إعلان
إعلان

الفن المفاهيمي بين الرمزية والرؤية الكونية: دراسة تحليلية  نقدية فلسفية في أعمال الفنان التشكيلي غسان غائب

#سفيربرس _ بغداد _ حاورته :الباحثة والناقدة: دنيا صاحب

إعلان

(الجزء الأول)

يُعد معرض “كوكبنا اليوم: فكّر بالأخضر” للفنان التشكيلي غسان غائب تجربة فنية مفاهيمية معاصرة، أُقيم في أكتوبر 2022 في غاليري الأورفلي بالعاصمة الأردنية عمّان، يطرح هذا المعرض رؤية فنية إنسانية احتجاجية ضد التدهور البيئي العالمي، موظفًا خامات طبيعية وصناعية لتسليط الضوء على الأثر السلبي للإنسان على البيئة.

محتوى المعرض:
تضمّن المعرض أعمالًا تركيبية متنوعة، منها:

تجميعات فنية من أوراق الأشجار والجذوع، حيث فُرشت أرضية المعرض بهذه العناصر الطبيعية لإتاحة تجربة فكرية حسية مباشرة مع الطبيعة.
استخدام مواد صناعية مستهلكة، مثل ماسحات زجاج السيارات، لتترك آثارًا على اللوحات، تعبيرًا عن التلوث الصناعي.
أعمال تجسّد الدمار البيئي، مثل دائرة حمراء مصنوعة من شرانق الفراشات الميتة، ترمز إلى فقدان التنوع البيولوجي.
توظيف عناصر رمزية كالبنادق، للدلالة على العنف البشري وتأثيره المدمّر على البيئة.

عسكرة البيئة من خلال الحروب وصرخة الطبيعة

تتعاظم الكوارث البيئية، حيث تبرز الحاجة إلى مواجهة الحقائق المروّعة التي يفرضها الإنسان على الطبيعة، لقد عبّر الفنان غسان غائب من خلال أعماله التشكيلية عن قلقه العميق إزاء التهديد المتصاعد الذي يواجه كوكبنا، والمتمثل في الاحتباس الحراري وتأثيرات تغيّر المناخ.

في بلده العراق، تتجلى هذه التهديدات بشكل مأساوي، حيث ساهمت الحروب المتكررة – التي صنعها الإنسان – في عسكرة البيئة وتدمير مكوّناتها الحيوية ومن الأمثلة الكارثية على ذلك : حرق آبار النفط في الكويت، وما نتج عنه من مطر أسود كثيف وملوّث غطّى السماء، وتلوّثت بسببه مساحات واسعة من الأرض.

كما أدّت السياسات المدمّرة إلى تجريف الأنهار، وقطع الأشجار، وتلويث التربة باليورانيوم المنضب، إلى جانب جفاف نهري دجلة والفرات، وتهديد الحيوانات بالانقراض، وحرق بساتين النخيل، وكلها شواهد على العبث الذي طال الحياة والطبيعة.

ورغم محدودية الجسد الإنساني، فإن طموح الإنسان المفرط وغطرسته دفعاه إلى التمادي في تدمير الطبيعة، وتحويلها من بيئة حاضنة للحياة إلى فضاء ملوّث، يعكس مشهدًا من الانهيار الأخلاقي والانساني والحضاري.

إن ما نشهده ليس مجرد أزمات بيئية، بل هو إنذار وجودي يتطلب منا وقفة تأمل ووعيًا حقيقيًا بضرورة إعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة، قبل أن نصبح غرباء على الأرض لم يعد يحتمل التمادي بالغطرسة على نقاء وصفاء الطبيعة.

تأثير التلوث البيئي على الكائنات الحية وتوازن الحياة المشتركة

التلوث البيئي من أخطر التحديات التي تواجه كوكبنا اليوم، إذ يؤثر بشكل مباشر على صحة الإنسان والحيوانات والنباتات، ويهدد توازن النظم البيئية التي تحافظ على استمرارية الحياة. يشمل التلوث الهواء والماء والتربة، وينجم عنه أمراض ومخاطر صحية متعددة للكائنات الحية.

الحيوانات تتعرض لتسمم ومرض نتيجة ملوثات البيئة، كما تفقد مواطنها الطبيعية بسبب تدهور البيئة، مما يخل بسلاسل الغذاء الطبيعية ويؤثر على التنوع البيولوجي، النباتات أيضًا تعاني من تلوث التربة والهواء، مما يحد من نموها ويؤثر على الحيوانات التي تعتمد عليها في الغذاء.

الأرض التي خلقها الله عالم مشترك تسكنه الكائنات الحية بتوازن دقيق، وأي اختلال فيه يهدد النظام طبيعة والكون بأكمله. الإنسان مسؤول عن هذا التوازن وله دور أساسي في حماية البيئة من خلال تقليل الملوثات، واعتماد مصادر طاقة نظيفة، والتوعية بالحفاظ على الطبيعة. إن الحفاظ على البيئة واجب إنساني وأخلاقي يضمن استدامة الحياة لجميع المخلوقات على هذه الأرض المباركة.

