثقافة وتمنعها من خوض أي علاقة تبادل علمي وثقافي مع مجتمعات ودول أخرى ذات عقلية مختلفة، فذلك ضرب من الديكتاتورية المعرفيّة، كذلك على مستوى فئات المجتمع فإن احتكار العلم لدى فئة متخصصة أو هيئة علميّة أشبه باحتكار الموارد من سلطة حاكمة على شعب محكوم، وهذه الحالة بمثابة ديكتاتورية معرفية مطلقة.

مفهوم ديمقراطيّة المعرفة

تقوم أركان كل دولة على أربع ركائز أساسيّة وهي (الأرض، الشعب، السلطة الحاكمة، الاعتراف من قِبَل المجتمع الدولي باختلاف أعضائه من دول ومنظمات دولية وغيرها)، وعلى سبيل المقاربة فإن مفهوم الديمقراطيّة بوجه عام متعلّق بركنين أساسيين من أركان الدولة وهما السلطة والشعب، أي الحاكم والمحكوم، فقد يمكن اعتبار أن مقياس الديمقراطيّة لدى الدول يدور حول رضا الشعب المحكوم على أداء الحاكم، وبإسقاط مفهوم الديمقراطيّة على العلم فإنه يتضح أن تكون المعرفة العلميّة المبسّطة متاحة للجميع وفق وسائل الإعلام والمكتبات والمؤتمرات وغيرها، إذ أنه لا يكفي مثلاً لوسائل الإعلام الإلكتروني ومنها الصحافة متعددة الوسائط أن تنضح بمحتوى علمي تقني عن جديد مميزات الأجهزة الرقميّة مثلاً دون تبسيطها لأن الفائدة ستقتصر على المختصين، كذلك ذوي الإلمام والاطلاع، لذا من الضروري تبسيط المعلومة باعتبارها المادة الخام لدى العالِم، كذلك وفق منظور آخر فإن الديمقراطية بمفهومها العام والمجرّد تتحقق وفق رضا الشعب المحكوم على السلطة الحاكمة، أي عملية فعل سلطوي يمارسه الحاكم، يتمثّل بوضع السياسات العامة وتطبيق جزئيات إجراءاتها، فتقابله رد فعل تتمثّل باستجابة الشعب المحكوم على صك السياسات وتنفيذها، أي عملية اتصال بين الحاكم والمحكوم، كذلك يمثّل مجتمع العلم بكل مكوّناته من طاقات علميّة بشريّة وهيئات أكاديميّة بحثيّة، السلطة المرجعيّة الموثوقة للعلم التي يقاس نجاحها ضمن المجتمع بمدى الرضا والأثر العلمي والثقافي الذي يحدثه إنتاجها بين مختلف فئات الجمهور العام، أي بتعبير آخر إن مقياس الديمقراطية يتحدد وفق العمليّة الاتصاليّة بين فعل الحاكم واستجابة المحكوم من رضا وقبول على صوابيّة سياسات الحاكم، كذلك بوصف مجتمع العلم واعتباره سلطة علميّة مرجعيّة فإن ديمقراطية المعرفة يمكن قياسها بمدى دمج واشراك سوية المتلقي مع الدراسات العلمية والمبسَّطة بما يثري أفكاره ومخيلته ويحفزه على خوض المزيد في مصادرها وخلفيتها المعرفيّة.

 

ديمقراطية المعرفة في ظل العولمة الثقافية

تعد العولمة بمفهومها المبسّط ظاهرة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة، لعبَ كل من تطور وسائل الاتصال وانتشار مفهوم التبادل الحر دوراً أساسيّاً في وجودها، حيث تعتمد على الغاء الحدود بين الوحدات الفاعلة في المجتمع الدولي وإقامة نوع من القرية العالميّة وفق عدة مستويات لا سيما المستوى الثقافي، فالعصر التقني أزال العزلة النسبيّة للأمم وعزز من العولمة الثقافية وفق إمكانية وسرعة نشر المعلومة وانتشارها على اعتبارها اللّبنة الأولى والمادة الخام المكوِّنة للمعرفة العلميّة وهذا ما أتاح أيضاً ديمقراطيّة المعرفة، أي ما من عائق يَحول بين اتصال العقل والعلوم لمحاكاة وابتكار ومواكبة كل جديد، فالمجتمعات يمكنها التفاعل والوصول إلى المعلومة الصحيحة على اختلاف خصائصها ولغتها وثقافتها والخلفيّة العلميّة الصّادرة عنها خلال زمن يسير وفق التقانة وأدواتها الرقميّة.

