سورية أمام معضلة الانفتاح الخارجي عليها.. بقلم : د. سماهر الخطيب
#سفيربرس _ بيروت

رغم الأجواء الاحتفالية التي غمرت السوريين الأسبوع الفائت بمناسبة عيد الفطر المبارك، والذي اعتبروه الأبهج منذ سنوات طويلة بعد التحرر من حكم نظام الأسد، إلا أن الوضع الاقتصادي ما يزال يشكل تحدياً كبيراً أمامهم. فبعد انتصار الثورة، وإنتهاء حقبة طويلة من الألم والمعاناة، يواجه السكان أوضاعاً معيشية قاسية، تفاقمت بسبب انخفاض الدعم الدولي وضرورة إعادة بناء البنية التحتية المدمرة.
حيث تعاني سوريا من أزمة مالية طاحنة في ظل العقوبات الدولية المشددة، مما يزيد من أعباء الدولة الناشئة التي ورثت مؤسسات منهكة وعملة محلية متراجعة القيمة. وهكذا، يصطدم المواطنون بواقع مرير بعد الحرب، حيث الغلاء والفقر وانعدام الفرص الوظيفية، مما يهدد بتحول النصر السياسي إلى كابوس اقتصادي إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لإنقاذ الوضع.
وبحسب الخبراء، فإن العقوبات الإقتصادية المفروضة على سوريا من قبل الغرب تبقى القضية الأكثر إلحاحًا في المشهد السوري، ومن أولى الأولويات رفعها. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة وأوروبا تتباطآن في اتخاذ أي خطوات جادة، وتتجاهلان دعوات الإدارة السورية الجديدة المطالبة برفع كامل وغير مشروط للعقوبات.
ناهيك عن أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض في نهاية الأسبوع الماضي، رسومًا جمركية على معظم دول العالم بينها سوريا. شملت البضائع التي يتم تصديرها من أمريكا إلى سوريا بنسبة 41%، وهي النسبة الأعلى بين الدول العربية المشمولة بالقرار، كما بلغت نسبة الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع التي تأتي من سوريا إلى أمريكا 81%.
وبموازاة ذلك، سلمت واشنطن البعثة السورية لدى الأمم المتحدة بالأمس مذكرة تنص على تغيير وضعها القانوني من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة إلى “بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة”. وتضمّنت المذكرة كذلك إلغاء التأشيرات الممنوحة لأعضاء البعثة من فئة G1 المخصصة للدبلوماسيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة، إلى فئة G3.
وفي الفقرة الأخيرة من المذكرة، أشار الوفد إلى ما يأتي: “تتضمن المذكّرة إعلاناً صريحاً ومباشراً بعدم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالحكومة الانتقالية السورية الحالية، وقد تتبعها خطوات مماثلة لجهة عدم الاعتراف من قبل دول أخرى تشاطر الإدارة الأمريكية بعض مشاغلها”.
وسبق وأن تحدثنا مرات عدة.. بأن الاعتراف بالدولة شيء والاعتراف بالحكومة شيء آخر، والفرق الجوهري يكمن بأن الدولة عندما توجد فعلاً توجد قانوناً والاعتراف بها هو دائماً اعتراف قانوني، في حين أن الحكومة قد توجد فعلاً دون أن توجد قانوناً. وهي لا توجد من الناحية القانونية إلا عندما تزول عنها شوائب عدم القانونية الدستورية.
والاعتراف بالدولة يبقى ويستمر ولا يتأثر بالتغيرات التي تطرأ على الحكومة أو الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلد، فالمبدأ هو استمرارية وجود الدولة وعدم تأثر هذا الوجود بأي حدث سياسي أو اجتماعي. على عكس الاعتراف بالحكومة القابل للنقض والبطلان والتغيير.
ومع تغير الحكومات بواقع الثورة أو الانقلابات يبقى الاعتراف بالدولة قائماً ولكن يأخذ الاعتراف بالحكومة شكلين إما ضمني أو صريح، فالضمني يكون بقصد التحفظ على الاعتراف حتى تتأكد الدول من نوايا الحكومة الجديدة.. وتسمى الحكومة التي تتشكل بفعل ثورة شعبية أو انقلاب بحكومة الأمر الواقع تتميز بأن تنصيبها غير قانوني وبأن سلطتها تتمتع بالفاعلية وكذلك الاستئثار بالصلاحيات أو احتكارها. ويترتب عليها أما اعتراف قانوني/ دائم، أو واقعي/ فعلي أي اعتراف بالأمر الواقع مع رغبة بعدم توطيد الصلات فورا مع الحكومة الجديدة ويكون هذا الاعتراف مؤقت وينتهي بانتهاء الظروف التي أدت لإصداره، ويتم ذلك بسحبه أو تحويله إلى اعتراف قانوني .. ويبقى الاعتراف بالحكومة استنسابي ينطلق من سلطة استنسابية للدول .
ومع المذكرة التي صدرت من الولايات المتحدة الأميركية والتي أبلغت واشنطن خلالها البعثة السورية في نيويورك بتغيير وضعها القانوني من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة، إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة، يعني عدم الاعتراف القانوني بالحكومة الحالية، ومن الممكن أن تتبعها خطوات مماثلة لجهة عدم الاعتراف من قبل دول أخرى تشاطر الإدارة الأميركية بعض مشاغلها.
وبالتالي، وبنظر الخبراء، فإن واشنطن تسير بخطى ثابتة نحو إضعاف أو ربما إقصاء الإدارة السورية الحالية سياسياً لإعتبارات مختلفة. ومسألة رفع العقوبات عالقة في الأدراج المغلقة لفترة طويلة. خصوصاً وأن هيئة تحرير الشام التي تنتمي إليها غالبية أعضاء الحكومة السورية والرئيس نفسه، لا تزال الحكومة الأمريكية تصنفها كمنظمة إرهابية أجنبية، ومن المستبعد أن يتم تغيير هذا التصنيف.
إلا أنه وفي المقابل، تعمل الحكومة السورية الحالية على بناء علاقات استراتيجية ومميزة مع دول أخرى، منخرطة في الشأن السوري كتركيا وروسيا. فتركيا من جهة، كانت الداعم الأقوى للثورة السورية وهي لازالت الحليف الأول للإدارة السورية التي تمخضت عن إنتصار الثورة. وهو ما تجلى في الواقع من دعم إقتصادي وسياسي وعسكري للسوريين رغم الحصار الإقتصادي الغربي.
إلا أن تركيا لديها صعوبات اقتصادية داخلية مرتبطة بالتضخم المرتفع وزيادة البطالة وغيرها من العوامل الأخرى التي تشكل عائقاً لتقديم الدعم السخي الذي ترغب به لسوريا وشعبها. كما أن الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا ودعمه لقوات سوريا الديمقراطية التي تشكل تهديداً للأمن القومي التركي، يشكل عراقيل سياسية وأمنية كثيرة في وجه أنقرة.
وروسيا من جهة أخرى، هي صديق تاريخي للدولة السورية حتى قبل ولادة حكم عائلة الأسد، والشواهد على ذلك كثيرة. وموسكو اليوم تقوم بخطوات فعالة على الأرض، وهي مهتمة ببناء علاقات جيدة مع الإدارة السورية الجديدة، وتعزيز التعاون. كما أن حرصها على أهمية إعادة البناء في سوريا، جعلها تدعم البلاد من خلال توريد السيولة النقدية وإرسال شحنات النفط والغاز لتشغيل محطات الطاقة.
حيث وصلت عدة بواخر روسية محملة بالنفط الخام والبنزين إلى الساحل السوري خلال شهر. كما قدمت موسكو نحو 23 مليون دولار للعملة السورية إلى البنك المركزي في دمشق، وفق تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية. وكل هذا يساهم في تخفيف العبء الإقتصادي على السوريين ويعزز العلاقات بين البلدين.
في سياق آخر، قال متعاملون أوروبيون إن مشترياً حكومياً للحبوب في سوريا طرح مناقصة دولية لشراء نحو 100 ألف طن من قمح الطحين، على أن يكون الشحن خلال 45 يوماً من تاريخ منح العقد. واشترت سوريا نحو 100 ألف طن من القمح في مناقصة سابقة، كانت أول عملية شراء كبرى في مناقصة دولية منذ وصول الإدارة الجديدة إلى السلطة في أواخر العام الماضي.
وهناك ترجيحات بأن الدولة السورية بحاجة إلى 3 ملايين طن من القمح سنوياً لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ويمكنها الإستفادة من الدولة الروسية في مسألة إستيراد القمح، نظراً لأن الأخيرة تعد من أوائل المصدرين العالميين للقمح، وفي نفس الوقت تملك قواعد عسكرية على الساحل السوري وبإمكانها توريد القمح اللازم بشكل منتظم دون الإكتراث بالعقوبات الأمريكية والغربية كما تفعل في مجال النفط والمحروقات، وعلى عكس الدول الأخرى التي تخشى من العقوبات.
يُشار الى أن الإتصالات بين روسيا وسوريا بدأت في يناير الماضي، بعد وصول نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف ومبعوثها الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، الى دمشق. وتعززت بعد المكالمة الهاتفية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري في الفترة الانتقالية أحمد الشرع.
وسبق وأن قال المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف إن روسيا ترغب برؤية سوريا دولة موحدة ومزدهرة ومتطورة وصديقة، وأكد على دعم موسكو لسلامة الأراضي السورية. كما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن قائد الإدارة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، “يصف العلاقات مع روسيا بأنها طويلة الأمد واستراتيجية، ونحن نتفق معه في ذلك”.
وما بين العقوبات الغربية ومحاولة الكسر الروسي للعقوبات تبقى سورية أمام معضلة الانفتاح الخارجي عليها، فإن لم تقم سلطة الأمر الواقع في دمشق بتغيير نهجها والعودة إلى المربع الأول بالدعوة إلى مؤتمر حوار وطني بإشراف أممي وفق بنود القرار الأممي 2254 والمضي نحو حكومة انتقالية يرضى عنها السوريون وتضم كل مكونات المجتمع السوري حسب الاختصاص والكفاءة والبدء بتنفيذ مفاعيل العدالة الانتقالية وتشكيل لجنة دستورية من كل أطياف المجتمع السوري من ذوي الاختصاص والخبرات القانونية والحقوقية والسياسية.. وغيرها من الإجراءات الهادفة لردم الهوة بين مكونات الشعب السوري.. فنحن أمام وضع جديد سيكون أشد قسوة على الشعب السوري بما يتعلق بالحصار السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والاجتماعي، وعلى الجغرافية السورية بشكلها الحالي، وعلى الدولة السورية بحدودها الجغرافية.
#سفيربرس _ بيروت _ بقلم : سماهر الخطيب