“العدمية الرقمية: حين يضيع المعنى في عصر البيانات” ـ بقلم الإعلامي : حسين الإبراهيم
#سفيربرس

في عصرنا الحالي، لا يشبه الوجود الإنساني أيّ حقبة سابقة، حيث لم تعد الثورة الرقمية مجرد أدوات تكنولوجية في حياتنا، بل أصبحت بيئة نعيش فيها، نتفاعل معها، ونُعرّف أنفسنا من خلالها. لكن هل منحنا هذا التطور المعنى الذي نسعى إليه، أم دفعنا إلى متاهة من العدم الرقمي؟
متاهة ما بعد المعنى
يشير نيتشه إلى “موت الإله” كإعلان لانهيار السرديات الكبرى التي كانت تمنح الحياة معنى وغاية. في العصر الرقمي، يُمكننا أن نتحدث عن “موت الحقيقة” حيث تتدفق المعلومات بلا نهاية، وتتشابك بين الحقيقي والمُختلق.
نحن أمام متاهة؛ كل شيء متاح، لكن لا يوجد مركز يمنح المعنى أو وجهة توجه الإنسان. كما يرى هايدغر، فإن التقنية ليست مجرد أدوات بل تمثل “كائنًا” يتدخل في تجربة الإنسان الوجودية، وهذا ما نراه اليوم في الوسائل الرقمية التي تُعيد تشكيل رؤيتنا للعالم، وتحول معنى “الوجود” إلى مجرد “وجود افتراضي”.
العدمية الرقمية
كما أشار نيتشه، العدمية ليست فقط فكرة فلسفية، بل هي حالة يعيشها الفرد عندما تُفقد القيم والمعاني الراسخة. الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ضربت بجذورها في هذه الحالة؛ تدفق المحتوى المستمر الذي يقدمه العالم الرقمي يُضعف اليقينيات. لم تسهم فقط في تشكيك الإنسان في السرديات التقليدية، بل جعلته عاجزاً عن بناء سرديات جديدة. في زمن تُستبدل فيه الحقائق بالترندات اليومية، يصبح الإنسان غارقاً في بحر من الخيارات دون أن يجد منصة صلبة يقف عليها.
ضياع اليقينيات الأخلاقية
الثورة الرقمية أضعفت البُنى الأخلاقية التقليدية التي كانت تُشكل العمود الفقري للمجتمعات. كما تحدث هايدغر عن “العالم المُدمر”، فإن التقدم التقني يؤدي إلى تجريد الإنسان من ارتباطه بالوجود الأصيل. في عصر الثقافة الرقمية، تتلاشى الحدود بين الخير والشر، حيث تتحول الأخلاق إلى مقاييس تفاعل ومتابعة، بدلاً من أن تكون قرارات إنسانية واعية. تُصبح الخيارات الأخلاقية مجرد مسألة عرضية، وقد يتلاشى حتى الشعور بالمسؤولية الفردية داخل فوضى الشبكات الاجتماعية.
عودة المعنى
لا يعني هذا أن الإنسان محكوم بالتيه الأبدي. هايدغر يقدم فكرة العودة إلى “التأمل” واستعادة العلاقة الحقيقية مع “الوجود”. يمكن ترجمة هذه الفكرة رقمياً من خلال التوقف عن استهلاك المحتوى بلا تفكير والعودة إلى الإنتاج الواعي. يمكن للإنسان أن يتحرر من العدم الرقمي عبر إعادة بناء علاقته بالمعرفة، والتكنولوجيا، والمجتمع. وهذا يتم عبر:
- التركيز على المحتوى الذي يعزز قيمته ومعرفته.
- تطوير مهارات التفكير النقدي لتمييز الحقيقي من الوهمي.
- بناء مجتمع رقمي أخلاقي يضع الإنسان في مركز الاهتمام، وليس “الخوارزميات”.
التحدي الذي يواجهه الإنسان في عصر العدم الرقمي ليس مجرد أزمة وجودية، بل دعوة لإعادة تشكيل عالم رقمي أكثر إنسانية، حيث يعود “المعنى” ليكون المحور الأساسي في حياة الإنسان.
#سفيربرس ــ بقلم الإعلامي : حسين الإبراهيم
#كاتب وصحفي متخصص بالمحتوى الرقمي