أولًا: الفراشة كرمز فلسفي – الهشاشة والتحوّل في مأساة البيئة

تُمثّل التجربة الفنية والفكرية للفنان غسان غائب نموذجًا معاصرًا لمفهوم الفن المرتبط بقضايا البيئة والوجود والتحوّل الصناعي- التكنولوجي يستعير الفنان غسان غائب رمز “الفراشة”، ليس بوصفه مجرد كائن جمالي أو عنصر بيولوجي، بل كاستعارة فلسفية عميقة تُحيل إلى الهشاشة، والتحوّل، والانبعاث البيولوجي الضار الناتج عن التلوث الصناعي والتكنولوجي.
تجسّد هذه الرمزية مأساوية المشهد البيئي والإنساني في ظل التغيّرات المناخية والصراعات الجيوسياسية، والدمار الثقافي والبيئي  والحضاري، خاصة في العراق والعالم العربي.

ينطلق المعرض من رؤية تركيبية متعددة الوسائط، يوظف فيها الفنان مواد عضوية وصناعية مثل: جذوع الأشجار، الأوراق، الزفت، الورق، الأكريليك، والنفايات الصناعية، ليُعيد تشكيل مفهوم “الطبيعة” ضمن خطاب تشكيلي نقدي متعدد الأوجه : فهو من جهة يعيد النظر ويجدد الوعي إلى اتصال الإنسان بالخالق والكون، وسعيه لفهم ماهية الأرض ومعنى بقاء الحياة  والانقراض، ومن جهة أخرى يُدين أنماط الاستغلال والتخريب الناتجة عن الحداثة الصناعية و اشعال الحروب وأزمات الأوبئة في شعوب العالم.
تندرج أعمال الفنان غسان غائب مثل “شيخوخة الفراشة” ضمن هذا السياق إذ تتحوّل الفراشة برمزيتها البيئية إلى خريطة متكسرة لمدن مدمّرة ومجتمعات مأزومة، بفعل الحرب، الفساد، التلوث، السموم والإشعاعات الناتجة من الصناعة والتكنولوجيا.

ثانيًا: الفن بوصفه خطابًا وجوديًا

ينطلق معرض “كوكبنا اليوم – فكّر بالأخضر” من رؤية فلسفية عميقة، يُعيد فيها الفنان غسان غائب تعريف الفن المفاهيمي بوصفه خطابًا وجوديًا يتجاوز التفكيك البصري، ليُجسّد أنطولوجيا هشاشة البيئة وتحولاتها المستمرة، حيث تتجلى في أقصى درجات التحول السريع، وصولًا إلى التلاشي والزوال.
إن المواد المستخدمة في الأعمال ليست مجرد أدوات، بل دلالات استعاريّة تحيل إلى الطبيعة الفانية للكائن الحي الإنسان، بوصفه كائنًا هشًا معرّضًا للفناء يقف عاجزًا أمام قوى الطبيعة وتحوّلات الكون.
في ضوء هذا الفهم، تكشف أعمال الفنان غسان غائب حدود البقاء والفناء باعتبارهما مفاهيم نسبية مؤقتة، خاضعة لتحولات الطبيعة والكون
يؤطر الفنان أسئلته الوجودية ضمن مشهد بصري يستلهم مفهوم “الانكشاف” (Aletheia) عند هايدغر، حيث تتحول بقايا الطبيعة – كالأوراق المحترقة والأخشاب المتفحمة – إلى أثر كوني يحمل سؤالًا مصيريًا:
ما معنى أن نكون موجودين في عالم يحتضر؟

رابعًا: الفن البيئي والوعي الإيكولوجي – من الأنثروبوسين إلى الأثر العاطفي

ينتمي معرض “كوكبنا اليوم – فكّر بالأخضر” إلى تيار الفن الإيكولوجي، الذي يتفاعل مع قضايا البيئة، والعلوم البيولوجية، والسياسات المناخية، مقدّمًا خطابًا نقديًا يحمل رسالة إنسانية وكونية.
في هذا السياق، يتحوّل العمل الفني إلى مساحة تأملية تدعو إلى استعادة البراءة الأولى، والوعي بان التلوث في بيئة الأرض أمراً خطير جداً … والوعي بأن التلوث لا يقتصر على بيئة الأرض، بل يمتد أثره إلى طبيعة الإنسان و كيانه فيفقده صفاء الفكر، ويشوّه نقاء الروح، ويهلك الجسد، ومن هنا تنبع الدعوة إلى حماية الأرض بوصفها أمانة مقدسة، وصونها مسؤولية أخلاقية وانسانية يتحملها الإنسان وأن ينتبه ويتواضع أمام الخالق باعتباره صانع هذا الكون وبدائع خلقه العظيم.

خامساً: الجمال الكئيب – المقاومة عبر الفن

يتبنى الفنان غسان غائب مفهوم “الجمال الكئيب” (Melancholic Beauty)، الذي لا يقوم على الجمال السطحي أو البهجة الزائفة، بل ينبثق من الحزن، والتلاشي، والتشظي. هذا الجمال الهشّ يتولد من الشقوق، والانهيارات، والرماد ليشكل مقاومة فلسفية ضد ثقافة الاستهلاك والتزييف في زمن السرعة والمادة القابلة للاندثار.
هنا، لا تُغري الفراشة ولا الأوراق المتناثرة العين بسطحية الشكل، بل توقظ الروح وتحث المتلقي على التفكير في مسؤوليته تجاه الأرض، والبيئة، والمصير المشترك
يغدو العمل الفني وسيلة للتربية و تنمية الذائقة الحسية والوجدان، كما يعيد تشكيل الشعور بالجمالية، ويدعو إلى تأمل أعمق في المعاناة الناتجة من التلوث البيئي وتاثيره سلبي على الوجود، وهذه هي الحقيقة.

اللغة البصرية – شيفرة كونية

يُعيد غسان غائب تشكيل لغته البصرية بوصفها شيفرة كونية؛ تتحول فيها العناصر المادية – الفراشة، الجناح، الزفت، الرماد، الأسلاك، الإطارات، أعواد الثقاب، جذوع الشجر – إلى رموز ودوال تتجاوز ماديتها، وتفتح أبواب التأويل على الذاكرة الجماعية، والأساطير، والحقائق البيئية، والتجارب الصوفية، والعلوم الطبيعية.
هكذا، تصبح اللوحة أو التركيب الفني نصًا مفتوحًا، متعدد الطبقات بالمفاهيم يدعو النقاد إلى تأويله من زوايا فلسفية، وبيئية، وروحية، وعلمية، في رحلة تأملية تتخطى حدود ذات (الأنا ) إلى (نحن) الروح الجماعية، في مصير مشترك وتصل إلى الوعي الكوني يتجاوز الحدود المادية.

ثالثًا: البعد العرفاني – الفراشة كتجلٍّ إلهي

في الرؤية العرفانية الإسلامية، كما عند ابن عربي والسهروردي، تُرمَز الفراشة إلى الكائن العاشق، الذي يتجلّى في نور الحق ويفنى في الحضرة الإلهية، حيث يصبح الفناء حضورًا أعلى واصلاً لا غيابًا متباعداً .
يُعيد الفنان غسان غائب توظيف هذه الرمزية العميقة، فتغدو الفراشة أيقونة للصعود الروحي وسط رماد الحروب، والتلوث، وانفصال الروح عن خالقها في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي .

كل جناح ممزق، كل ورقة محترقة، كل قطعة زفت سوداء، ليست مادة خامًا، بل أثرًا كونيًا يحمل رسالة نورانية بلغة الرماد المتصاعد، يجسّد الألم المعاصر والتحوّل البيولوجي في لحظة انكشاف الحقيقة.
هكذا، لا يرسم غسان الفراشة، بل يكتب بها رسالته الكونية، مستدعيًا الأسرار المخفية عن العيان، وداعيًا إلى التأمل في معنى حقيقة الوجود، والحياة والمصير الواحد.

الاستنتاج – “كوكبنا اليوم: فكّر بالأخضر” نداء للخلاص

يقدم المعرض رؤية متكاملة تمزج بين تحليل العلمي والفكر الفلسفي  والروحانية العرفانية والوعي الفردي والجمعي لحماية البيئة و بين الجماليات التفكيكية والوظيفة الأخلاقية للفن، إنه ليس تجربة بصرية عابرة، بل خطاب فلسفي معاصر، يتجسد في رمزية الفراشة والرماد، في المواد العضوية والصناعية ليطرح رؤية كونية شاملة تربط الإنسان بالخالق، بالطبيعة، وبالوجود.
إنه خطاب يعيد تعريف الجمال، لا كمجرد مظهر خارجي، بل في العمق  الانساني مسارا يقوده إلى إدراك الحقيقة : أن ترى العالم أثرًا جمالياً من آثار يد الصانع المبدع – الله سبحانه وتعالى – فتتأمل في نظامه، ودقته، وجماله؛ حيث تعي المعاناة من وراء التلوث يشكل عائق سلبي على جمال الطبيعة، و أن الفن المفاهيمي يعبر عن حالة لانكشاف الحقيقة المخفية باسلوب توظيفي عملي مما يجعل المتلقي يصغي إلى النداء الروح الداخلي الذي يدعوك إلى التطهر من أشكال التلوث الفكري، والروحي، والجسدي، في عالم يزداد فيه الضجيج المادي والتلوث البيئي، وتشوه الخلقي وضياع القيم الإنسانية المشتركة.

#سفيربرس _ بغداد _ حاورته :الباحثة والناقدة: دنيا صاحب

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *