هل يلتهم السلاح النقدي المشرق العربي؟ . بقلم : د. سناء شامي
#سفيربرس

إعلان
على ما يبدو لقد بدأت معالم العولمة بالوضوح في منطقة ما تُسمّى بالشرق الأوسط! العولمة هي تجلّي إرادة القوة لدى مجموعة من المرابين الدوليين الذين يستخدمون التجويع و السلاح النقدي لفرض إرادتهم على الشعوب و الحكومات. إن نموذجًا بشريًا زائفًا بلا عرق، بلا تقاليد، بلا ثقافة، بلا دين، بلا شخصية محددة، لا يحركه إلا معدته وأمعاءه. هذه هي المرحلة النهائية، التي سعى إلى تحقيقها الماركسيون والمرابون، والتي سيتم بلوغها بعد تصفية جميع القوميات العرقية. علينا أن نحارب هذه المحاولة، التي ينفذها التمويل العالي عديم الجنسية، لمحو وتدمير التقاليد والهوية العرقية والثقافية واللغوية والتاريخية والمدنية لكل مجتمع عرقي-قومي، ليس فقط في المنطقة العربية، و إنما أيضاً في أوروبا البارحة، دعاني صديق من باريس لإشارك في لقاء ثقافي عبر الإنترنت للدكتور مضر حوراني، أنا في الحقيقة لم أسمع يوماً عن إسمه، لكن فهمت بأنه شاب و ناشط سوري أمريكي و له علاقاته مع الكونغرس الأمريكي. خلال اللقاء، تحدث عن الطائفة العلوية و ضرورة الدفاع عنها. و عندما حاورته، طلبت منه أن يلغي من حديثه كلمة طائفة، لأنها كلمة إستعمارية دخيلة، و الأفضل أن يقول سوري علوي، بهذه الحالة يكون قد أضاف خصوصية على الهوية السورية، إلا أنه فاجئني بقوله بأنه أمريكي علوي و مهتم بشؤون العلويين! حاورته علمياً، في الواقع كان رده على حواري مليئ بالتناقض، و يحتوي في مضمونه دفعاً نحو مفهوم الأممية، و بعث في نفسي الإحساس بأنه موجّه و يعمل على التشجيع لأفكار خاطئة لا أساس تاريخي و لا قانوني لها، و أفهمني بأن الهوية لديه أن يدافع عن العلويين، ثم يذهب ليتحدث بأنه في أمريكا المنوعة الأعراق و الأعراف، يغضبون معاً إذا تمّ حرق العلم الأمريكي في أية ولاية لأنهم يشعرون بأنهم أمريكان! فعلاً. منتهى التناقض! إذاً لماذا تريد سيد مضر الدفاع عن العلوي بشكل منعزل عن هويته السوريه، و أنت الذي أكدت من خلال مثالك على أن الهوية الأمريكية هي الجامعة لكل أطياف المجتمع الأمريكي؟ إن شعار الأممية الشهير “وطننا هو العالم” لا يختلف اليوم عن شعارات وول ستريت وفرانكفورت. يجب الحفاظ على نفس المسافة من تلك التيارات الفكرية “الغربية” التي تُعرّف الهوية الأوروبية بالغرب الأمريكي، و ترى في تهجير الأفراد غاية، لأن التغريب تحديدًا هو ما يسبب في سقوط روح الهوية. هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم مدافعين عن مجموعة من المجتمع، و ليس المجتمع بأكمله، ليسوا سوى طُعم، إذ يستغلون مفهوم الجنسية لصالح خلطه بمفهوم المواطنة القانوني والبيروقراطي المحض. بالنظر عن كثب إلى التاريخ، كان من أولى علامات تراجع الإمبراطورية الرومانية، هو إمتداد المواطنة لتشمل جميع سكانها. كتب جاكومو ليوباردي في كتابه “زيبالدوني”: “عندما كان المواطن الروماني هو المواطن العالمي، لم تكن روما ولا العالم محبوبين. أصبح حب روما الوطني، بعد أن أصبح عالميًا، حباً غير مبالٍ، خاملًا، لا قيمة له، و عندما أصبحت روما هي العالم، لم تعد وطنًا لأحد، ولم يكن للمواطنين الرومانيين وطناً، عندما إتخذوا العالم ككل وطنًا لهم. حتى أوربا اليوم مضطربة الهوية و إن خلاصها يجب أن يمّر عبر وعي جديد بهوية الشعب، ومن خلال العودة إلى المبدأ الوطني، الممتد على نطاق قاري، لإستعادة هذا الاستقلال وهذه السيادة التي تهددها اليوم بشكل متزايد تلك القوى التي تريد حل الأمم في الدولة العظمى للعالم المالي، من خلال تدمير الهويات الوطنية، التي تسمح للشعب بأن لا يكون مجرد كتلة من العاملين الاقتصاديين، بل مجتمعاً من الدم والتربة والروح.” لذلك أقول لشعوب المنطقة العربية بأن لا تنخدع، و بأن خلط مفهوم المواطنة بمفهوم الأممية، سيؤدي حتماً إلى نهاية الأمة، لأنها لم تعد جماعة روحية، بل أصبحت مجرد جهاز بيروقراطي لإصدار الوثائق المختومة. إنطلاقاً من أن مفهوم الجنسية، بمعنى الإنتماء العرقي والثقافي، موجود في كل حضارة بنفس الطريقة في جوهرها، وأن المواطنة هي مفهوم قانوني يجد تخصصات مختلفة حسب النظام القانوني. فمثلاً تأكيد سورية الفرد لمجرد ولادته في الأراضي السورية يعني الإعتراف بأنه لو وُلد بدلاً من ذلك على بُعد بضعة كيلومترات من الحدود السورية لما كان سورياً، و هذا المثال ينطبق على جميع الدول في العالم، وهو منطق لا معنى له على الإطلاق، مع الإعتبار أيضًا، بأن حقيقة قانون الأرض هو نظام تمّ إعتماده في الولايات المتحدة فور ولادتها، إذ كانت بحاجة إلى هجرة فسيولوجية ليتم توطينها، وبالتأكيد ليس من قبل دول ذات تاريخ يمتد لآلاف السنين كإيطاليا، أو اليونان، أو سوريا، أو العراق على سبيل المثال. يجب تكوين المواطنة قانونيًا على أساس مبدأ الجنسية: إذ لا يمكن أن يحدث العكس، نظراً لأن القانون، مهما كان ينظم الظواهر الإجتماعية بأكثر الطرق تنوعاً، لا يمكنه بالتأكيد تغيير المبادئ التي كانت موجودة دائمًا في طبيعة حياة الشعوب، الذين تم تنظيمهم دائمًا في مجموعات متجانسة وفقًا للخصائص العرقية والثقافية وبالتالي وفقًا لمبدأ الجنسية. إن إعادة تأكيد مبدأ حق الدم اليوم يعني إعادة تأكيد أولوية الأمة على الفرد. ولا بد من توضيح هذا الأمر. ففي تاريخ أوروبا، لطالما نشأت تعددية ثقافية طبيعية: فالإمبراطوريات التقليدية (وآخرها إمبراطورية هابسبورغ، وريثة الإمبراطورية الرومانية المقدسة) شهدت على أراضيها تنوعاً من الشعوب، ضمن انتمائهم المشترك إلى أوروبا، و كان هناك إمكانية التعايش فيما يُسمى “النظام العرقي الإمبراطوري”، حيث تتصالح الهوية الخاصة مع الهوية العامة، و كان الأمر مشابه لذلك تحت الإمبراطورية العثمانية. تعددية ثقافية طبيعية تختلف تماماً عن بوتقة الانصهار الأمريكية التي تفرض اليوم تعايشاً مثالياً وغير طبيعي بين شعوب شديدة الإختلاف، تحت راية “الإنسانية” المشتركة. علينا أن نطرح المبدأ الوطني، كحجر أساس لبناء هوية أوربية، كما الحال في أوربا، أو هوية عربية، كما هول الحال في المنطقة العربية، و التي للآسف، تعيش اليوم حالة تخبط، أقوى من أي وقت مضى، والهوية هذه يجب أن تشكل الحصن ضد “المستقبل المفتعل” الجديد المتمثل في التسوية والتوحيد الإصطناعي للعادات والثقافة التي فرضتها العولمة. إن الهوية الشعبية المرتبطة بالمبدأ الوطني تُشكّل اليوم حصناً منيعاً ضدّ النظام المالي عديم الجنسية الذي ينكر أي انتماء ذو هوية، والذي يُدمّر العالم العربي و أوروبا. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن نخب المال و زبانيتهم، هم في الوقت نفسه من أشدّ المؤيدين لوضع سياسات تهدف إلى القضاء على الهويات العرقية والقومية. و من يظنّ أنه يستطيع حل المشكلة، فقط بمعارضة النظام المالي ثمّ يقبل بفتح الحدود من أجل “عالم بلا حدود”، يقع فقط في بلاهة سياسية.
ما دام الغرب الأقوى عسكريا وإقتصاديا وسياسيا وعلمياً فكل ما يصدر منه نحو العالم، هو الأوامر التي لا بد من تنفيذها. لذلك لا بد من تشغيل العقل، والمحافظة على شخصيتنا واستقلالنا الفكري و وزن كل شيء بالعقل والمنطق و التاريخ والتجربة و ما يترتب على ذلك من فائدة أو أذى. الثقافات البشرية تتلاقح رضينا أو رفضنا، والمهم أن نكون يقظين طوال الوقت وألا نتوانى طرفة عين عن الفرز والتدقيق والتقويم”.
آلان دي بنوا، ذكر في إحدى كتاباته، كيف أن معارضة عملية تدمير هويات الشعوب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمكافحة الرأسمالية المالية المتسارعة. وأظهر كارل ماركس نفسه في تحليله للعلاقة بين سياسات الإنفتاح على الهجرة وحاجة رأس المال الكبير إلى جيش من العبيد، مستعد لقبول أجور متدنية، وإحداث تنافس بين العاملين، وبالتالي التسبب في إنخفاض مستوى ظروف العمل.
و لذلك نرى بأن أشدّ المؤيدين لنموذج الرأسمالية الحالي هم في الوقت نفسه من أشدّ المؤيدين لفتح الحدود دون تمييز لقانون الأرض. لذلك نرى الإمبريالية الاقتصادية التي تُجبرنا على قبول الهجوم على السواحل، والذي اشتد إثر السياسات الغربية المؤسفة المؤيدة للربيع العربي والإرهاب الإسلامي في سوريا. لا شك أن المرء يُرحِّب بمقترح سياسي لإغلاق الحدود نظراً لمشاكل النظام العام التي تُظهر صلةً لا تُنكر بين الهجرة والجريمة. إن مجرد تصفح كتاب في القانون أو العلوم السياسية لن يُشكك في الاختصاص الإقليمي للدولة، وبالتالي في سلطتها في هذا الصدد. إلا أن ما يجب وضعه في صميم المعركة، لمن يريد تجاوز سطح المشكلة، هو مفهوم هوية الشعب. هوية الشعب تعني رفض المفهوم الذري للفرد، الذي يُبالغ فيه اليوم في تصور الفرد فقط ضمن المحيط الاقتصادي، و لا بدّ من التأكيد على نموذج الإنسان العرقي، الذي يُصوّر الفرد البشري في رابطه الجوهري بمجتمعه الوطني في علاقة ثلاثية لا تنفصم بين الماضي والحاضر والمستقبل.
اليوم هناك العديد من المفكرين الذين يتنبؤون بـ”إمبراطورية عرقية” محتملة – حيث تتناقض فكرة الإمبراطورية فوق الوطنية والمتعددة الأعراق مع تشوهها الغريب: إمبريالية مدعومة بـ “حكومة عالمية” تخنق التعددية الثقافية العرقية المغطاة بربوية بلا وجه”. و هذا ما يجب أن تحذره الشعوب و تقاومه، و كما يقول آلكساندر دوغين في وصفه للبلوتوقراطسية: بأنها أقصى درجات إنحطاط الرأسمالية، فهي تستبدل العمل و قيمه بالمضاربة. البلوتوقراطسية تؤمن فقط بقوة المال. لم يعد المال بالنسبة لها رمزًا للعمل، ولا وسيلةً لنقل الثروة التي تُشكلها الأصول الثابتة (الحقول، المنازل، البضائع، النباتات، السفن)، بل هو ثروةٌ بحد ذاتها، سلاحٌ ذو قوةٍ غير محدودة. لهذا السبب، يجب على البلوتوقراطي أولاً و قبل كل شيء أن يتغلب على أي نزعة عاطفية: لا يمكن أن تُحد قوته بمفهوم الوطن، ولا بمفهوم الحضارة، ولا بمفهوم الإنسانية. لديه مصلحةٌ واحدةٌ فقط: أن يُدرك المجتمع الذي يعيش ويعمل فيه قوة ماله المطلقة ويخضع لها… و من هذا المنطلق نرى الاستثمارات الأجنبية من دول الخليج كبيرة ومتنوعة، مدفوعةً برغبة في تنويع اقتصاداتها وتعزيز علاقاتها الدولية. ووفقًا لموقع يورونيوز، فقد أسفرت زيارة ترامب إلى الخليج عن استثمارات وعود بقيمة 1.4 تريليون دولار، كي لا نتحدث عن مطامع إستثماراتهم في سوريا.
إن تاريخ المستقبل. مهما إدعى مؤيدو البرامج العالمية، سيكون، تاريخًا للأمم، أي للشعوب أكثر من أي وقت مضى، لأن الأمم بدأت تُدرك بأن العولمة هي سعي المرابين الدوليين الذين يستخدمون السلاح النقدي لفرض إرادتهم لإنتزاع إرادة الشعوب و هويتهم و جعل البشر بدون عرق، بدون تقاليد، بدون ثقافة، بدون دين، بدون شخصية محددة، تحركهم فقط المعدة والأمعاء مجردين من السعادة و الرضى… بعدها سيتم الإستغناء عنهم و ستآخذ الآلات مكانهم. لا تتنازلوا عن جذوركم و هويتكم، و خصوصيات إنتمائكم كي لا تموتون، فالتجويع أو الإشباع لحد التخمة، وجهان لعملة واحدة هي قتل الهوية من أجل قتل الإنسان.
#سفيربرس ـ بقلم : د. سناء شامي
إعلان