إعلان
إعلان

كتـــب نضــال صافــي … مفهوم القوّة الناعمة… كيف نشأ؟ وما هي ظروف تطوّره؟ وكيف يمارَس؟ وأين مسرحه؟

سفيربرس

إعلان

هذه الدراسة أقرب إلى البحث الأكاديمي منها إلى العمل الصحافي بالمعنى العلمي الدقيق، وأعتقد أنّ القارئ سيجد متعة بقراءتها، وقد حاولنا استخدام أسلوب بسيط ونأمل أن نكون قد وُفّقنا من خلالها في إيصال الفكرة وتشكيل إضافة معرفية وثقافية، من دون الإقفال على إمكانية النقد البنّاء.

يعدّ مفهوم القوة من المفاهيم الأساسية في علم السياسية وعلم الاجتماع السياسي، وهو الحاكم الأساسي للعلاقات بين الدول. وللقوة أكثر من تعريف لا مجال للإحاطة بكليته في هذه الدراسة، لذلك سنكتفي بتعريفين:

الأول لـ روبرت دال فهو يقول إنّ القوة هي: «القدرة على حمل الآخرين على القيام بما لم يرغبوا في فعله»(1).

أما الثاني فهو لـ كارل فريدريك Carl Friedrich Gauss الذي يقول إنّ «القوة هي في إنشاء علاقة تبعية بين طرفين يستطيع من خلاله الطرف الأول أن يجعل الطـرف الثاني يفعل ما يريد أيّ التصرف بطريقة تضيف إلى مصالح مالك القوة»(2).

وبناء على هذين التعريفين، فإنّ القوة أو التهديد باستخدامها لهما تأثير كبير في النظام الدولي، وقد يدفع بالدول الضعيفة التابعة والمجتمعات المخترقة للقيام بأعمال أو إجراءات معينة، وكذلك الامتناع عن القيام بممارسات أخرى منعاً للتعرّض لتبعات استخدام القوة ضدّها. ولكن هذه القوة تطوّرت وأخذت أشكالاً وأوْجُهاً متعدّدة. نذكر منها ثلاثة. القوة الصلبة أيّ القوة العسكرية التقليدية، وبرزت منذ قديم الزمن، وشكلت عاملاً أساسياً في حسم الصراع الدولي. لا سيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين شهدتا استخداماً مفرطاً للقوة العسكرية الصلبة، وقد كان سباق التسلح في أولويات الدول، لحسم الصراع وإخضاع الخصوم وفرض الإملاءات على الشعوب.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز الأحادية القطبية من جهة، وبداية عصر العولمة والتبادل الاقتصادي الكبير القائم على الاعتماد المتبادل والمعقد بين الدول من جهة أخرى. تضاءل تأثير القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها، نتيجة بروز القوة الاقتصادية التي أصبحت هي المعيار الأساسي للعلاقات بين الدول. ويشير د. حسام مطر في كتابه «ما بعد القتال» إلى التحوّل الجوهري الذي طرأ على مفهوم القوة في المرحلة التي أعقبت الحرب الباردة، بدأ معها المفكرون والكتّاب يفهمون القوة من ناحية ما تمثله من قدرة سيطرة على النتائج. أما في فترة التسعينيات، ومع نهاية الحرب الباردة، أصبحت الولايات المتحدة الأميركية مركزاً أحادي القطب، بدأ المنظرون الأميركيون خاصة في طرح مفاهيم جديدة ومختلفة للقوة، تبلورت في ما بعد بالقوة الناعمة. وقد فرض هذا النوع من القوة نفسه وأضحى من أهمّ العناصر التي تعتمدها الدول في برامجها وتعتمد عليها في سياق عملها السياسي والدبلوماسي. وفي هذا السياق فإنّ الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق ورغم مظاهرها العسكرية وقوتها الصلبة المباشرة، إلا أنّ لم تخض فقط بهذا الشكل، بل ارتكزت أيضاً على القوة الناعمة. وهذا الأمر عبّر عنه وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق كولن باول في العام 2003، في ردّه على سؤال عن سبب تركيز أميركا على قوتها الصلبة فقط، بدلاً من قوتها الناعمة، مشيراً بوضوح إلى مدى اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بالقوة الناعمة واعتمادها عليها. ومن هنا يبرز السؤال حول ماهية القوة الناعمة والحرب الناعمة؟ وكيف نشأت هذه الظاهرة؟ وما هي ظروف تطوّرها؟ وكيف تمارس؟ وما هو مسرحها؟

في ردّه على السؤال الآنف الذكر، يقول باول: «الولايات المتحدة الأميركية احتاجت الى قوة صلبة لتكسب الحرب العالمية الثانية، ولكن ما الذي أعقب القوة الصلبة مباشرةً؟ هل سعت الولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على أمة واحدة في أوروبا؟ ويجيب باول نفسه: كلا، فقد جاءت بالقوة الناعمة في خطة مارشال… ولقد فعلنا الشيء نفسه في اليابان».

من خلال البحث عن بدايات تشكل مفهوم (القوة الناعمة) نعثر على مقال في العام 1990 لجوزيف ناي نشرته مجلة «فورن أفيرز» foreign affairs الأميركية استخدم فيه مصطلح «قوة الاستتباع غير القهرية co-optive power « ثم طوّر لاحقاً المصطلح فأصبح القوة الناعمة كأحد مصادر قوة الاستتباع. ولقد بدأت الأمم في أوقات متفاوتة تبدي اهتماماً عالياً بالقوة الناعمة، وضرورة دمجها في الاستراتيجيات الدولية والسياسات الخارجية. فتحدّث الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني جينتاو عام 2007 عن حاجة الصين إلى زيادة قوتها الناعمة. بينما اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عام 2013 أنّ روسيا بدأت «بالسيطرة على أدوات القوة الناعمة في وقت متأخرٍ كثيراً عن شركائها الذين اخترعوا تلك الأدوات»(3).

على الرغم من انّ مصطلح القوة الناعمة ظهر في تسعينيات القرن الماضي، إلا أنّ البعض يعتبرها ملازمة للتاريخ الإنساني، وهي تظهر في كتابات الفلاسفة أمثال كونفيشيوس – Confucius وسقراط – Socrates أو من خلال انجذاب الناس إلى الأديان مثلاً. وفي المقلب الآخر تعدّ كتابات المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي – Antonio Gramsci بذاراً أولياً للظهور التدريجي لهذه النظرية من خلال نظرية الهيمنة الثقافية للرأسمالية عبر المؤسسات، كالمدارس والجرائد إلخ… «والتي تخلق صورة جيدة لدى العامة عن النخبة الرأسمالية بهدف السيطرة على عقول هولاء وضمان عدم خروجهم عن سياق المجتمع الراسمالي»(4).

كما أنّ التأثير الثقافي عن طريق التعليم الذي حاولت فرنسا، من خلاله خلق صورة جيدة عنها في ذهن الشعوب التي استعمرتها، يعدّ من باكورة الاستخدام الاستراتيجي للقوة الناعمة. والمدارس الفرنسية في لبنان تطبق هذه الاستراتيجية. كما أنّ تجمع الدول الفرنكوفونية يستمرّ في إقامة معارض الكتب الفرنسية على أرضِ المستعمرات القديمة للغرض ذاته.

في تعريف القوة الناعمة

عرّف المنظر جوزيف ناي القوة الناعمة قائلاً «إنها القدرة على الجذب لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكري والضغط الإقتصادي، ولا عن طريق دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، كما كان يجري في الاستراتيجيات التقليدية الأميركية، بل عن طريق الجاذبية، وجعل الآخرين يريدون ما تريد»(5). ولقد استخدم ناي هذا المصطلح في كتابه «مقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيّرة للقوة الأميركية» الصادر عام 1990. علماً أنّ ناي نفسه طوّر هذا المفهوم فقام وعرضه بالتفصيل في كتاب آخر أصدره عام 2004 بعنوان «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية»(6) والذي أخذنا عنه التعريف أعلاه. وهذا المصطلح يُستخدم حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل الباحثين والمحللين والسياسيين.

يرتبط بناء مفهوم القوة الناعمة وصعوده ارتباطاً مباشراً بتحدّييْن رئيسييْن لأميركا هما: تهديد الأفول، واتساع نطاق العداء للأميركيين. ومن المفترض ان يسهم مفهوم القوة الناعمة مباشرة في احتواء هذين التحدييْن وتجاوزهما(7).

وبما أنّ ناي يعتبر أنّ القوة الناعمة هي سلاح مؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية، بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال فهو «يرفض مقولة إنّ أفول الولايات المتحدة الأميركية أمر لا مفرّ منه، لأنّ جاذبية الولايات المتحدة الأميركية أصبحت أقوى من أيّ وقت مضى بسبب تكنولوجيا المعلومات»(8). لكن ناي لم يكن الوحيد الذي عرّف القوة الناعمة بل من الضروري أن نعرّج على تعريف ميشيل فوكو – Michel Foucault والذي يعتبرها «إجباراً وإلزاماً غير مباشرين وسجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير على الرأي العام في داخل الدولة وخارجها».

من خلال مقابلة التعريفين يتضح لنا أنّ فوكو وناي متفقان على أنَّ القوة الناعمة هي التأثير بالرأي العام وبالدول الأخرى ولكن بوسائل غير عنيفة مباشرة، ذلك بهدف السيطرة والهيمنة على العقول. ولكن ناي يستبعد الوسائل الاقتصادية كجزء من القوة الناعمة في التأثير بينما يخالفه فوكو.

وللقوة الناعمة بحسب الباحثين أركان وموارد وأبعاد. فيستنتج الأستاذ علي محمد الحاج حسن، في كتابه الحرب الناعمة، الأسس النظرية والتطبيقية وبأنّ القوة الناعمة تقوم على خمسة أركان وقدرات هي:

1 – القدرة على تشكيل تصوّرات ومفاهيم الآخرين وتلوين ثقافتهم وتوجيه سلوكياتهم.

2 – القدرة على تشكيل جدول الأعمال السياسي للآخرين سواء الأعداء أو المنافسين.

3 – القدرة في جاذبية النموذج والقيم والسياسات وصدقيتها وشرعيتها بنظر الآخرين.

4 – القدرة على فرض استراتيجيات الاتصال على الآخرين «من يتصل أولاً وكيف».

5 – القدرة على تعميم رواية وسرد الوقائع» الفائز اليوم من تفوز روايته للأحداث».

بينما يميّز ناي بين مقاربتي القوة: القوة كموارد والقوة كعلاقة. ويعتبر أنّ القوة كعلاقة أو سلوك لها ثلاثة وجوه وغالباً ما تكون مختلطة:

ـ الوجه الاول هو «التغيير بالامرة» أيّ بتوجيه أمر للآخر لتغيير سلوكه.

ـ الوجه الثاني السيطرة على الأجندات، بحيث يمكن من خلال المؤسسات الموالية تشكيل تفضيلات الآخرين، وبالتالي تحديد قواعد اللعبة عبر صناعة جدول الأعمال.

ـ الوجه الثالث وهو تشكيل التفضيلات من خلال القدرة على منع وقوع تضارب بين مصالحك وبين مصالح الآخرين، مما يدفعهم دوماً للامتثال لك.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ناي لاحظ لاحقاً أنّ الوجه الأول من القوة يتجاهل جانباً مهمّاً هو «القدرة على التأثير في تفضيلات الآخرين حتى يريدوا ما تريد دون الحاجة إلى اصدار أمر لتغييرها»(9).

أما موارد القوة الناعمة فهي ثلاثة أيضاً:

ـ الثقافة التي تساهم بشكل أساس في عملية جذب الآخرين.

ـ القيم السياسية عندما يتصرّف الفاعل السياسي وفقاً لها في الداخل والخارج معاً.

ـ السياسات الخارجية بخاصة عندما بنظر إليها الآخرون على أنها شرعية وأخلاقية.

بين القوة الناعمة والحرب الناعمة

نرى انّ تبدّل النظرة التقليدية لمفهوم القوة أدّى إلى تطوّرات كانت حاسمة في مجال السياسة الخارجية والدبلوماسية الدولية. فبدأ تأثير القوة الناعمة يظهر كجزء من الصراع بين القوى الكبرى، وظهرت مصطلحات جديدة في أدب القوة الناعمة مثل حرب القوة الناعمة والحرب الناعمة. ما يستوجب التدقيق والتمحيص في ماهية المفهومين.

يقول المنظر العسكري كارل فون كلاوزفيتز «الحرب نزاع مسلح بين المصالح الكبرى تسيل فيها الدماء، وبهذا تختلف عن النزاعات الأخرى، وهي أداة لحماية مصالح الدول وتوسيع دائرة نفوذها، وعمل عنيف يقصد منه إجبار الخصوم على الخضوع لإرادة الدولة او الدول التي تشنّ الحرب، وهي عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، وامتداد للسياسة، لكنها تقوم على وسائل مختلفة، فلكلّ عصر نوعه الخاص من الحروب، وظروفه الخاصة، وتحيّزاته المميّزة»(10) .

ومن هنا فإنّ دمج مصطلح الحرب الذي يحمل مضامين عنفية غير محصورة مع مصطلح ناعمة التي تشير إلى معنى يختلف تماماً، من شأنه أن ينتج دلالات أخرى للمفهوم المركب الجديد. وبإمكاننا شرح المفهوم هذا على أنه تحقيق غايات الحرب بدون الحاجة إلى خوضها بطريقة كلاسيكية صلبة. ويظهر جلياً للمراقب أنّ مصطلح الحرب الناعمة لا يُستخدم من قبل الدول القوية، بل يستبدل بالقوة الناعمة، بينما المقصود به الأولى طبعاٌ. ولذلك لا نجد حتى الآن دولة اعترفت بقيامها بحرب ناعمة. بينما عرّفت الباحثة وأستاذة مادة التحليل الدفاعي في كلية الدراسات العليا للبحرية الأميركية «آنا سيمونز» القوة الناعمة بأنها: «الجيل والنمط الرابع من حروب المستقبل، بالنظر إلى تبدّل موازين الحروب العسكرية التقليدية، وفشل نمط حرب المدن، ونمط مكافحة التمرّد، وتتميّز بأنها تستهدف السيطرة على الناس، من خلال الدبلوماسية العامة والاتصالات الاستراتيجية وعمليات المعلومات والتلاعب بالمفاهيم والمشاعر، بعيداً عن احتلال وتدمير المدن ومهاجمة المواقع والقواعد العسكرية واستخدام سلاح الجو، وغيرها من الأسلحة»(11).

أما وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس فتحدث عام 2007 في الكونغرس عن الحاجة إلى تعزيز القوة الناعمة الأميركية عن طريق «زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية من الأمن القومي بالدبلوماسية، والاتصالات الاستراتيجية، وتقديم المساعدة الأجنبية، وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية»(12).

وبناء على ما سبق وبعد الركون إلى آراء باحثين وكتّاب يمكننا القول، إنّ الحرب الناعمة تعتمد على أداة القوة الناعمة، علماً أنّ عدم إعلان الدول عن شنّ مثل هذه الحروب، لا ينفي حدوثها، فهي جريمة بدون بصمات، وهذا ما يعزز فرضية حصولها في كافة المجالات.

يُذكر انّ هذا المصطلح استخدم من قبل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي الخامنئي في لقاء مع طلاب الجامعات في العام 2009 في إشارة إلى الحرب التي تشنّها الولايات المتحدة الأميركية ضدّ الشعب الإيراني والنظام الإسلامي بحسب تعبيره. وقد وضعت إيران استراتيجية شاملة لمواجهة هذه الحرب وأطلقت برامج لتثقيف طلاب الجامعات حول الحرب الناعمة. وبالتدقيق في التصريحات الأميركية حول إيران لا نجد تبنياً أميركياً رسمياً لهذه الحرب. ولكن هناك مقالات وتحليلات صحافية تشير بوضوح إلى حرب خفية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران.

يقول سيث جونز (Seth G. Jones) كبير مستشاري برامج الأمن الدولية في تقرير عرضه موقع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: «إنّ إيران انخرطت في حرب ناعمة مع الولايات المتحدة. وتستخدم وسائل رسمية وغير رسمية للتأثير على السكان في جميع أنحاء العالم، وقد وسعت حملتها الإعلامية باستخدام البث الإذاعي والمراكز الثقافية والجامعات والمؤسسات الخيرية في جمهورية إيران الإسلامية.

أمّا مايكل غروس وتامار فوصف الحرب الناعمة بأنها صراع غير مسلح بين أميركا وإيران. وتشمل الممارسات «الناعمة» الحرب السيبرانية والعقوبات الاقتصادية والحروب التجارية والحرب الإعلامية والدعاية والمقاومة اللاعنفية واستخدام القانون الدولي لأغراض استراتيجية. في جوهرها، الحرب الناعمة هي حرب لاعنفية وغير حركية (13).

وتجدر الإشارة الى أنّ مصطلح المقاومة اللاعنفية والتي كثر استخدامها إبان ما يسمّى الربيع العربي والأحداث التي تلت 17 تشرين الأوّل 2019 في لبنان، قد كانت محور اهتمام بالغ لدى النخب والمنظرين الأميركيين لا سيما جين شارب الذي أصدر أكثر من كتاب يتمحور حول الكفاح السلمي، والمقاومة اللاعنفية، وكيفية الانتقال من نظام إلى آخر بطرق سلمية.

وهنا لا بدّ من التوضيح بأنّ أساليب الحرب النفسية التقليدية التي كانت تستخدم في الحروب ضدّ العدو بصورة شبه مباشرة، وتهدف إلى تدميره وتوهين إرادته وهدّ معنوياته، أضحت اليوم وبخاصة في عصر العولمة، وثورة المعلومات لا تجدي نفعاً كبيراً. فللحرب الناعمة وظائف جديدة بحيث أصبحت تقوم «على تشكيل التصورات العامة، وبناء البيئة السياسية الملائمة لترسيخ قواعد السياسات المطلوب تثبيتها وتمريرها والتسويق لها، ونزع الشرعية والمشروعية والصدقية عن الخصم، وتغيير شخصية النظام والقيادة لدى الخصم، وقلب الحقائق وتحويل نقاط القوة إلى نقاط ضعف ومن فرص إلى تهديدات»(14).

كما أنّ الحرب الناعمة تعتمد على رفع شعارات ومطالب الناس واستغلالها، فلا يمكن للحرب الناعمة أن تنجح إذا ما رفعت شعارات وتبنّت سياسات معادية بالظاهر لمصالح الدولة المستهدفة، فالقوة الناعمة بالعمق تقوم على رفع شعارات وقضايا مرغوبة ومحبوبة والبحث عن قيم مشتركة مع الطرف المستهدف مثال: الحرية، الحداثة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، وإلى ما هنالك من قيم يسعى إليها كلّ فرد(15).

بناءً على ما تقدّم يمكننا القول إنّ القوة الناعمة تتحوّل إلى حرب ناعمة أثناء الصراعات والنزاعات التي تقوم بين الدول، بحيث يتمّ توظيف كافة عناصر القوة الناعمة في هذه الحرب كونها أداة فاعلة في تحقيق مكاسب هامة على الخصوم. على سبيل المثال فإنّ الصراع القائم بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران هو حرب ناعمة بين الطرفين.

معالم استخدام القوة الناعمة
والحرب الناعمة

بما أنّ هذه الحرب لا تكون معلنة كما كانت الحروب التقليدية، بالتالي فمن الصعب رصد من يقوم بها وكيفية تطورها وممارساتها اليومية، وكذلك نجاحها أو فشلها، في ظلّ غياب تغطية إعلامية أو إمكانيات مباشرة لدراسة وقياس جدواها. فالكاتب حسام مطر ينقل عن ناي توكيده أنّ القوة «لا يمكن تحمّلها من الآخرين إلا إذا أخفت جزءاً كبيراً من نفسها»، ويضيف مطر «انّ القوة الناعمة، على النقيض من البروباغندا، تعمل بأسلوب تدريجي، وماكر، وغير مباشر، وخفي(16).

رغم ذلك، فقد تبرز لنا بعض المؤشرات التي يمكن توصيفها وقراءتها ضمن أسلحة وأدوات الحرب الناعمة. وفي المقابل هناك العديد من الجهات المتابعة والراصدة للتطور القوة الناعمة واستخدامها مما يعزز إمكانية النحاج في محاولة تعقب إشارات الحرب الناعمة. فمجلة «مونوكول» الانكليزية تقدّم مسحاً سنوياً لدرجات القوة الناعمة في 30 دولة. ويأتي ترتيب الدول في هذا المسح موافق لما تناله قدراً من إعجاب الدول والشعوب الأخرى، من خلال المؤشرات الثقافية والرياضية والمطبخ الوطني والتصاميم والدبلوماسية والابتكارات التقنية، والمؤشرات العلمية والتعليمية، والأداء الحكومي. ففي العام 2018 حصدت فرنسا المركز الأوّل على قائمة الترتيب، وتلتها ألمانيا في المرتبة الثانية، أما اليابان فقد حلت ثالثة، بينما تراجعت الولايات المتحدّة إلى المرتبة التاسعة بعدما كانت تحتلّ المرتبة الأولى بحسب مسح عام 2014. وتشير التقديرات إلى أنّ اليابان والسويد قد حققتا تقدّماً مهمّاً على صعيد القوة الناعمة ومن المفترض تحلان في المرتبتين الأولى والثانية في مسح 2019. وهذا الرصد الذي تقوم به مجلة «مونوكول»، يظهر جلياً اهتمام الدول ببناء قوتها الناعمة. ولكن هذا المسح رغم أهميته العالية إلاّ أنه لا يقدّم لنا صورة واضحة عن درجة استخدامات القوة الناعمة لهذا الدول.

ومن خلال رصد وتتبّع بعض مؤشرات الحرب الناعمة نجد أنّ الولايات المتحدة الأميركية وكيان العدو «الإسرائيلي» تشنّ هذه الحرب على منطقة «الشرق الأوسط». وتشير وثائق «ويكيليكس» التي نشرت في العام 2010 إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية أصدرت تعليمات تفصيلية تقضي بدعم قوى لبنانية معيّنة ودعم مالي للحكومة اللبنانية، بالاضافة إلى دعم وتمويل ما يسمّى «منظمات المجتمع المدني». ونستند في ذلك إلى جدول قدّمه «كونالاكيس وسيموني» حول أدوات القوى الناعمة والصلبة المرئية وغير المرئية(17).

في هذا السياق، يؤكد «معهد واشنطن» على موقعه الإلكتروني أنّ الولايات المتحدة الأميركية «أنفقت مبالغ كبيرة لتعزيز قدرة الحكومة اللبنانية، حيث خصّصت أكثر من 600 مليون دولار كمساعدة أمنية و500 مليون دولار إضافية لبرامج المساعدة المدنية منذ عام 2006 (18). ولقد ورد في كتاب «التداعيات الجيوستراتيجية للثورات العربية» أنّ «السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان كشف أمام الكونغرس أنّ حكومته أنفقت 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله».

وتجدر الملاحظة هنا إلى أنّ موقع المعهد المذكور يدعم لغات: الانكليزية، العربية إضافة الى الفارسية، ما يطرح السؤال عمّا إذا كان هذا يندرج من ضمن أدوات القوة الناعمة الأميركية؟ ولماذا لا يدعم لغات أخرى أكثر شيوعاً من الفارسية؟

يجب أن لا نغفل أبداً دور الإعلام في الحرب الناعمة وممارساتها، خاصة أنّ وسائل الإعلام تعدّ واحدة من أهمّ وسائل التنشئة الاجتماعية، وذلك نظراً إلى قدرتها الهائلة في الدخول إلى كلّ منازل البشر، بمختلف فئاتهم العمرية، ودورها في التأثير على اتجاهات وميول الشباب وصناعة الرأي العام. ويفنّد الإعلامي رفيق نصرالله في كتابه «ميديا الحرب الناعمة» كيف يلعب الإعلام دوراً بالغ الأهمية في السطوة على الرأي العام وتبديل توجّهاته وتحويلها وكذلك تحوير أيّ قضية بما يتناسب مع الوجهة التي يعبّر عنها هذا الإعلام. ويشير بوضوح إلى أنّ الإعلام في العالم العربي بقي يرتكز بشكل أساسي على وكالات الإعلام الأجنبية، بصفتها مصدراً للمعلومات من جهة، وللمصطلحات من جهة أخرى. ويمكن لنا أن نتخيّل كم كان متاحاً أمام هذه المصادر إدخال ما تريده إلى العقل العربي وبالتالي يُبنى عليه.

ولقد قارن الباحثان زو وكرستي Zho and the Christie في دراسة أعدّاها حول تأثير الإعلام في تكوين الرأي العام الأميركي والصيني. واستندت العينة الى مجموعتين من الطلاب، أميركيين وصينيين. ورصدت الدارسة مدى اعتماد كلّ من المجموعتين على الإعلام لتكوين فكرة عن الآخر. فتبيّن لهما انّ الصورة لدى الطلاب الأميركيين، هي أنّ الصين منافس لدولتهم، وانها تهدّدها اقتصادياّ، في حين انّ صورة الولايات المتحدة الأميركية بالنسبة للطلاب الصينيين، أنها دولة تتمتع بأنماط حياة مريحة وسهلة. ويعود الفضل بتكوّن هذه النظرة من الصنيّين وبحسب الدارسة طبعاً إلى تأثير الأفلام الأميركية.

وبالعودة إلى الجدول أعلاه نرى أنّ الحرب لا تقتصر على ميدان واحد بل تتعداه إلى ميادين شتى وضمنها وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها الملايين، وبحيث أنّ الدعاية المدفوعة أصبحت متاحة، فمن الطبيعي أن تتحوّل هذه المنصات إلى ميدان مهمّ في نظر العقول المخططة للحروب الناعمة. من هنا نلاحظ أنّ العدو الاسرائيلي قد تنبّه إلى جدوى هذه المنصات وركز جهداً كبيراً عليها، وخصوصاً بهدف تسويق التطبيع. وهناك صفحة على موقع فيسبوك تحت اسم «اسرائيل تتكلم العربية» يبلغ عدد المعجبين بها 1,959,945 والمتابعين نحو المليونين، وصفحة على منصة تويتر باسم «إسرائيل بالعربية» بـ 357,700 متابع، ووظيفة هذه الصفحات كما يتضح من المنشورات التسويق لكيان العدو وتصويره كيانا شقيقاً. ومؤخراً بثت هذه الصفحات فيديو لطلاب صهاينة يعايدون المسلمين بمناسبة حلول شهر رمضان. وهناك صفحات على منصة توتير بالعربية لكلّ من رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، والناطق باسم جيش العدو أفيخاي أدرعي، وسفارة العدو في مصر، ولهذه الصفحات متابعون كثر. والأكثر نشاطاً هو حساب أدرعي الذي يطلق تغريدات متتالية غرضها تلميع صورة كيانه والتحريض على المقاومة. ولقد عكف منذ مدة على التعليق على المشهد السياسي في لبنان بكلّ تفاصيله، مركزاً على وصم المقاومة بالإرهاب، واعتبارها سبب كلّ علة في لبنان. كما أنه ذهب أكثر من ذلك، فهو يتوجه ببطاقات معايدة الى فنانين لبنانيين، ومؤخراً، كتب معايدة للفنانة جوليا بطرس المعروفة بانتمائها الوطني والقومي ومعاداتها للكيان «الإسرائيلي»، والتي ردّت ببيان أكدت فيه على مواقفها. وسبق لأدرعي أن كتب معايدة للفنانة هيفاء وهبي وضمّنها إساءة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.

واضح أنّ الحسابات الآنفة الذكر، لا تدار من قبل أشخاص بعينهم، بل هناك جيش الكتروني يُغذي هذه الحسابات وفق أجندة محدّدة الأهداف، وفي مقدّمها التأثير على العقول والتعمية على الحقيقة ببث كمّ هائل من الأضاليل والأباطيل. وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ نتنياهو أجرى في كانون الأول 2019، اتصالاَ بالصوت والصورة مع المطبّع السعودي محمد سعود، وقد جرى تصوير المحادثة وبثها. وفيها يقول نتنياهو انّ «إسرائيل تصنع دولاً أفضل في المنطقة وتعمل من أجل المنطقة برمّتها»، ويصف نتنياهو، محمد سعود بالليكودي نسبة الى حزب الليكود الذي يقوده.

موقع «عرب 48» الإلكتروني نشر مقالاً مفصّلاً حول دراسة «إسرائيلية» تتحدّث عن الحرب على الوعي في عصر تداول المعلومات السريعة، وأهمية هذه الحرب في مجال الأمن القومي. ويشير المقال الذي جاء تحت عنوان: «حرب إسرائيل على الوعي: تماسك الداخل وتحريض على الخارج» إلى أنّ «الاسرائيلي» يبدي اهتماماً بالغاً بهذا الجانب ويكرّس له جهوداً بحثية ليخلص إلى معطيات علمية تُمكنه من تحصين جبهته الداخلية وتحسين فرصه في مواجهة دولنا.

خلاصة

من خلال ما سبق يتضح لنا مفهوم القوة الناعمة والحرب الناعمة اللذين يعتبران جديدين نسبياً، الا انّ جذورهما كما يرى البعض بدأت منذ نهاية بعد الحرب العالمية الثانية وذلك من خلال «برنامج فولبرايت» للتبادل الطلابى حول العالم عام 1946 كوسيلة للتأثير في الثقافات والهيمنة على عقول المجتمعات الأخرى. ويشير ناي إلى استخدام القوة الناعمة بدأ في أثناء الصراع الايدلوجي بين المعكسرين الإشتراكي والرأسمالي ويوضح الدور الذي لعبته الأفلام والمسلسلات الأميركية في اختراق «المجتمعات المعادية».

ويتبيّن لنا جلياً أهمية ان يكون للدول بالإضافة إلى القوة الصلبة، قوة أخرى ناعمة. كذلك يبرز الدور الحاسم الذي يمكن أن تلعبه هذه القوة في الصراع القائم بين الأمم اليوم. وعلى سبيل المثال فإنه في شباط عام 2011 قال وزير الدفاع الأميركي حينها روبرت غيتس: «إنّ أيّ وزير دفاع في المستقبل ينصح الرئيس بإعادة إرسال جيش أميركي كبير الى آسيا او الى الشرق الأوسط وأفريقيا يجب ان يفحص رأسه»(19).

ويقول أرميتاج وناي، انّ ميكيافيلي كان يقول: من الأكثر أماناً ان تُخشى من ان تُحب، أما اليوم في عصر المعلومات العالمي فمن الأفضل أن تُخشى وأن تُحب في آن. من هنا فإنّ مجترح المفهوم والمروّج الأكبر لضرورة بناء القوة الناعمة والاعتماد عليها، يعتبر انها ليست وحدها كافية، بل يجب ان تترافق وتتكامل مع القوة الصلبة.

وبعد النقد الذي وجّه إلى نظرية ناي وإعادة قراءته هو لرؤيته، وبفعل التجارب التي امتلكتها الدول، تطوّر هذا المفهوم لكي يشتمل على القوة الذكية التي تعتبر مزيجاً من استخدام كلّ من القوّتين الصلبة والناعمة في آن معاً فى العلاقات بين الدول بطريقة تضمن تدعيم تحقيق الأهداف لهذا الفاعل بكفاءة وفعالية. ومن هذا المنطلق تظهر الأبعاد الثلاثية للقوة كما حدّدها جوزيف ناي في كتابه القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسية الدولية: «فهي تشبه رقعة الشطرنج، فالرقعة العليا عليها القضايا العسكرية التقليدية، أما الرقعة الوسطى فهي خاصة بالقضايا الاقتصادية بين الدول، فيما كانت الرقعة السلفى خاصة بالقضايا الانتقالية مثل الإرهاب والجرائم الدولية وتغيّر المناخ وانتشار الأمراض».

وفي ظلّ هذه الحروب يبدو انّ المجتمعات الشرقية تتعامل مع الحروب الناعمة على طريقة القطّ الذي يلعق المبرد مستلذاً بدمائه. بينما يبدو واضحاً اتجاه الدول الحديثة والمتقدّمة إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة قائمة على الاعتماد على القوة الذكية وإدخالها في برامجها، مما يفتح الباب أما النقاش حول مستقبل الدول الهشة والمجتعمات الضعيفة في ظلّ القوة الذكية؟ وأشكال تطوّر هذه القوة نفسها في ظلّ حروب الجيل الخامس؟

 

#سفيربرس ـ  نضال صافي ـ البناء

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *