
إن النقطة الأولى المثيرة للجدل تتعلق بالسياق العام للحرب والعلاقات بين الأطراف الرئيسية فيها، إي بين إسرائيل والدول العربية والبريطانيين. لقد شدّد التأريخ التقليدي على عزلة اليشوف، وهم سكان المستوطنة الصهيونية التي أقيمت قبل عام 1948، و الذين كانوا محاصرين بين السياسات المناهضة للصهيونية التي تنتهجها بريطانيا، و جبهة المواجهة العربية المصممة على تدمير دولة إسرائيل الناشئة. لقد تمّ التشكيك في هذه الصورة من خلال عمل بابّي وشلايم. وأكدّ الأول على أن السياسة البريطانية لم تكن في حد ذاتها معادية للدولة اليهودية، وكان الإنجليز مؤيدين إلى حد ما لفكرة “الأردن الأكبر”، التي من شأنها أن تسمح بولادة دولة يهودية وفي الوقت نفسه تتجنب تطور قوة فلسطينية مستقلة (بابّي، 1988). أما التقرير الثاني فقد أثار سلسلة من الشكوك بشأن تماسك الجبهة العربية، مسلطاً الضوء على الافتقار الكبير إلى استراتيجية مشتركة تجاه إسرائيل وإمكانية إجراء مفاوضات عربية إسرائيلية مباشرة بعد الحرب. إن العنصر الأكثر أهمية في إعادة بناء شلايم هو وجود تسوية ضمنية بين اليشوف والأردن؛ نوع من معاهدة عدم الاعتداء، وفي الواقع اتفاق لتقسيم فلسطين بين الدولة اليهودية والنظام الملكي الهاشمي (شلايم، 1988، 1990ج). وقد تعرض إعادة بناء شلايم وبابّي لإنتقادات تيفيث، الذي إعترض بشكل خاص على الفشل في أخذ الصورة الشاملة التي تشكل الخلفية لأحداث عام 1948 إخذاً بعين الإعتبار تطور فكرة الدولة اليهودية في القيادة الصهيونية، وإطار المفاوضات التي أجريت مسبّقاً.
لقد أصبح النقاش أكثر سخونة حول القضية الكبرى الأخرى، ألا وهي أصول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. ومن هذا المنطلق، حددت عملية إعادة البناء التقليدية أصل مشكلة اللاجئين في موقف القيادة العربية. وعلى العكس من ذلك، حوّل موريس (1987، 1990، 1995، 2004) الإنتباه إلى ديناميكيات الصراع والخلفية التي شكلتها السنوات التي سبقت عام 1948؛ ومن بين الأسباب العديدة، يسلط موريس الضوء أيضاً على دور مختلف الأعمال العسكرية التي قامت بها الهاجاناه ـ ميليشيات مجموعات اليشوف وبعض المجاذر العنيفة التي قاموا بها، فضلاً عن التصور السائد في المؤسسة الصهيونية بأن تهجير العرب الفلسطينيين قد يشكل حلاً عملياً. مؤخراً، قد إنضم إلى دراسات موريس، المساهمة التي قدمها بابيّه، في أعقاب التفسيرات التي قام بها المؤرخون العرب (من نزال، 1978، إلى مصالحة، 2001). و في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” تناول بابيّ هذه المشكلة على وجه التحديد، معطياً أهمية حاسمة لأوامر عسكرية محددة، كان من شأنها أن تشكل خطة حقيقية لطرد العرب. إن النقد والتنافر متأصلان في اليهودية والصهيونية على حد سواء. منذ تشكيلها الأيديولوجي في القرن التاسع عشر، كان للصهيونية منتقدون ومؤيدون. لم تكن في أي وقت من الأوقات طوال تاريخها الذي يزيد عن مائة عام أيديولوجية متجانسة. إبتداءً من أواخر القرن التاسع عشر وحتى فترة قيام الدولة، إستضافت إسرائيل باستمرار مجموعات لم تكن متوافقة مع روحها الصهيونية. إن العداء بين ديفيد بن غوريون وزئيف جابوتنسكي بإعتبارهما خصمين سياسيين وأيديولوجيين مشهورين، بالإضافة لمجموعات أقل شهرة تعمل لأجل الصهيونية السياسية والثقافية والتي دعمت بصوتها، مهما كان صغيراً، للتطور الإيديولوجي للصهيونية و لولادة دولة إسرائيل. إن إستعداد المؤرخين “الجدد” للنظر في كلا جانبي الرواية التاريخية، العربي والإسرائيلي، سمح بتقديم تمثيل أدق للأحداث المحيطة بحرب عام ١٩٤٨. و كما ذكرت سابقاً، إن أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى هذه المنهجية التاريخية الجديدة، كان رفع السرية التامة عن الوثائق الإسرائيلية المتعلقة بالحرب بين الطرفين الفلسطيني و الإسرائيلي.
بالنسبة للشعب الفلسطيني، كانت حرب 1948 بمثابة نكبة ذات أبعاد ملحمية. وبعد الحرب، وجد الفلسطينيون أنفسهم يعيشون في أسوأ الظروف. لقد فقدوا كل ما كانوا يملكونه من ممتلكات وأراضي قبل الحرب. لقد كانوا تحت حكم قوى أجنبية (عربية وإسرائيلية) وأُجبروا على العيش في ظروف من الشقاء لا يمكن وصفها. لقد أدت حرب عام 1948 إلى تحريك عقود من الإنتهاكات السياسية والمدنية وإنتهاكات حقوق الإنسان التي إرتُكبت ضد الشعب الفلسطيني بشكل جماعي من قِبل الكيان المغتصب الإسرائيلي، و الدول الداعمة له. و في هذا الصدد يقول يعد مارتن بوبر أحد أهم الفلاسفة الأوروبيين في القرن الماضي. كان يهوديًا ذو توجه وجودي إاشتراكي، وكان يُعتبر الأب الروحي للدولة العبرية الجديدة، و كان في صدام مع الأيديولوجية الصهيونية لأنه زعم أن الشعب اليهودي في “الأرض الموعودة” لا ينبغي أن يؤدي إلى بناء دولة عرقية دينية مخصصة لليهود. وكان من المفترض أن يكون الوطن اليهودي مكانًا مفتوحًا للشعب الفلسطيني أيضًا. لن يتحقق التعايش السلمي بين اليهود والعرب أبدًا من خلال إنشاء دولة طائفية تجبر السكان الأصليين على التخلي عن أراضيهم. لقد زعم بوبر أن السلام لن يكون مضمونًا حتى من خلال تشكيل دولتين، واحدة يهودية وأخرى إسلامية، كما أوصت الأمم المتحدة للأسف في عام 1947. إن الطريق إلى السلام يكمن في علاقة اتحادية تعاونية بين الشعبين، على أساس المساواة، داخل هيكل سياسي موحد. ولتحقيق هذا الهدف، كان من الضروري أن يشعر اليهود الذين هاجروا إلى الأراضي الفلسطينية بأنهم ساميون بين الساميين، وليسوا ممثلين لثقافة مختلفة ومتفوقة، وفقاً لنماذج الاستعمار الأوروبي. ولكن مارتن بوبر، على الرغم من سلطته، لم يجد جمهوراً بين الزعماء الصهاينة. لقد أكد مناحيم بيجين وحاييم وايزمان وبن جوريون أن واجب اليهود هو إعادة البناء من الأساس وتحديث منطقة نصف مهجورة ومتخلفة. ينبغي للدولة اليهودية أن تستبعد أية علاقة، باستثناء العلاقة من النوع التابع والخاضع، مع السكان الأصليين. وباسم هذا المنطق الاستعماري بدأ التهجير القسري لأعداد كبيرة من الفلسطينيين في عام 1948 ـ ما لا يقل عن 700 ألف نسمة ـ وذلك بفضل الإرهاب الذي مارسته المنظمات الصهيونية مثل عصابة شتيرن وإرغون زواي لئومي، والتي اشتهرت بتدمير قرية دير ياسين وإبادة سكانها البالغ عددهم 300 نسمة. وهكذا بدأت ما يطلق عليه الآن المؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بابّي “التطهير العرقي لعام 1948“.
وبحسب بابّي فإن التطهير العرقي الذي بدأ في مارس/آذار 1948 مع خطة داليت، لم يتوقف أبداً. إن الوضع الحالي يجعل الشعب الفلسطيني مشتتًا بالكامل، مضطهدًا، مهانًا، ومُجبرًا على البؤس، ومُعرضًا لعنف لا يرحم. في إسرائيل، أصبح التطهير العرقي أيديولوجية دولة، لأن العقيدة الصهيونية هي التي تفرضها. إذا كانت إسرائيل قد احتلت في نهاية عام 1948 جزءاً كبيراً من فلسطين الانتدابية، فإنها اليوم تحتلها 100% منها بعد أن غزت عسكرياً واستعمرت 22% من المساحة الضئيلة التي بقيت للفلسطينيين.
و رافق التطهير العرقي تدريجيا هدم آلاف المنازل، واقتحام هياكل حضرية كبرى للمنطقة العربية من القدس، واقتلاع مئات الآلاف من أشجار الزيتون والفواكه. وبالتوازي مع ذلك، استمر توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية ــ حيث يوجد الآن أكثر من 400 ألف مستوطن ــ وبناء العشرات من الطرق المخصصة للمستوطنين، ونهب احتياطيات المياه، وإقامة مئات من نقاط التفتيش (أكثر من 700)، وسجن أو “اغتيال” الزعماء السياسيين.والسؤال الذي يجب أن نطرحه هو: ما الذي أدى إلى هذا الإنهيار الكامل للمجتمع الفلسطيني؟ يشير المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي إلى ثلاث سمات أساسية للانهيار: الضعف البنيوي للمؤسسات السياسية الفلسطينية، التشرذم الفصائلي للمجتمع والسياسة الفلسطينية، النقائص و التمزقات الخطيرة داخل القيادة الفلسطينية.
ويشير المؤرخون الإسرائيليون “الجدد” إلى جانب الباحثين الفلسطينيين، مثل وليد الخالدي وإدوارد سعيد، إلى الضعف المتأصل في نسيج المجتمع الفلسطيني بإعتباره أحد الأسباب الرئيسية لتفككه. ومهما كان الأمر، فإن فهم العوامل الإجتماعية والسياسية التي أدت إلى مثل هذا الإنهيار السريع، ينبغي أن يُدمج في التأريخ الإسرائيلي “الجديد” ويقارن به، هذا طبعاً، إن كان هناك أي أمل في إمكانية كتابة تاريخ عربي إسرائيلي متكامل بنجاح.
#سفيربرس _ بقلم : د. سناء شامي _ ايطاليا