حين صار الكلام علنيًا: كيف غيّرت وسائل التواصل فنّ التواصل؟. بقلم : حسين الإبراهيم
سفير برس

سفير برس 27 حزيران 2025
يذكر البعض منا، كيف كان الجدّ يستدعي أبناءه مساء كل خميس، في زاوية من البيت تُغلق فيها الهواتف وتتوقف الأحاديث الجانبية، وتُروى الحكايات على ضوء الحميمية. أما اليوم، فتُرسل الحكاية بصيغة “ستوري” تُشاهد وتُنسى بعد 24 ساعة. ما الذي تغيّر؟
من اللقاء إلى البث: تشوّه البيئة التواصلية
لم تعد المحادثة وجهًا لوجه ضرورة، بل استُبدلت ببثّ عامٍ للجميع، في أي لحظة، دون حاجة لسياق أو حضور بدني. التفاعل لم يعد بين طرفين، بل بين فرد وجمهور غير مرئي، ما غيّر وظيفة اللغة نفسها، من أداة حوار إلى أداة تمثيل.
خسرنا الهمس، وكسبنا الضجيج.
مقومات التواصل في العصر الرقمي
اجتاح التحوّل الرقمي حياتنا اليومية، فتغيّرت ليس فقط أدوات التعبير، بل طبيعة التواصل ذاته: لغته، إيقاعه، ومعاييره. لم يعد يُشترط حضورٌ جسدي أو وقتٌ مشترك لتبادل المعنى، بل يكفي اتصالٌ وإن كان هشًّا لتبدأ “المحادثة”. وقد فرض هذا الواقع الجديد مقومات مختلفة للتواصل، بعضها جاء استجابةً لضيق الزمن الرقمي، وبعضها الآخر انعكاسًا للثقافة البصرية والفردانية المتعاظمة.
ففي هذا السياق، أصبح الاختزال والوضوح أحد أهم القواعد: جملة قصيرة قد تعني كثيرًا، أو لا تعني شيئًا على الإطلاق، المهم أن تُقال بسرعة وتُفهم فورًا. وبرزت الحميمية العلنية كمشهد متكرر، حيث تُعرَض التفاصيل الخاصة دون تحفظ، وتصبح خصوصية الفرد مادةً للعرض الجماهيري. أما الردّ الفوري، فقد حوّل التفكير إلى استجابة، والإحساس إلى رموز لحظية؛ فاللايك والإيموجي أصبحا بديليْن عن كلمات التأييد أو الاعتراض. وظهرت الرموز البصرية — من الميم إلى الصورة المتحركة — كبدائل تختزل المعنى وتقدّمه في قالبٍ ساخر أو موجز.
بهذا، لم تعد مقومات التواصل تُقاس بعمق الفكرة أو صدق الانفعال فقط، بل أيضًا بسرعة التفاعل، وخفة الظهور، وقدرة الرسالة على البقاء في ذاكرة خوارزمية… ولو لعشر ثوانٍ.
الاختزال والوضوح: جملة قصيرة، تعني كثيرًا… أو لا تعني شيئًا.
الحميمية العلنية: التفاصيل الخاصة تُعرض دون تحفظ لمرآة الجمهور.
الرد الفوري: في زمن اللايك والإيموجي، لا وقت للتأمل.
رموز تحل محل الكلمات: الميم صورة، لكنها تحمل نصًا كاملًا في مشهد واحد.
الذات في زمن الشاشة: قراءة نفسية
يشير كتاب “سيكولوجية وسائل التواصل الاجتماعي” لسياران ماهون إلى أن هذه الوسائل أعادت تشكيل النفس والهوية. من أبرز ملامح ذلك:
الهوية المعروضة: نسخ معدّلة من الذات تُقدم للجمهور بحثًا عن القبول.
إدمان التفاعل: الإعجابات والتعليقات تحفّز نظام المكافأة الدماغي، فتخلق دائرة استهلاك لا تنتهي.
تصنيع المشاعر: الغضب الجماعي والسعادة اللحظية يُداران خوارزميًا.
الانصهار الجمعي: من الفرد المفكر إلى عضو في قطيع آني.
الاضطرابات النفسية: قلق، اكتئاب، عزلة في حضرة تفاعل دائم.
الربح والخسارة: توازنٌ مختل
✅ ماذا ربحنا؟
تمكين الأصوات المهمّشة.
كسر احتكار المؤسسات على الخطاب.
سرعة الوصول للمعلومة وتحريك الرأي العام.
❌ وماذا خسرنا؟
تآكل روابط العائلة والمجتمع.
تضخم ثقافة الظهور وتراجع ثقافة العمق.
شيوع التنمّر والانفعالات السطحية بدل التفاهم.
رؤى علماء التواصل
لم تعد وسائل التواصل تُناقش بوصفها منصات تقنية فقط، بل أصبحت موضوعًا فلسفيًا وسوسيولوجيًا بامتياز. ولأن تشخيص الظاهرة لا يكتمل دون استحضار العقول التي تفكك بنيتها العميقة، فإن الرجوع إلى رؤى كبار علماء الاتصال والاجتماع والنفس يمنح هذا المقال بُعده التأصيلي الضروري.
هؤلاء المفكرون لم يُقدّموا نظريات عابرة، بل كشفوا بنية الخطاب الجديد الذي فرضته التقنية: من رمزية رأس المال الرقمي عند بورديو، إلى هشاشة التركيز والانتباه في عالم “السطح اللامتناهي” عند نيكولاس كار، مرورًا بمخاوف توركل من العلاقات المفرغة من المعنى، وتحذيرات هايدت من تغوّل العاطفة على حساب العقل.
فيما يلي وقفة مع أبرز هذه الرؤى التي تُشكّل بوصلة تحليلية لفهم ما إذا كانت وسائل التواصل تربطنا أكثر… أم تعزلنا بطرائق أعمق.
بيير بورديو: رأس المال الرمزي الجديد هو التفاعل، لا القيمة.
جوناثان هايدت: العاطفة تتجاوز العقل، والمنصة تغذي الانقسام.
ماكلوهان: الوسيط هو الرسالة — شكل التواصل يُعيد تشكيل مضمونه.
شيري توركل: “معًا، ولكن وحدنا” — الكثافة الاتصالية تُخفي الجفاف العاطفي.
هايدت: العاطفة تسبق العقل… والمنصة تكرّس هذا الانحياز.
نيكولاس كار: الإنترنت يُضعف قدرة البشر على التركيز والتفكير التحليلي.
أمثلة واقعية
تجربة “تيك توك” التعليمية: رغم وجود محتوى تعليمي، إلا أن معظم الفيديوهات لا تتجاوز 60 ثانية، مما يدفع إلى تجزئة المعرفة وتحويلها إلى “لقطات” لا تُبنى عليها بنية معرفية متماسكة.
ظاهرة “الترندات الغاضبة”: خلال أحداث سياسية أو اجتماعية، تنتشر موجات غضب جماعي عبر تويتر أو فيسبوك، دون تحقق أو تحليل، مما يؤدي إلى قرارات انفعالية بدلًا من مواقف عقلانية.
مقارنة بين مقالة رأي وتحليل فيديو قصير: مقالة رأي في صحيفة قد تحتاج 10 دقائق للقراءة، بينما فيديو قصير على إنستغرام يختزل القضية في 30 ثانية، غالبًا مع موسيقى وتأثيرات بصرية، مما يُضعف قدرة المتلقي على التمييز بين الرأي والمعلومة.
تجربة المستخدم مع “القصص ” (Stories): المحتوى يختفي خلال 24 ساعة، مما يعزز ثقافة “اللحظة العابرة” ويُضعف الذاكرة الجماعية.
مؤشرات التواصل والعلاقة مع وسلوك المستخدم
تشير الدراسات إلى أن معدل التواصل اليومي يصل إلى 2.5 ساعة يومياً وأن نسبة التواصل المعرفي والفكري لايتجاوز 12%، لكن بالرغم من أن 12% من الوقت قد تبدو ضئيلة، فإن هذه الفترات المركزة هي التي تصنع الفارق في بناء الوعي وتحفيز التفكير النقدي.
للإشارة، يبدو أن توجّه الخوارزميات نحو “المحتوى السريع والمثير” يسهم في زيادة انحراف المستهلك عن استثمار ما تبقّى لصقل مهاراته التحليلية.
في كل الأحوال يمكننا تعويض الفاقد المعرفي المتراكم وتقوية المناعة ضد سطحية الثرثرة، بتخصيص حتى 30 دقيقة يومياً إضافية للتفكير المدروس والنقاش البنّاء.
حين يضيع المعنى في زمن الفقرة القصيرة
في خضم هذا الضجيج الرقمي المتزايد، تبدو أخطر ما نواجهه من وسائل التواصل الحديثة وتطبيقاتها ليس فقط في كمّ المعلومات، بل في نوعها وشكلها وسرعة استهلاكها. إذ بتنا أمام زمن المحتوى المختزل والسطحي، الذي يُقدّم في فقرات قصيرة، سريعة، مصمّمة لا لتغذية التفكير، بل لتحفيز التمرير والإعجاب والنسيان.
تتنازل هذه الوسائل عن نموذج التواصل القائم على التأمّل والتفكير النقدي، وتدفع المتلقي نحو اهتمامات شاذة ومنفصلة عن السياقات المعرفية العميقة. وفي ذلك خطر مزدوج: تسطيح الوعي، وخلق شعور زائف بالمعرفة، ما يحوّل التواصل إلى استهلاك لحظي، ويُقصي الأسئلة الجادة من المشهد العام.
أعادت هذه التطبيقات هندسة زمن التلقي؛ فبدلًا من المساحة التي كانت تُمنح للفكرة كي تنمو وتتبلور، صارت تُختزل في 15 ثانية، أو 280 حرفًا، أو في صورة جذابة لا تُحتمل معها الهشاشة المعرفية. وهكذا، تتحوّل الأداة التي كان يمكن أن تكون وسيلة للوعي، إلى معول ينخر في أساسات التفكير الجماعي.
والسؤال الجوهري الذي ينبغي أن يبقى حاضرًا: هل ما نقرأه يوميًا في هذا الفضاء المتسارع، يزيدنا فهمًا… أم يخدّر فينا ملكة السؤال؟
أخطر ما نواجهه في وسائل التواصل الحديثة ليس مجرد فوضى المحتوى، بل انسحاب الفكر العميق أمام اجتياح الاستهلاك اللحظي. تُقدَّم المعلومة اليوم في فقرات سريعة، تُثير لكنها لا تُفسّر، وتُعرض لكنها لا تُبنى.
هكذا، تتآكل نماذج التفكير النقدي، ويُدفع المتلقي للاهتمام بقضايا شاذة وهامشية، بعيدة كل البعد عن البنى المعرفية القادرة على البناء والتغيير.
إعادة الاعتبار للسؤال، للتأمل، وللعمق، لم تعد ترفًا… بل ضرورة وجودية في زمن يسابقنا إلى السطح.
#سفيربرس _ بقلم :حسين الإبراهيم