الجزالة والبُعد الوجودي في (مرايا البحر) للشاعرة السورية هويدا محمد مصطفى بقلم الناقد العراقي “داود السلمان” توطئة
#سفيربرس

الشعر عند الشاعرة السورية هويدا محمد مصطفى، هو ليس بنبذة أدبية عابرة، حالها حال الكثير من القضايا الجوهرية التي تنتاب الإنسان (على اعتبار الإنسان عقل مفكر، وكيان يتحسس الأشياء، ويلمسها عن كثب) ثم تختفي ريثما تستقر حالته النفسية؛ بل الشعر عندها هو ثورة فكرية إنسانية، تنفجر في أي لحظة، وبانفجارها سيحدث تغييراً جذرياً في ملامح الحياة (بكل مستويات الحياة)، وبالتالي ستظهر النتائج والمواقف الإنسانية، جراء ذلك التغيير، التغيير الذي يقود بيده قارب الحياة، فينتشلها من جذورها، ومن قوقعتها في بحبوحة ضيقة الأفق.
الشعر عند شاعرتنا هو كمفتاح ضد التقوقع، والانعزالية المتغطرسة في مجتمعاتها العربية والإسلامية، على حدٍ سواء، مجتمعاتنا الغارقة بالحنين إلى الماضي، ومنشدّة إلى دهاليز تراث الأجداد، وتشيح بوجهها عن كل ما هو جديد نهضوي. لذا نجدها تصدح للحب والوطن، للناس والحياة، للفرح والسرور، للشجن الذي يراد منه الرفض لكل مسميات العنف الضارب أطنابه في أعماق شعوبنا، ولا يريد الانفكاك منه.
وعليه، نجد شاعرتنا تحمل على عاتقها هماً كبيراً، وهذا الهم هو عبارة عن رسالة بوح صارخ، ومكامن وخلجات قابلة للانفجار، وما هذا الانفجار إلّا قصائد شجن تخرج من الداخل، من سويداء القلب، ملامسة شغافه بهمس لبوح مستغاث.
أولاً: في العنوان
ولا أبالغ حيث أقول: إن اختيار الشاعرة العنوان لديوانها الشعري “مرايا البحر” إنّه اختيار موفق، ولم يأت على حين غرة، بل كان اختياراً عن دراية وفكرة مسبقة، ومدروسة بعناية فائقة. فالبحر رمز يعني للشاعرة الكثير، ربما هو رمز للعطاء، للخير، للغياب الشاسع، وربما يعني الحياة، الحياة بكل تجلياتها وديمومتها وعطائها غير المحدود، أو حتى الوجود، لأنّ الوجود أقل ما نروم أن نعبّر عنه سنقول: بحر متلاطم الأمواج، فمن هذا الباب جاء العنوان.
ثانياً: الصورة الشعرية
تمتلك الشاعرة قابلية عالية لرسم الصور الشعرية، فتصيغها كما يصوغ الصائغ القرط الذي يروم صياغته، بحرفة، ودراية عالية؛ وهذا يدل على قابليتها على صياغة المعاني الشعرية، كونها متمكنة من أدواتها الشعرية والفنية، كذلك قاموسها اللغوي، والمفردات التي تختارها بدقة وعناية فائقتين. وهي تكتب القصيدة العمودية والتفعيلية والنثرية، وتجيد ذلك. فمن قصيدة عمودية لها تحت عنوان “سأظلّ أحلم” تقول في بيت من هذه القصيدة:
(ما كنت أمنح للسنين نضارة… بل كنت أرقب عتمة الأحزان)
وهذا البيت يُمثل قمة الشجن، والاحباط النفسي، عندما يتعرّض الانسان إلى موقف: إنساني أو شخصي، أو حتى حدث عام فيه صدع لحالة إنسان اتعبته السنين، وأضرمت به نار الأحزان، فجعلته يخوض في بحر اليأس فيندب حظه العاثر.
صورة أخرى من ثورة شعرية كثيرة للشاعرة، من قصيدة وضعت الشاعرة لها عنوان “هي الدنيا” ص 87. تقول:
(ذرفت الدمع في الديجور حتما… عسى الأيام تلهمني الأمورا)
وكلنا نعلم أن “الديجور” هو الظلام، أو اشتداد الليل، وهذا يعني أن الأمور قد وصلت إلى ذروتها، وهذا رمز اتخذته الشاعرة، لتكالب الدهر أو المحن، سواء كانت الشاعرة تصف حالتها الشخصية، أو حال الناس الذين يحيطون بها، وما مر بهم من وضع وزي، لا يُحسد عليها، فهو وصف عام يراد به، حالة ارباك قد حصلت.
ثالثاً: في اللغة
تحمل الشاعرة أشبه بقاموس لغوي من الكلمات والمفردات الشعرية الأخاذة، وكذلك اللغوية بما يكفي أن تكتب مئات وربما أكثر: من القصائد والأبيات الشعرية، بحيث يبقى قاموسها الشعري ممتلئً، فاللغة التي تستخدمها الشاعرية، لغة حية وناضجة.
رابعا: الانزياح الشعري
للشاعرة قابلية ممتازة في تطويع الحروف، وإمكانية هائلة في الانزياح وتمسرح الكلمات في داخل النص، بحركة ديناميكية فاعلة، وهذا وجدته في أكثر قصائد هذا الديوان.
ففي نص بعنوان “ظل وجهك” ص 18، حيث نقرأ: “الغربة فينا/ والعمر يغتسل بالسنين/ في صمت يدور/ نحن نتقاسم وجه المنفى/ المثقل بالدموع.. بالجوع/ على طاولة خرساء). والطاولة الخرساء تمثّل قمة الانزياح الشعري، وهي الصورة التي عبّرت من خلالها الشاعرة عن القلق والخوف من المجهول، لاسيما حين تصل الأمور إلى طريق مغلق، ويكون الإنسان في حيرة من أمره، فليس عليه من اليسر أن يقرر أي قرار، سلباً كان أم إيجاباً، وهو من أصعب على ما يمر بالإنسان.
ولها أيضاً من نص آخر تحت عنوان “على عتبة الحب” ص 4 نقرأ: “عابرون نوقظ الحلم/ من مضجعه/ نحاول فك أزرار الليل/ نرتب وسائد الشوق/ غارقين بصمتنا المجروح”. والحق يقال: هذا المقطع هو أشد محنة من النص الذي سبقه، فهو صارخ بالشجن، وفيه انزياح واضح في الخطاب الشعري، نص إبداعي عبرت فيها الشاعرة عن قابليتها في صنع التجلي الشعري، والاطناب عن روح القلق التي يمتاز بها الشاعر المتمكن من أدواته الشعرية.
ومن نص آخر بعنوان “في غيابك” نقرأ هذا المقطع: “كلما حز من ذكرياتي/ وحاولت النسيان/ يقبض عليَّ حبك” وهذا تعبير موفق يُعبر عن الشّد الروحي والعاطفي بين الحبيب وحبيبته، وهو صورة أخرى للانزياح الشعري الذي راهنت عليه الشاعرة، فهو رهان جاء مكملاً لحالة اللهب العاطفي الذي يطوق قلبين متحابين. لكن في “تأملات” ص 40 من مقطع للشاعرة كان مغايراً، يُفسر أواصر الحب الصادق، الموشم بالحنين. “لم أشرب نخب حضورك/ لم أسمع زغاريد الكأس/ وأنا أترع ليلي بذكراك”.
في هذا المقطع ترسم الشاعرة صورة أليمة، تجسّد فيها معاني الفراق، وحرقة البُعد، وألم الغياب، وهو تعبير ضاج بمعنىً إنساني – عاطفي، يمثل المشاعر الجياشة وصادقة في الوقت ذاته.
وتسترسل الشاعرة وهي تجهش بخلجات عاطفية، تعبّر من خلالها عن آلام مكبوتة، باعتبارها امرأة، والامرأة لها مشاعرها الخاصة، هي غير المشاعر التي يحملها الرجل، وذلك للفوارق البيولوجية وغيرها. فمن نص آخر لها يفيض انسيابية، وهو بعنوان “عبور في الذاكرة” ص 52. جاء في مقطع منه: “وأنا أطوف النظرات/ في الشرود/ في الأفق البعيد/ وأضيع في أعماق البحر/ أذوب مع الموج المهرول/ باضطراب وجنون”. وعبارة الجنون هنا جاء كإنّ الحال قد وصل إلى الحد الأعلى من: الشوق واللهفة، ونفاد آخر سهم من سهام الصبر لدى الشخص المنتظر، وقد طال الغياب وما كاد أن يتحمل المزيد من الصبر، غير أن يسلم أمره للقضاء والقدر.
وهكذا تستمر الشاعرة في بث بوحها، هذا البوح الذي يمثل قمة العاطفة والبُعد الإنساني، الغارق بالشجن الإيجابي الذي يراد من ورائه الشجب والاعتراض. وهو انزياح في اللغة، وتموسق نابض بالإيقاع الشعري.
خامسا: صورة الوطن
والوطن يمثّل الأم، الأب، الأرض، وضمير الشاعر الذي عاش وترعرع فيه، فهو بمثابة الروح، والقلب الخافق: بالخير والمحبة والإحساس الدائم، لهذا الشاعر – الإنسان.
فمن قصيدة تحت عنوان “دمشق” ص 28 نقتطف منها هذا المقطع الذي جسدّت فيه الشاعرة قمة المشاعر النبيلة الصادقة، تقول: “هي دماؤهم/ فاضت حديدا ونار/ تعبر الجنائن والمدائن/ يهتز جسد الأرض وترتجف الأمراء/ تتلوى من الطفولة تشرب الأشياء/ وجرح عميق/ إني أراك يا دمشق/ ترسمين الكون/ أساطير البقاء”. فلا يوجد أكثر وأجزل وأنبل من هذه المعاني الصادقة، من جزالتها وكثافتها، وبُعدها الروحي والوجودي، إنها دمشق – أيها السادة – ويكفي أنها بلد الشاعرة، وهذا له دلالته الخالصة.
#سفيربرس _ بغداد _ بقلم الناقد العراقي :داود السلمان