تفاوت مفهوم ديمقراطية المعرفة بين الأمم

بمجرد النظر العقلي لخصائص المجتمعات الإنسانيّة يُلاحَظ الاختلاف والتفاوت في مفهوم المعرفة والتعامل معها بالاستناد إلى الثقافة والوعي الجمعي التراكمي لكل مجتمع، فالعصر التقني إلى حدٍ ما أثّر سلباً على بعض المجتمعات العربيّة التي ساد في عدد من شرائحها ديمقراطيّة الشائعات والمغالطات إلى حد كبير وبمقارنة بسيطة فإن أوربا، كذلك آسيا وافريقيا العربيتين تلتقي مجتمعة على البحر المتوسط، لكنَّ البلاد الأوربيّة مثلاً بعد الحرب العالميّة الثانية حافظت بمكوّناتها على مفهوم الدولة الأمّة Nation State الذي جاءت به معاهدة ويستفليا عام 1948م وشكّلت بيئة للمواطَنة وثقافة القانون والديمقراطيّة، بينما بعض المجتمعات العربيّة فشلت إلى حد ما في تحقيق التحوّل الديمقراطي لعمليّة تداول السلطة مثلاً وبقيت ثقافة الصراع والعنف حاضرة، وكأنها تستلهم عقليّة حرب البسوس بين التغلبيين والبكريين، فلا سلام كذلك لا استقرار بديل عنها، نظراً لأسباب عدّة منها الولاءات الفرديّة والأدلجة الحزبيّة التي تحل محل الانتماء الوطني والاعتزاز به، كذلك على الضفّة الموازية يُلاحَظ أنّه ثمّة دول منتجة للمعرفة وأخرى مستهلِكة لها، وهذه الحالة تلعب دوراً كبيراً في مدى تكريس مفهوم ديمقراطيّة المعرفة والعمل به، أي بتعبير آخر فإن الأفكار كما السلع تدخل ضمن إطار عمليّة الاستيراد والتصدير وفق التبادل الفكري والثقافي للعلوم والفنون، إذ أنها بمثابة المادة الخام التي يتلقاها كل مجتمع فيقوم من جهته بإعادة صياغتها وفق ما يناسب ثقافته السّائدة، وبالنتيجة هذا ما يفسّر اختلاف شكل ومجرى ديمقراطية المعرفة من مجتمع لآخر، إذ لا تولي بعض المجتمعات العربيّة أهميّة لإعادة صياغة الكثير من الأفكار والمفاهيم المستوردة بما يواءِم الثقافة المحليّة والمكوّن الديمغرافي وفق ترجمة حقيقية للغة الأفكار وخلفيتها العلميّة حتى تعود بالفائدة القصوى على المتلقي وبما يعزز ديمقراطية المعرفة ونشرها متاحة مبسّطة لا نقص فيها ولا تشويش يعتري معانيها ومضامينها، فالتقانة مثلاً ذات منشأ أجنبي تختلف عن الثقافة العربيّة إلّا أن الدراية بعلومها وأدواتها تقتصر على فئات اجتماعيّة محددة دون غيرها والسبب أن نشر العلوم التقنيّة بصيغة علميّة مبسّطة تواءِم مختلف الاختصاصات ومستويات التفكير، ضعيف في العديد من وسائل الإعلام التقليديّة والإلكترونيّة، والمكتبات كذلك المؤتمرات، وإن صح التعبير شبه معدوم، نظراً لأن البلاد العربيّة لا سيما عقب جائحة سايكس بيكو الجيوبوليتيكية لا زالت تتوارث تركة هائلة من الصراع وعدم الاستقرار بخلاف الدول الأوربيّة مثلاً التي حققت توازناً آمناً إلى حد ما عقب الحرب العالميّة ولم تتمزّق وتتفكك جغرافيّاً أو ديمغرافيّاً، بالتالي لا يمكن فصل ماضي الأمم عن حاضرها ومستقبلها، وإذا كانت ميادين العلم بعلمائها وانتاجها العلمي سلطة مرجعيّة آمرة، فإنه ليس من الأخلاق والقيم الإنسانيّة ممارسة تلك السلطة لحالة الديكتاتوريّة المعرفيّة وقَصِرها العلم على فئات محددة، وإنّما الأصح ممارسة الديمقراطيّة المعرفيّة العابرة للحدود لإحداث حالة من التوازن والاستقرار، فالعلم والمعرفة أمان الإنسان والإنسانيّة، وبما أن ماضي الأمم لا ينفك ولا ينفصل عن كيانها، فإنّه حريّ باليراع التنويه إلى أن العرب في قرون ازدهارهم وحضارتهم قادوا العالم في المعارف من ابن سينا وابن حيّان وآل حنين وابن النفيس والبيروني وابن خلدون وصولاً لسائر العلماء والفلاسفة، فتلك الأندلس رغم تعاقب العصور لا زالت تشهد بذلك.

#سفيربرس ـ ـ بقلم: سلاف جورج عين ملك

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *