حبيــسة زمــان مـــضى.. بقلم: إيـــمان بركــــــات
#سفيربرس

أحب أن أمشي وسماعات الجوال في أذني، فأضرب عصفورين بحجر: أستمتع بأغاني فيروز من جهة، وبمناظر الطبيعة الخلابة صباحًا من جهة ثانية، وأغرق بفرح الجمال، هذا الغرق الوحيد الذي أتمنى ألا ينقذني منه أحد.
فجأة وبقوة، ودون سابق إنذار أو انتباه – على اعتبار أني غيبت نفسي عن كل ضجيج الحياة – سُحبت، وقطعة قماش وُضعت على فمي وأنفي، فلم أستطع الصراخ وطلب النجدة، وغبت عن الوعي. وجدتني في غرفة أثاثها فاخر من الطراز الستيني، ذات ذوق رفيع المستوى، جمع بين الحداثة والتقليد، وبين الدفء وضوضاء الحاضر.
فضولي لاكتشاف المكان جعلني أحاول النهوض من مكاني، فوجدتني لا أقوى على القيام لأن قدمي مُجنزرة.
صرت أضرب أخماسًا بأسداس وأتململ. أفكاري مشوشة: ماذا حدث؟ وأين أنا؟ .
وما هذا البيت الأشبه بقصر هجره أهله؟ بدأت عيناي تكتشفان المكان، فلاحظت حقيبتي موجودة لكنها بعيدة عني، استجمعت قوتي وأصبحت أتمدد وأتطاول كي أصل إليها، لكن عبثًا أحاول. قلت في نفسي: لا تُهدري قوتك، وبدأت أنادي بصوت عالٍ، لكنني لم أسمع سوى تردد صدى اللوحات الحائطية.
كم حذرني أصدقائي كي لا أمارس رياضتي الصباحية في ساعة مبكرة وبمكان خالٍ من الناس إلا من زقزقة العصافير، وكنت أقول لهم: المكان يحبني وأحبه، حتى أصحاب البساتين صاروا يعرفونني ويستفقدونني حين أتغيب عن المشي.
كنت أقول لهم: أنا لا أخاف.
والآن مشاعري في حالة صراع بين خوف وإثارة وفضول، حتى كاد قلبي يمزق صدري خارجًا منه، كشخصية توم الكرتونية حين صور الرسام قلبه وهو ينبض محميًا بجلده وخارجًا من قفصه.
من خطفني؟ ولمَ؟.
لم أتلقَ أي تهديد، ولم ألاحظ أي شيء غريب أثناء مسيري الصباحي. كل شيء كان طبيعيًا.
خوار معدتي يعلو، فعاتبتها قائلة: الوقت غير مناسب يا فتاة، اسكتي.
بدأت أدندن وأتخيل الجدران فرقة كورال ورائي، والضوء مسلط عليّ، وجمهور اللوحات يصفق بحرارة.
وانفتح صوتي بوقت قصير وكأنه ليس لي، مرة يتلبس لبوس أم كلثوم وأخرى أسمهان، ووصلت إلى مرحلة (السلطنة)، وكأنني احتسيت أقداحًا من الكحول الفاخر وانتشيت.
وهذا ديدني حين أشعر بالخوف والحيرة.
فجأة صمتُّ بعد كل هذا الصخب الذي افتعلته، وبدأت أفكر بشكل جدي:
من خطفني؟.
ربما ذلك العاشق المهووس بي والذي حظرته بسبب عناده وإصراره على الوصول إليّ بعد كل رفضي له، فقد كان يتابع كل تحركاتي، حتى أنه من خلال ملاحقته الدائمة لي بات يعرف أصدقائي ويتابعهم أيضًا كي يحيطني من كل الجهات.
أيعقل أن يكون هو؟ العشق قد يفعل أكثر من ذلك، لكن لا لا، ربما أكثرت من مشاهدة الأفلام الأمريكية. من لديه الوقت والجلد ليتتبع شخصًا رافضه كليًا؟
ربما ذلك الرجل الذي قلبت عليه سوق الزبلطاني وكشفت سرقته أمام التجار، لكن مضى على هذه الحادثة زمن طويل، لا لا لا أعتقد.
أيعقل تم خطفي من قبل عصابة الاتجار بالأعضاء؟ ففي البلد الذي تنتشر فيه الفوضى والفقر والجوع والحروب تكثر فيه هذه العصابات، والله ليرموا جثتي في النهر حين يجدون كل أعضائي مهترئة، وخاصة قلبي الذي ما زال ينزف متألمًا من الطعنات. الخسارة معهم، ثم ضحكت محدثة نفسي: (من بره رخام ومن جوه سخام، والله ح ياكلوا مقلب غير شكل).
لا لا، لو كانت عصابة للاتجار بالأعضاء لما أخذوني إلى هذا البيت الجميل الدافئ، كانوا أخذوني إلى المشرحة أو المسلخ.
ربما خطفتني امرأة كانت تحقد عليّ وتغار مني مستعينة بالمجرمين، ثم ضحكت قائلة: وهل الغيرة تفعل ذلك؟ لا لا، أنا أكثر من مشاهدة الأفلام الهندية.
أو عصابة تريد فدية لقاء إعادتي.
من خطفني يا ربي؟ من؟
هل اتخذوني سَبِيَّة لأحد الأمراء؟ على رأي صديقتي فنحن لا نصلح إلا لتقشير البطاطا، وقتها مازحتها قائلة: تكلمي عن نفسك، لا لا، فعلاً أنا لا أصلح إلا لتقشير البطاطا.
لكن لا أعتقد، فهم يخطفون البنات الصغيرات لا من عمري.
غفوت بزحمة تساؤلاتي لأستيقظ على فتح الباب مواربًا، ومن ثم أُغلق بقوة. سمعت همسًا غير واضح، فناديت عليهم كي نتفاهم، لكن بكل بساطة تجاهلوا ندائي.
أثناء تجول عيني في المكان، لمحت كاميرا، فحاولت أن أمشي إلى أقرب نقطة منها، وقلت لمن يراقبني: لقد خسرت الرهان، فقد راقني المكان والزمان، وسأبقى هنا…
#سفيربرس _ بقلم: إيــمان بركـــات