إعلان
إعلان

سفيربرس في رحلة فكرية مع الكاتب والشاعر والناقد العراقي د. حاتم الصكر

#سفيربرس _ حوار : دنيا صاحب - العراق

إعلان

في هذا الحوار المتميز والخاص بسفيربرس، نصحبكم في رحلة فكرية ممتعة مع الدكتور حاتم الصكر، الكاتب والناقد العراقي الذي يجمع بين عمق الفلسفة، ورصانة النقد وجماليات الأدب والفن.

لقد أثرى المشهد الأدبي بإبداعاته وتحليلاته العميقة ومن خلال تأملاته في النصوص الأدبية، ورؤيته النقدية المتجذرة في الأصالة والمعاصرة، يكشف لنا الدكتور حاتم الصكر عن رؤيته للفكر الإنساني، ودور المثقف في مواجهة التحولات الكبرى في عصر التكنولوجيا.

يحمل هذا الحوار في طياته دعوة للتفكير والتأمل في آفاق الإبداع والفن والأدب، ويضيء مساحات تتلاقى فيها الهوية الثقافية العربية مع قيم الحداثة، ليكون رحلة بين الماضي والحاضر، وبين التراث والتجديد.

الجزء (1)

§ في مشهد الأدب والنقد العربي، يبرز اسمكم كمنارة فكرية مميزة؛ كيف تقدم لنا بداية رحلتك الفكرية ككاتب وناقد ومفكر معاصر ؟

§ شكراً لك.أتمنى أن أكون كما وصفتْني كلماتك، لكني أعدّ نفسي كاتباً أتعلم وأقرأ بشغف المحب للشعر والمعرفة والأدب بدأت حياتي في الكتابة بالشعر شأن أغلب مثقفي جيلي ومبدعيه ومن سبقوهم، الشعر أقرب الأسلحة للنفس دفاعاً عن الوجود والرؤية والحرية والحلم

تنوعت في القراءة بسنِّ مبكرة وأنغمست في قراءة الشعر بتشجيع من الأسرة أولاً ومن معلّمينا ومدرسّينا، قراءة القصائد التي أحفظها، في الاصطفاف الصباحي من الصداقات التي اصطبغت منذ المراهقة بالقراءة ومتابعة الصحافة الثقافية، والمغامرة في تجربة الكتابة بطريقة الشعر الحر – كما اصطُلح على شعر التفعيلة التجديدي-.تأثر مشروع بالسياب والبياتي وخليل حاوي وشعراء المهجر قبلهم وجبران خاصة، ثم مغامرة النشر المبكر في الدراسة الثانوية ينشر لي مقطع على صفحة للقراء وناشئة الشعر، وتليها قصائد في صفحات أدبية مخصصة، وفي الجامعة تنشر لي مجلة الآداب قصيدة كرّست وضعي شاعراً في نظر الأصدقاء والزملاء والمعارف في الأقل.
الدراسة الجامعية أضافت لي الكثير اطّلاع منظم على تاريخ الأدب والنصوص من عصور مختلفة، وفنون البلاغة و علم النحو والعروض وغيرها لكن المادة الأكثر أثراً هي النقد الأدبي القديم والحديث حفزني ذلك على برمجة قراءات متسلسلة خلال الدراسة والعطلات الطويلة وبالاستعارة من مكتبة الكلية والجامعة واكتشاف المزيد من جماليات الأدب الموروث والحديث ملاحم ومطولات ومعلقات وكتب نقد مختلة المراجع .. كل ذلك وبحوث الدرس النقدي شجعتني بل جذبتني دون وعي للكتابة، ولكن عن الشعر أيضاً. وكانت البداية ببحث مطول عن المزايا الفنية في شعر السياب ربيع عام 1965.لم يكن قد مر على غياب السياب إلا شهور ومكتبته النقدية شحيحة، فكان بحثي الذي نلت عنه درجة امتياز حافزاً للإيغال في التجربة.
ستتنوع قراءاتي، وأنشط في الصحافة الثقافية في العراق وخارجه وتبدأ حياة أخرى بالنسبة لي وهبتُها للأدب بل غيرت مهنتي من التدريس إلى العمل الثقافي ما زاد من تركيزي وتغذية قراءاتي بالمزيد وجمعت بعض دراساتي في أول كتاب نقدي لي بعد ديوانين شعريين عنونته ب(الأصابع في موقد الشعر) 1986وهو دراسات تطبيقية وقراءات في دواوين وظواهر شعرية، كنت قد نشرتها في الصحافة الأدبية أو ساهمت بها باحثاً وكان ذلك التطبيق والتحليل النصي هو ما يميز رؤيتي في مجال النقد بين الزملاء، حيث ركزت مبكراً على قراءة المتون نصيّاً ونقدها وتحليلها . وسوف يتجذر ذلك بعد دراساتي العليا التي ظل موضوعها الشعر مكتوباً ومنقوداً ولا شك أن تجربتي الشعرية على تواضعها أمدتني بقدرة أفدت منها في تحليل النصوص الشعرية ورصد ما فيها من ظواهر ومضامين.

§ هل ترى أن النقد الفلسفي أصبح أكثر حاجة ملحة في فهم التحولات الفكرية في عصر الحداثة؟

§ أصدقك القول أني لا أطمئن كثيراً لصفة الفلسفي وصفاً للشعر ولا للنقد، سوف يتسم الشعر ببرودة وجفاف وإيقاع ثقيل حين يحاول الشاعر أن يجعله فلسفياً، الشعر والنقد عندها سيفقدان هويتهما الأدبية ولا تربح بهما الفلسفة شيئاً ثمة تفلسف وتصوف مثلاً في أشعار كثيرة قديماً وحديثاً: المعري وإيليا أبو ماضي وخليل حاوي وأدونيس ، وثمة قصائد للبياتي والسياب ونازك وعبدالصبور وغيرهم ذات منحى تأملي وتفكير في الأسئلة الكبرى كالوجود والموت والحب والحقيقة والزمن ومصير الإنسان.. لكنها لا تقدم ولا يتوجب عليها أن تقدم – فلسفة أو منظومة معرفية يمكن وصفها بذلك وليس هذا انتقاصاً من التجارب التأملية والتصوفية في الكتابة الشعرية ويسلط النقد ضوء القراءة والتحليل والتأويل عليها لكشف جوهر الرؤية فيها ويفككه لمعرفة مدى ملاءمة النظم لها وكيفياته فيصبح نقد الفكرة جزءاً من دراسةِ شعريةِ النصوص
وهذا أقصى ما يمكن للنقد أن يقوم به، وهو يعاين متوناً أدبية البنية
وذات جماليات خاصة، يبقى أن نضيف أن العلوم الإنسانية ومنها الفلسفة ، عدّة ٌ ضرورية للناقد كما للأديب ، وقد تغذي رؤيته وتلوّنها بأطياف من العمق في التأمل وصوغ التراكب المعبّرة عن الفكرة او قراءة تجلياتها في النصوص.
ويبقى أن أذكر أن النص هو الذي يفرض شكل المقاربة أو الممارسة النقدية. فإن كان ذا محمول تأملي وفكري، استلزمت مواجهته بقراءة مماثلة، تستقي من علم الجمال ومفرداته ما يعين على قراءته ونقده ولكن دوماً بمقاربة أدبية الرؤية والأسلوب.

§ دكتور حاتم الصكر، إلى أي مدى تعتقد أن الرواية الفلسفية اليوم تفتح آفاقًا جديدة في تناول الموضوعات والأساليب من حيث تنمية العقول والوعي الفردي والجماعي؟

§ جزء من إجابة السؤال السالف تصلح جواباً لهذا التساؤل. فقط أضيف أن ثمة روايات عُدت متأثرة بفلسفة ما، أو تحاول أن تعكس منظوراً فلسفياً- روايات لسارتر مثلاً وكامو ودستويفسكي وسيمون دي بوفوار وأمبرتو إيكو وكونديرا وباولو كويليو وبعض الروايات عن سير للمتصوفة والفلاسفة أو نظرياتهم ورؤاهم ، كما في روايات لأمين معلوف وإليف شافاق وعبدالفتاح كيليطو ويوسف زيدان وواسيني الأعرج وبرهان شاوي وغيرهم.
وفي ظني أنها نادرة ، ولا تحظى إلا بقراءات النخبة التي تمتلك خزيناً معرفياً أو خلفيات فكرية، وهي ذات أثر في القراء وتحفيزهم على تأمل حياتهم وواقعهم دون شك وغنى الشخصيات وعمق الأحداث تأتي من أطر وسياقات سردية ليست الأفكار الفلسفية أوالتأملات بالأحرى، إلا بعض دراسة الطبائع والرؤى ضمن الحدث السردي، وليس لبسط فلسفة محددة.

§ في كتابك أقنعة السيرة وتجلياتها ركزت على ثنائية البوح والترميز ما الفرق بينهما ؟

§ هذا هو عنوان فصل في الكتاب عن السيرة الذاتية النسوية ( البوح والترميز القهري-الكتابة السير ذاتية تنويعات ومحدّدات) 2014 ،ثم في كتابي (أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها) 2018 فقد وجدت نصوصها التي تعرضت لها بالقراءة والتحليل والتأويل تتأرجح بين الرغبة بالبوح بما في ذات الكاتبة، متشظياً في وعي شخصياتها النسوية بدرجات متفاوتة بحسب السياق، أو الميل إلى استخدام الترميز نيابة عن البوح المباشر وهذا الترميز واضح الانصياع للخوف من المنع والقمع، فيتخذ الصفة التي وجدتُها مناسِبة له : الترميز القهري أي المقيّد في الكتابة النسوية بفعل قوة قاهرة متسلطة على الوعي تمنع البوح فتتقنع بترميز فنّي عالٍ يوصل الرسالة للمتلقي، بما تعاني المرأة في حياتها كنوع يعاني الإقصاء والرقابة الصارمة والتأويل الاعتباطي والنمطي ؛ كالمطابقة بين الكاتبة وشخصياتها السردية، أو استنكار ذكر أي فعل حر تقوم به امرأة في متون السرد
البوح رتبة عليا في الكتابة تتسم بالجرأة والصدق وتخطي الموانع والترميز صيغ استبدالية تنتهج الإشارة والإحالة تخلصاً من عبء تلك الموانع وإن تبلورت فيها الرؤية النوعية للكاتبة.

§ في كتابك (المرئي والمكتوب: دراسات في التشكيل العربي المعاصر) تناولت تأسيس الحداثة الفنية عربياً كيف ترى تأثير الرمزية والتجريد في أعمال الفنانين المعاصرين خصوصاً جواد سليم، شاكر حسن آل سعيد ، وغسان غائب؟

§ لقد وصل هؤلاء الرسامون إلى التجريد بعد رحلة بحث مختلفة ، مرت بمراحل تتراوح بين التشخيص و الانطباعية والواقعية والمدرسية أو الأكاديمية مع وجود لمسة أسلوبية خاصة بهم، أوصلتهم إلى اختيار التجريد أو الرمزية والحداثة الفنية بمعالجات متنوعة.
يبدو لي أن الفنان العربي يبدأ بأقرب ما إليه ، وهو الواقع والمرئيات أو البصريات المعروضة في البيئة والثقافة فيتمثلها ويعيد تمثيلها رسماً أونحتاً لكنه مع زيادة قراءاته وتأثره بمشاهدات من الفن العالمي ومدارسه الحديثة ونمو وعيه وإدراكه، يبدأ التفكير بمعالجة فنية متقدمة تعتمد التجريد كاختيار حداثي من جهة ولصلته بكثير من الموروثات البصرية كالنقش والتزويق والزخرفة من جهة ثانية.
أما تأثير ذلك في أعمالهم، فهو شاهد على تشربهم واستيعابهم لمغزى التجريد الذي لا يعني العشوائية وانعدام الرؤية أو العبث بالسطح التصويري، بل ينطوي على بُعد جمالي يضيف للأعمال قيمة وأهمية.
الرسامون العراقيون الذي ذكرهم سؤالك وبحثتُ تجاربهم في الكتاب وثم في ( أقوال النور) الصادر عام2007. يمثلون المغامرة الأسلوبية والرؤية التشكيلية المتقدمة عبر تحولاتهم ويمثلون إنجاز التحولات الفنية عربياً في النحت والرسم والحروفية والتجريد، والفن المفاهيمي بجانب عدد كبير من فناني العراق والبلدان العربية الذين تعرضت لتجاربهم بالنقد والإشارة والاستشهاد.

§ كيف استطعت أن توفق بين التحليل النقدي والتقدير الجمالي بأسلوب اكاديمي لأعمال الفنان غسان غائب في كتابك ( كن شاسعاً كالهواء) ؟وضح وجهة نظرك ؟

§ لغسان غائب حضور جيلي مختلف وإنْ تتلمذ عبر صلته بأساتذته، لاسيما شاكر حسن آل سعيد بشكل خاص وحميم، ورافع الناصري وضياء العزاوي. فقد انصرف بعد التجريد والفن المحيطي،إلى الأعمال المفاهيمية أو التركيبية، برؤية ثقافية بالدرجة الأولى عبر اعتماد المرجعية الشعرية المصاحبة لأعماله المبتكرة أو التي تمثل مركز انبثاق فكرة العمل والخارجة عن اللوحة بالمعنى التقليدي، وبالتلقي والعرض أيضاً
إنه يبتكر دوماً، ويخلق فضاءاته المميزة بشاعرية ومضامين إنسانية يستقي من القصيدة والحِكم الصوفية والواقع الإنساني جلَّ أعماله وعند تنفيذها لا يتوانى عن ابتكار جريء لتنفيذ العمل مصغّرات أو ملصقات أو مواد مختلطة وفي فضاء خارج حدود اللوحة والإطار والجماليات المعروفة في الكتب الشعرية والملصقات والصور والمواد البيئية والحياتية المركبة.
من هنا تركزت قراءتي على استمداده من الخزين المعرفي والعرفاني والشعري إنه – وهذا ماجذبني لأعماله – ذو حس فني مرهف يلتفت لما حوله في العالم: بشراً ومخلوقات ينفذ أعمالاً عن الظلم الذي يتعرض له البشر والقمع والعنف، والمعاني اللابدة في النصوص الشعرية التي يختارها بدقة وخبرة ويواصل تناصاته مع التراث الصوفي والروحي من هنا اتفقنا على تسمية كتابنا المشترك : كن شاسعاً كالهواء وهي مقولة للمتصوف المعروف بأشعاره جلال الدين الرومي ذلك هو الفضاء الشاسع الذي يشتغل فيه غسان بحرية وصدق ورهافة والذي جذبني للكتابة عنه وإضاءة بعض الجماليات والخلفيات الفاعلة في تجربته ومضامين أعماله ورؤيته.

الجزء (2)

§ تناولتَ قصائد النثر في العديد من القراءات النقدية ما السمات أو الجوانب التي تثير اهتمامك في قصيدة النثر كي تكون مشروعًا نقديًا بالنسبة لك؟

التي تمثل قصيدة النثر في الكتابة الشعرية العربية مرحلة شاع وصفها بأنها الحداثة الثانية كان ظهورها عربياً ضرورةً حوّلت مسار التجديد، وما رافقه من حداثة أولى محددة نوعاً ما بالوزنية أو الموضوع الشعري والإيقاع الخارجي.
توفر قصيدة النثر للشاعر والقارئ معاً حرية التعبير الشعري وتلقيه دون وسائل نغمية تشوش رسالته، إنها تمنح القصيدة فسحة للاندماج بعصرها واستكناه معاناة الإنسان وأحلامه ومخاوفه تنصبُّ شعرية قصيدة النثر على تشكيل حر للمشاعر الأنا الشعرية حاضرة فيها ، لأنها لا تحتكم إلى قوانين خارجية جمعية لذا كتبتُ مرة أن لكل شاعر قصيدةَ نثرِه كما أن الأجيال هي اجيال الشعر لا الشعراء. إنها تنبني على عناصر جديدة غير معيارية و تهتم بالتكثيف والإيجاز والتوهج واللازمنية التي تطلق عنان خيال الشعر، وتوسّع أفق قارئها وترتقي بطرائق التلقي غير التقليدية. لا تبحث قراءتها عن تحقق المعيارية الوزنية كموسيقى خارجية ولا التقفية كزخرف من البديع واللفظي والشكلي الفارغ والمتكلف غالباً بل تسترسل وتتوخى ما فيها من جماليات وتثاقف مع الإنساني في الكتابة والفكر والفن.
تلك بعض أسبابي للعناية، بل العكوف على الاهتمام، بشعرية قصيدة النثر وآفاق تلقيها وكتابتها.
من أجل ذلك قدمت عدة مؤلفات حول إيقاعها البديل و اتجاهاتها الفنية في كتابيَّ( حلم الفراشة)2004 و(الثمرة المحرّمة) 2019، واستثمارالمخيلة والذاكرة في كتابتها وحاولت تصنيف موضوعاتها وأبرز ذلك ما تناولته في آخر كتبي ( الميتاشعري في قصيدة النثر العراقية) 2024حول ظاهرة الكتابة الميتاشعرية ،أي جعْل القصيدة تفكر بنفسها ،وتتحدث عنها موضوعاً لها، وعن دلالاتها وموقعها في فكر الشاعر وإحساسه ورؤيته.
قصيدة النثر قصيدة المستقبل الشعري المواكب للعصر في تقدمه، والرافضة لما يعترض الحرية والحلم والعدل والجمال، وما يعانيه الإنسان في تحولات حياته وفنونه وآدابه .

§ هل يمكن القول إن النقد، كما تمارسه في كتبك مثل “نقد الحداثة”، يسعى إلى تصحيح المسارات الإبداعية، أم إلى إعادة تأويلها فحسب؟

§ التأويل عملية تستند إلى إسقاط قوة القراءة على النص لفهم ملفوظه وتفسيره وبناء كيان نصي موازٍ له، ينطلق من النص، دون أن يتطابق بالضرورة مع قصد المؤلف، أو ما تمنحه المعاني والدلالات المعروضة على سطح النص أو مبناه ومتنه بل تحفر في توسيعات المعاني وما يختبئ خلفها من دلالات مسكوت عنها.
بهذا المعنى قمتُ بقراءة الممهدات النقدية التي رافقت التحديث الشعري في الكتابة.
ومنها ماهو اجتماعي وما هو فني جمالي، ومنها ما اقترح تحديثاً تؤازره تجارب الكتابة في العالم وقمتُ بقراءة عيّنات من تلك الممهدات التي كُتبت كنقد للحداثة أو التمهيد للتجديد الشعري وحاورتُ ما قرأت وبينت مدى التقائه بمجرى نهر الحداثة الشعرية وما أضاف له أو ما قدمه بخجل أو تردد أوبحماسة واندفاع أحياناً وأحياناً ما انقلب على التحديث الشعري، كالدعوة إلى زمن الرواية، وموت النقد الأدبي وتسفيه الحداثة كمشروع ولم أكن معنياً بتصحيح المسارات كما جاء في السؤال ، بل اكتناه الإضافة والدعم مشروع الحداثة، وتأويل مرامي نقاد الحداثة قرباً وبعداً عن سهم انطلاقتها ، وحرية القصيدة والقراءة.

§ كيف انعكست تجربة المهجر والعيش خارج الوطن على أسلوبك في الكتابة النقدية والإبداعية؟ وهل وجدت في الغربة أفقًا أوسع أم شعورًا بالانفصال؟

§ كثيراً ما أجبت على مثل سؤالكم بالقول إنني وصلت المهجر أو المغترب كبيراً في عداد العمر ومتكوناً من الناحية الثقافية والدراسية بشكل ما هنا يصعب الحوار مع المكان الجديد والتفاعل معه بما يكفي لم تسعف محدودية اللغة ولا القدرة على الاندماج بفعل تثاقف محدد وكافٍ في المهجر حصل ذلك حتى مع رواد المهجر من الجيل الشعري الأول مثلاً، فكانوا يتمسكون بثقافتهم وأساليبهم الشعرية بالنسبة لي لا أضع موانع أو شروطاً، لأن عُدتي النقدية أصلاً لا تركن لقديم ،أو تتمسك بتقاليد نقدية محافظة من هنا كنت أواصل في المهجر صلتي بالثقافة العربية والنقد الأدبي مضيفاً لذاك شيئاً من الحرية في التأويل لم أكن استطيعها في البلدان العربية. وكذلك توسَّع مفهوم الثقافة عندي ، لما أرى من عناية بالفن والعمارة والثقافات الشعبية وجزئيات الحياة كالأزياء والرياضة والطعام وثقافات الشعوب العديدة من حولي هنا في الجنوب الأمريكي حيث أعيش أعراق وأجناس وثقافات مهاجرة متعددة المراجع ألوان ولغات وتقاليد متنوعة وذلك فتح أفق تعرفي الإنساني بصورة مجسمة ومحسوسة وربما يمكن رؤية ظلال ذلك التأثر في كتابي (تنصيص الآخر) الصادر عام 2021 ، ودراساتي عن تمثيل الآخر في الشعر.

§ ما هو دور النقد الفلسفي في تحليل الفن التشكيلي والأدب، خاصة الشعر؟

§ الشق الفلسفي في تلقي الفن يكاد يقتصر على موضوعين: المضامين الإنسانية والتعامل الفني مع القضايا الكبرى في الحياة ،كالحريات والحروب والأحلام والانتماء والزمن ومشكلات الموت والآخر والغربة وغيرها، والموضوع الآخر هو جماليات الفنون وفلسفتها .وتلك قضية تشترك فيها الفنون جميعاً لكن للتشكيل حصة أوفر بكون التشكيل لغة عالمية لا تحتاج لترجمة أو تفسير للمتلقي حيث يكون وربما كان الأدب أقل عرضة للتأثر بسبب خصوصيات لغوية وتعبيرية، تتعلق بكونه فناً زمانياً وقولياً، فيما يُعد التشكيل فناً مكانياً، يتمضوع بصريا ويمنح متلقيه فرصة التعامل معه بلغة مشاعة وبحرية أكثر
وقد قدمتْ الدراسات الجمالية حتى من زاوية فلسفية الكثيرَ لعملية الكتابة والتشكيل ولقراءتهما أيضاً وهذا الأمر دعا لتجديد الأساليب الفنية والبحث عن الجميل في أماكن وزوايا لم تكن معروفة أو معهودة في النصوص الفنية والأدبية في العصور الماضية.

§ في نصك ‘بكائية 14’ الذي كتبته في ذكرى عدي، يهيمن الحزن والغياب وصراع الذاكرة مع الفقد. كيف ترى دور الكتابة الشعرية في مواجهة الفقدان؟ وهل تجد أن كتابة شعر طقسٌ لاستحضار روح الفقيد أم محاولة لسد الفراغ الكبير الذي تركه الراحل؟

§ تسألين عن الجرح المفتوح في حياتي فقْدي لولدي وهو في الثالثة والثلاثين في عمل إرهابي غرب بغداد، حيث تم خطفه على الهوية فحسب كان هارباً إلى الخارج مع زوجته ووالدته وولديه من جحيم الطائفية وعنف الإخوة الأعداء و هيجان الفكر التكفيري الذي تسلل إلى مجتمعنا بمشروعه المتخلف والمصحوب بالعنف المفرط ، و جنون التدمير حتى لآثار العراق وجماليات مدنه وطبيعته ونسيجه الاجتماعي هدمَ الدواعش مثلاً وكسّروا الآثار المتبقية من الحضارة الآشورية العريقة في نينوى وهدموا حتى رواسم الحضارة العربية الإسلامية كالمساجد القديمة والكنائس ومظاهر التحضر.
وصلني الخبر وأنا أعمل مدرساً في جامعة صنعاء لم يكن بمقدورنا فعل شيء ولم تثمر الاتصالات والبحث عن وجوده منذ لحظة خطفه هكذا كانت الواقعة مدمرة بالمعنى الحرفي للكلمة لا جثة له ولا قبر ولا خبر عنه ترك عائلته في خلاء الانتظار والصبر المر النافد تغيرت حياتي بدرجة لا تصدق واضطررت للهجرة كي أمنح أسرته في الأقل أملاً و مناخاً آمناً وتعليماً يعوضهم عن الخسارة التي لقيناها في عراقنا الجارح الجريح.
سيرهق الحدث ذاكرتي ومخيلتي وصفائي النفسي وسوف ينعكس حتماً في ما أكتب بلوعة حادة وحزن فادح كابرت كثيراً كي أخفيه عن الأسرة والأطفال، لكن ما أكتب يخترق ذلك الحذر، فيتكثف الألم ويغدو ممضّاً قاتلاً لا يرحم كانت الهجرة من أكثر خسائري الشخصية، حيث لم أشأ الابتعاد عن محيط ثقافتي وحيويتي العلمية والأدبية. ولكن هذا ما حصل.
الكتابة أنقذتني من الموت بعد الواقعة وأنا مدين لها بصبري وتحمّلي رغم ما يرهقني ويثقل كاهلي في الكتابة كنت أصنع بشراسة وصعوبة معاً، كمية من الصبر علاجاً.وكنت أضمّن ما أكتب في مناسات الفقد واستذكار الفقيد ، رسائل لأصدقاء الألم الآخرين والقراء والناس ،حيث يمكنني الوصول إليهم أشاطرهم مأساة الفقد وأمرّن نفسي على التعود عليه.

§ إلى أي نوع تميل وجدانيًا في اختياراتك عند صياغة نصوصك الشعرية؟” بصورة استثنائية.
– إذا كان المقصود في السؤال هو النوع الشعري، فإنني مررت بمرحلتين: الأولى المبكرة التي تعتمد الكتابة الوزنية والمجددة ، أوماعرف بالشعر الحر، واللاحقة التي تعتمد قصيدة النثر .ولكني أعتز بالمرحلتين، وقد فعلتُ ذلك في جمع دواويني الصادرة في كتاب شعري واحد مؤخراً ، عنونته ب(ربما كان سواي في الدواوين الأربعة). وقد تفضلتْ الناقدة والأكاديمية الدكتورة رائدة العامري بالإشراف على جمع الدواوين التي صدرت في سنوات متباعدة وأماكن متفرقة، و قامت بطباعتها ونشرها مشكورةً عام 2023. وأشرفتْ على إحدى طالباتها في دراستها للماجستير حول القصائد
ويهمني القول إن اللحظة الشعرية التي نكتب فيها هي التي تحدد طبيعة المعالجة الشعرية. فقد تكون المهيمنة في النص لغوية أو نفسية أو اجتماعية أوحدثية، فتأتي القصيدة متضمنة طبيعة الأسلوب الملائم لتوصيلها ولكن بوفق الرؤية التي أراها أهم من المنهج والطرائق التي يقترحها وفي رؤيتي للحداثة كمطلب للكتابة أتخذ الأسلوب المناسب لتأكيد زاوية رؤيتي و المحتوى الذي أريد توصيله.

§ في ختام هذا اللقاء، ما الرسالة التي تود أن توجهها للكتاب والنقاد الشباب والقراء ؟

§ كنت في دراستين منشورتين قد فنّدتُ إمكان توجيه نصائح في مجال الكتابة بأنواعها.ولمحمود درويش قصيدة ( رسالة إلى شاعر شاب) في هذا الصدد ، يقول فيها للشاعر الشاب :لا نصيحة في الحب لكنها التجربة
لا نصيحة في الشعر لكنها الموهبة…./ وابتدئ من كلامك أنت.
كأنك
أوّل من يكتب الشعر،
أو آخر الشعراء!
إن قرأت لنا، فلكي لا تكون امتداداً
لأهوائنا،
بل لتصحيح أخطائنا في كتاب الشقاء
النصيحة تتضمن غالباً معنى فوقيا ومتعالياً. لكن من الضرورة التعلم ذاتياً من تجارب الآخر، واستخلاص درسٍ ما أو فكرة أو منهج. فبدلاً من ذلك يتم توجيه (رسالة) كما جاء في سؤالك الذكي ، وخلاصتها عندي : أن نتفهم التحولات في الرؤية والكتابة، مع متابعتنا لتاريخ الأدب والفن بالقراءة الدائمة المتنوعة.ولكن المهمة الأكثر أهمية هي تطوير أدواتنا وكتابة نصوصنا بإيقاع عصرنا ،حيث تختلط الفنون وتنفتح على بعضها ، و تستجد طرق التوصيل والتواصل .ما يستلزم أن نكون في عصرنا لا على هامشه أو في حواشيه مع تحفظ ـ و استدراك واحد وهو الحفاظ على أدبية الأدب وعدم مسخِه أو محوِه أو تبسيطه بسذاجة ،تبعاً لإغراءات الرقميات والتقنية والتقدم الفائق في الذكاء الاصطناعي.فالأدب الفن مهمة فردية إنسانية، وما عداه من المبتكرات المغرية ليست إلا وسائط لتسهيل وصوله والحوار معه وقراءته.

#سفيربرس _ حوار : دنيا صاحب – العراق

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *