سوريا وتونس… ذاكرة مشتركة توشحت بالياسمين والفل
#سفير_برس نورس برو – تونس

عند زيارتي يوماً إلى أحد مخيمات النزوح السورية برفقة وفد إنساني.. تجلّت أمامي مباشرة مشاهد البؤس في رواية “هيغو” ولكن تلك المرة في زوايا الصمت، إذ كانت تلوح خيوط من الأخوة العربية لا تميز بين اللهجات، ولا تسأل عن الحدود.
كان ذلك اللقاء الصامت بين طفل سوري وناشطة تونسية يحمل في عينيه سردية عمرها قرون، حيث تداخلت دماء النضال، وتلاقحت أرواح الثوار، بين ضفتي المتوسط، من الشام إلى قرطاج.
في الذاكرة الثقافية، لا يمكن الحديث عن الإخاء بين سوريا وتونس دون التوقف عند عناوين مشتركة: مقاومة الاستعمار، العشق للهوية، وصرخة الإنسان في وجه الطغيان. كانت سوريا، بتاريخها الحيّ، منارة للأحرار، وكانت تونس، في محطاتها المفصلية، تنظر إلى دمشق كأخت كبرى في الموقف والكلمة.
منذ مطلع القرن العشرين، التقت الأقلام الدمشقية بنظيراتها التونسية في صحف القاهرة وباريس، تتبادل همّ الأمة، وتنسج خطاب النهوض.
لم تكن هذه العلاقة سطحية أو عابرة، بل تعمّدت بالتاريخ، وتعمّقت في زمن المحن فحين أُعدم عمر المختار، بكت له تونس ودمشق.
وحين ضُربت تونس عام 1985، سالت حناجر السوريين في الشام غضباً.
إذ أنه في الشرق صوت نايٍ يتهادى على إيقاع قوافي المتنبي، وفي مغرب القلب نبرة حنّونة تتلو آهات أمّ كلثوم في زوايا المدينة العتيقة… بين سوريا وتونس، لا تفصل المسافة أكثر مما يجمعهما، فثمة ذاكرة ثقافية مشتركة، كأنها نُسجت من نول واحد، قماشه الحنين، وخيطانه الفن، والتعليم، والفكر.
من المسرح إلى الزجل: لقاءات غير مرئية
في خمسينيات القرن الماضي، كانت المسارح السورية تنبض بمسرحيات سعد الله ونوس، وفي تونس، كان الفاضل الجعايبي يرسم معالم مسرح ملتزم. كلا البلدين عايشا فكرة أن الخشبة ليست للتسلية فحسب، بل منصة مقاومة فكرية ضد النمطية والاستبداد. في لحظةٍ ما، بدا وكأن النَفَس المسرحي العربي يتردد بين دمشق وتونس دون أن يتوقّف.
الأدب كجسرٍ زمني
وحين كتب نزار قباني قصيدته الشهيرة “خبز، وحشيش وقمر”، كان الشباب التونسي يقرؤها كأنها خُطّت في شوارع المرسى. وفي المقابل، كان صوت محمد البشير الإبراهيمي –الذي عاش ردحاً من عمره في تونس– يتردد في دمشق من خلال طلابه وسيرته.
واللافت أن علاقة البلدين بالأدب لا تقف عند الاستهلاك، بل تتعداها إلى تقاطعات في الوعي الجمعي. كلا الشعبين عاش تجربة استعمارية، ووعى ضرورة الانعتاق عبر الكلمة، لا البندقية فقط.
في التعليم والتنشئة: ترانيم متشابهة
في المدارس السورية كما التونسية، كان يُدرَّس شعر المتنبي، وقصص الزير سالم، ونكبة الأندلس. كأن الهوية الثقافية العربية تشكّلت من وحدة سردية لا تعرف الحدود الجغرافية. هذه الذاكرة التعليمية صاغت وعياً مشتركاً حول “العروبة الثقافية”، وهو مفهوم ظلّ حيّاً رغم الخلافات السياسية.
المسلسلات والموسيقى: وجدان يتوحّد
من لم يشاهد في تونس مسلسل “الزير سالم” أو “نزار قباني”؟ ومن في سوريا لم يطرب لصوت صوفية أمينة فاخت أو يترنّح مع “كلمات” صابر الرباعي؟ لقد لعبت الشاشة الصغيرة دوراً كبيراً في تشكيل ذاكرة وجدانية مشتركة، حيث اندمجت اللهجات، واختلطت العواطف، وتماهى الحنين.
ذاكرة تقاوم النسيان
في زمنٍ يتهدده النسيان، تظل الذاكرة الثقافية بين سوريا وتونس مرآةً لما يمكن أن تكون عليه العلاقات بين الشعوب: حوار، لا صدى؛ تشارك، لا تبعية. إن ما يجمع دمشق بتونس ليس فقط تاريخاً عابراً أو لغة مشتركة، بل ذلك النوع النادر من التواطؤ الثقافي الذي يصنعه الزمن الطويل، والشعور العميق بأن الفن لا جنسية له، كما أن الوجدان لا يعترف بالحدود.
وفي السنوات الأخيرة، حين دخلت سوريا درب الآلام، لم تكن تونس غريبة عن وجعها. استضافت النخب السورية، وفتحت منابرها للفكر المنفي، واحتضنت ذاكرة موجوعة تبحث عن مأوى.
وكان في الشارع التونسي من رفع علم سوريا، إيماناً بأن الكرامة لا تُجزأ، وأن جرح الشام هو وجع قرطاج أيضاً.
وما بين أغنية شعبية تتغنّى بحلب في حومة من حومات تونس، وقصيدة شاعر دمشقي تعبر إلى القيروان عبر الأثير، تسكن الأخوة العربية بمعناها الأعمق: الوجدان المشترك، المصير الواحد، والوعي بأن الحرية لا تُطلب وحيدةً.
وفي ذاك المخيم الذي لفظ سكانه الآن عائدين الى قراهم وغيره من المخيمات التي زرتها حيث تنعدم السياسة وتتكثّف الإنسانية، أدركت أن الأخوة الشعبية العربية لا تصنعها الجغرافيا بل المواقف، ولا تحيا بالشعارات بل بالفعل الحيّ. إذ كانت الناشطة التونسية تمسح دمعة طفل سوري، لا تسأله عن موقفه، بل تسأله: هل أكلت اليوم؟
هكذا تبنى الأخوة.. لا في المؤتمرات ولا في الصور الرسمية، بل في الحارات، في النكبات، في لقاء العيون حين تعجز الألسنة.
#سفير_برس نورس برو – تونس