العمارة الطينية في سورية حينما تتكلم الأرض بلغة التراب الممزوج بعرق الأجداد. بقلم : زياد ميمان
#سفيربرس

في زمنٍ بعيد، حين لم تكن الخرسانة قد غزت المدن، بنى الأجداد بيوتاً من الطين، بيوتاً لم تكن حجارةً فحسب، بل كانت أرواحاً تنبض من لبّ الأرض، حضناً دافئاً يحضن الذاكرة والوجدان. لم يكن الطين آنذاك مجرد مادة بناء، بل كان عهدًا بين الإنسان والطبيعة، بين اليد والقلب.
حكاية الطين من التراب إلى المعمار
من رحم التراب وقطرات المطر، كان الطين يتشكل ليصبح مأوى. أضيف التبن ليمنحه التماسك، وكأن الطبيعة تمد الإنسان بكل ما يحتاج ليؤسس بيتاً يشبهه. لبنةٌ لبنة، كانت البيوت تتنامى ببطء، لكنها تنبض بالدفء والسكينة.
ليست هذه البيوت طيناً مسكوباً في قالب فحسب، بل ذاكرة جمعية وأسلوب عيش متكامل. بنيت لتحتضن فصول العام كلها، دافئة شتاءً، باردة صيفاً، حنونة على ساكنيها، نابعة من ترابهم ومزاجهم وطقوسهم.
موطن الطين وأصداؤه
انتشرت البيوت الطينية كوشمٍ محفور في تضاريس البلاد… في الجزيرة الفراتية، وعلى ضفاف الخابور والبليخ، وحتى بيوت دمشق القديمة التي لاتزال شاهدة على هذا النمط العمراني العريق، وريف دمشق بأكمله من الغوطة حتى القلمون، كانت اللبنات الطينية شاهدة على عبقرية البساطة ومهارة أبناء الأرض.
في قُرى ومدن مثل “قارة” و”الجراجير” و”السحل”، لا تزال البيوت تقاوم الزمن، تقف كأنها نُقشت بيد شاعر على تلال الذاكرة، يقطنها أهلها كأنهم يقطنون الروح ذاتها.
طقوسٌ منسية وأيادٍ تحفظ السر
ما بين تحضير المزيج الطيني و”ملج السطوح”، وربش الثلج من عليها و”الشراق”، حكايات لا تنتهي من العمل الجماعي، حين كان الجيران يتنادون فجرًا، يتقاسمون الجهد والغناء، يجددون البيوت كما يجددون الودّ بينهم. كانت أسطح البيوت تطلى بالحب، والحوائط تتنفس رائحة “الحوّار” الذي تطلى به جدران البيوت من الداخل لتضيف للجمال جمالاً فتعبق في المكان رائحة الزمن الجميل.
شهادة من القلب
لا أحكي عن الماضي فحسب، بل عني، ابن المكان. أعيش في بيت طيني قديم، ما زال يحتفظ بخشب سقفه وشغف جدرانه. تعلمت منه كيف أرش الماء، وأمزج التراب بالتبن، وأرمّم جداراً كأنني أرمم جزءاً من نفسي. كل قطعة لبن أضعها، تحمل منّي ومن تاريخي شيئاً خفياً لا يُقال وأنثر الحوار على الجدران في ما نسميه (الشراق) لتزهو الجدران بلونها الأبيض من جديد وتعبق رائحة زكية تعيد النفوس إلى زمن الأجداد،
زمنٌ جريح… وطينٌ يتصدع
لكن الرياح لم تكن دائماً طيبة. فالحرب لم تمزّق الأرواح فقط، بل مزّقت جدران الطين أيضاً. بيوت تهدمت على كامل الجغرافية السورية تركها أصحابها غادروها بحزن وأسى، ولك تكن البيوت فقط التي تهدمت بل الآثار والتراث والحنين سور الرقة ، وقرى إدلب المنسية، وقرى ريف حلب وقرى الغوطة والقلمون، كل ذلك كان وما زال ينذر بفقدان جزء من هوية سورية وتراثها
فالقرى هُجرت، والبيوت تصدعت، وأولئك الذين عرفوا سر الطين باتوا نازحين ، وصنعة وحرفة بناء هذه البيوت وترميمها، إن لم تتوارث، تنطفئ.
أملٌ ينهض من بين التشققات
رغم الخراب، ينبثق الأمل من بين التشققات. فبعض العائدين إلى قراهم، بعد سنوات الغربة والضياع، ومن عاش في بيت طيني يحكي حكاية الماضي، بدؤوا بإعادة البناء بأناملهم. لبنة فوق لبنة، كأنهم يضمدون جراح المكان، ويعيدون إليه نبضه. وكأن في كل لبنة جديدة قبلة وفاء لهذا التراث الموشك على الزوال.
وحتى بعض الناس يرون في الطين واللبن عازل للحرارة والبرودة فباتوا يضيفون الجمال إلى بيوتهم الخرسانية، فيبنون غرفة في هذا البناء بجدر من طين ولبن وسقف من خشب كديكور، من روح الماضي لتكون حاضرة في بيوتهم وتذكره بالماضي الجميل وتعطيهم الدفء شتاءً والبرودة صيفاً.
مناشدة لحماية التراث
ليست العمارة الطينية مجرد حجارة بل قصيدة هوية، وسيمفونية انتماء. الحفاظ عليها ليس ترفاً، بل نداء للضمير. وعلى الحكومات والمنظمات الدولية أن تدرك أنها حين تنقذ بيتاً طينياً، فإنما تحفظ ذاكرتنا الجمعية من الاندثار، وتضع يدها بيد المجتمع المحلي للتضافر الجهود وتحمي هذا التراث من الضياع.
#سفيربرس _ بقلم : زياد ميمان