كتبت سمر كلاس : قراءة نقدية “عن الطفل والحرب” للأديب عماد الفياض
#سفير_برس
“عن الطفل والحرب “
قراءة عن الطفل الذي رصد في كتابيهِ وقائع حياتية، لأرضِ الوطنِ سكوفيا، الجولان. في مجموعتين قصصيتين بعنوان *المجموعة الأولى *نصوص الطفولة سكوفيا*، والثانية *سيرة الولد الذاهل*
*للأديب الناقد والقاص والشاعر عماد الفياض*
*سمر الكلاس*
ماذا يعني أنْ يكون الكاتب طفلاً يكبر مع والديه في ظلّ الحرب والعنف؟ طفلٌ يحيلُ النزاعُ حياتَه المألوفة، لمجرّد ذكرى بعيدة قبل أن يصير غريباً!
ماذا يعني أن يشتاق لدفء داره، وأجمل ألعابه، وشارعه المُحبّب، ويصبح نازحاً، فاقداً لوطنه؟
تُرى ماذا خلّفتِ الحرب وراءها مِنْ آثارٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ مدمرةٍ؟ فالحرب قد تُغيّر مجرى حياة الطفل للأبد، لأنّ الأطفال معرضين لفقدان كلّ ما له صلة ببيئتهم المحيطة، المدرسة، والمنزل. ترى كيف تؤثر الحروب على الأطفال؟
هذا ما سنتحدّث عنه في حياة الكاتب عماد الفياض ومعاناته مِن ويلات الحرب؛ وما يجلبه العنف مِن أهوالٍ؛ عاشه الطفل الذي كان في حكاياته؛ ليكون شاهد عيان على فظاعات حربٍ، عرّضتِ الكثير مِن البشر للقتل والتشويه والأسر. وإنْ نجت عائلته مِن ويلات العنف؛ فهو مُجبر على مواجهةِ مصيره في ظلّ معاناته النفسية العميقة. التي قد تدخله في حالة حزن شديدة يتحوّل إلى حالة اكتئاب مزمن.
ترى هل يمتلك الطفل القابع في أعماق الكاتب، ذكريات يتجاوز بها مِحنهُ، وفقدانه أغلى ما يملك لصنع حياة آمنة جديدة؟
هنا يسكب الكاتب همومه في كتابيْهِ سكوفيا وسيرة الولد الذّاهل، نصوصاً مِن مكنونات العقلِ الباطنِ الذي يستعرض الماضي البعيد، كوسيلة لتسويق الحنين لأرضِ الوطنِ الأم، مسقطَ رأسهِ، مِن أجل إضفاء وقائع تاريخية تتسم بالمصداقية التي تتسق مع العقل والمنطق والحقائق. إنّها سكوفيا، الجولان المحتل.
نصوصٌ طفولية في الفكرة والبناء، مبنية على خيال طفلٍ ذاهلٍ مُغلّفٍ بوقائعَ اجتماعية مكانية، بزمن مرصود، قائمة على تفسيرٍ رمزيّ، بمعانٍ باطنية عميقة، لطفلٍ يفكّر، وينمو، ويتطوّر، ليصلَ لعمرٍ يفصل ما بين الخرافة والحقيقة.
كُتبتْ المجموعتين ببراءة طفل خُلِقَ ما بين أرضها وسمائها. وتعتبر المجموعتان طريقة مِن طرق الإبداع في نطاق ثقافي، في مجالات الأدب وفنون المنهج الفكري. هذه النصوص برغم ما تحتويه مِن تصورات بدائية في خيالٍ طفولي، إلا أنّها تحقق الهدف المنشود بدهشة رائعة. تمثّل المجموعتان، ردّ الفعل النفسي العفوي، لما يختزنه الطفل الكاتب في الأعماق مِن عاطفة وهواجس، يحلّق فيها بتاريخ موثّق بذاكرة مصوّرة بعدسة العين، تحوّلت إلى نصوص سردية رائعة مدوّنة بخيال طفل مرمي على أطراف الحلم، لواقع أجمل ومستقبل أفضل.
ففي الصفحة مائة وخمس وأربعون من نصوص الطفولة سكوفيا يذكر الكاتب عند عودة أبيه من الشام حانقاً لتأجيل التعويض بسبب عرقلات إدارية. لكنّه يعود، محملا بالحلويات ومالذّ وطاب، حتى صار يحلم بحلويات الشام. “والشام هي دمشق، ودمشق هي الشام”. فيقول: “أنا لا أعرف ما معنى معاملة وأختام، أو حتى رئيس الأركان، إلا أنّي آكل هريسة وقطايف وخبزاً أبيض، وأسأل أمّي كيف تكون الشام وهل أنت ذهبت إليها؟”
وفي الصفحة مائة وتسع وأربعون يكبر حلم الطفل فيقول: وأنا صرت أريد الشام لأرى فيها سوق الهال والشوارع والسيارات والأضواء والمحلات إلخ….
ثم يتابع قوله:” ولِأرى النساء اللواتي يفركْنّ أيديهِنّ وأقدامهِنّ بالأحجار لتصيرَ بيضاء ….
ولأرى الإذاعة والحكومة والانقلاب”
لم يكن حلم الطفل ثابتا، كانت أحلامه تتغيّر وتكبر مع الأيام حسب ما تؤول إليه الأحداث.
تمتاز مجموعة نصوص الطفولة سكوفيا، بشيء مِن الأزرق بألوان بحيرة طبريا وذاكرة لأطيافٍ، وحنين للمكان. طفلٌ ينمو، ويتطوّر، ينضج وعيه مِن كثرة التساؤلات، ليصل بوضوح إلى دلالاتٍ مطلقةٍ لِمعنى الهويةِ، بدءًا مِن الأسرة، إلى العلاقة ما بين الإنسان والأرض، الشجر والعمق، الخير والشر، الحقيقة والخيال، الخطيئة والدين، الزهر الأبيض والثلج. ومن خلال متابعتنا للقراءة، نستطيع تأويل أحداث المنطقة وعلاقتها بالدول المجاورة؛ مع ماضٍ لوقائع اجتماعية حياتية للمكان. وضعتنا ذاكرة الطفل في ذات الكاتب أمام خرافاتٍ لقصصٍ حياتية واقعة، تُناقض الحقائق. فكرة استندت، على أقاويل، وتصوراتٍ، ومشاهداتِ طفلٍ يبدو ساذج، لكنّه ذكي يحاول جاهدًا مَنْطَقة الأمور.
ففي الصفحة 50 كتب عن الملّايات؛ النساء اللواتي يملأن جرارهُنّ بالماء مِن العين المسكونة بالجنيات فيقول: “يقفن على حافتها مُرتجفات، الشمس لمْ تطلع بعد والجنيات نيام في هذا الوقت. فمن يجرؤ أنْ يعكّرَ نوم الجنيات”.
“وتقول الملّايات إنهُنّ يسمعْنَ أحياناً غناءًعذباً يأتي من قاع العين: أهلا بالملايات الإنسيات، هيّا اهبطنَ إلينا وخذْنَ الماء وغنّينَ لنا عن حبّ ينمو بين الأضلاع، أو حبّ مات”. وفي نهايات نص الملّايات ذكر أنّ الطفل ذهب ليملأ من العين الماء. وكيف نادت عليه الجنيات الإنسيات، وهو يعلم أنهن لسن جنيّات فملأ جرّته وأعنّه بما شاء، وعاد تاركا خوفَه في العين، مصطحباً معه دهشة الرجل الذي يسكن عقل الطفل.
أمّا في الكتاب الثاني “سيرة الولد الذاهل” فلقد جمع بين السّرد القصصي والشعر. حيثًُ وظّف الشعر واستخدمهُ في بنية القصص. فظهر شعره في هيكل القصة وتداخل في نسيجها. بهدف استحداث نتيجة مزدوجة تتمثّل في استكمال المتعة السّماعية، وحفظِ روحِ الحدث.
ففي الصفحة الثمانيةَ عشرة كتب: “آذار .. هذا الذي كم يسحرني بزهر اللوز، يأخذني إليه، ويغريني لأدخل فيه أسمع صوته، أشمّه فيأسِرني”….
وهنا لا يكتفي الكاتب بوصفه الربيع بل وظف الشعر ليجمع الصوت والصورة بتقنية التناص بذات الحبكة فقال:
“هيلا لزهر اللوز في الشجر اليباس
هيلا له
لبياضه هذا الذي أظنه ثلجا
فيحملني على غصن خفيف الوزن
يصعد بي
يأخذني إلى سبع سموات”
إنّك إنْ قرأتَها، ستتعرفُ بلا أدنى شكّ على طفولية الفكر الإنساني مع منظومة فكرية لمختلف الأعمار. ستصل إلى أهمية تطوّر المعتقدات الفكرية سواء التاريخية والاجتماعية، والثقافية.
ففي الصفحة الواحد والعشرين يقول متسائلا:
“يا الله! من أين يأتيني الصدى. وأين يسكن هذا الذي يدعى صدى؟ هل في الجبال العاليات؟ أم في مغاور، ليس يعرفها الرعاة؟وأنا أنادي بالصدى إظهر كيما أراك يا صدى، فيرتد الصدى صدى، ويضيع في السهل الفسيح هذا الذي يدعى الصدى، وأظل فوقَ السهل أصرخُ يا صدى، فيرتد الصدى صدى، والسهل يكبر، والصدى يبقى صدى”.
وهنا يتداخل النّسيجانِ السّردي بالشعر فيقول:
“السهل أبعد مِن جناح فراشةٍ
تهبُ الطفولة للحقول
والسهل أقرب مِن ضفائر وردة
ترِثُ الجداول والطلول”.
الاشتياق الأبدي ملأ ذاته، فكم مِن وقفة تأمّل، أشعلت سيلاً مِن الأسئلة تصف فيها المكان، والطبيعة بسذاجةِ، وذكاء هذا الطفل التوّاق للمعرفة. سَردَ أحداثاً بانفعالاتٍ مؤثرةٍ على الذات القارئة. جاعلاً الأيام مجالاً لنمو الطفل والحدث، وتطوّره بإغراء ملفت. توالت الأيام، وتكاثرت الأسئلة بمنطق يواكب مجريات الأحداث.
ففي الصفحة أربعة وأربعين قال: ” هذه سكوفيا تُروادني بأن أُسند لها ظهري لتحكّني وأحكّ ما تبقى فيها من رخام أدلّكها على حجر ينزُّ دما، وأحملها على وجع، على فرحٍ قديم،
وما بين دهشة وسؤال، نمرّ على الفصول بشمولية سحرها. وأسرار سكّان المدينة المنكوبة. بعد أن بدّد العنفُ حياتهم وأحلامهم. ومِن موقع اغترابه، قصّ علينا ذكريات الطفل القابع في ذاته الذي تمنى لو لم يكبر. فيقول:
“وأنا، هذا أنا دوما أدورُ، كل شيء دائما حولي يدورُ، كلّما تأخذني الدربُ عليها، فأرى ما لا يرى غيري، أرى الأشياء تسكنني وأسكنها، وأولد من تجددها.”
كتب الأديب مجموعتيهِ، وهذا الولد الطافح بالحب، المندهش، القلق، الخائف، المحتار، المسكون بأسئلة الكون. الواسع الإدراك. مُندَهشٌ مِن لغة الرّجل النّاضج، الواعي، المثقّف والمفكّر، والمُدهش حقاً.
إنّ مجموعتي الكاتب تحمل الكثير مِن نسيج روحه النقية، الداعم الدائم لمبادئ الإنسانية. والذي بثّ مِن خلالهما رسائل حياتية تعبّر بشكل جليّ عمّا ينبغي على الإنسان القيام به في الحياة، ليكون أدى رسالته فيها.
وعليه أقول أنّ الطفل الفاقد لحضن الوطن، كفاقدٍ لحضن أمّه.
أعترف أني قرأت عن الطفل السارد المتسائل كثيراً، لكنّي لم أجد إلا طفلاّ بعقل رجلٍ، يحملُ همومَ وطنٍ احتلّ قلبَ الكاتب. وبالرّغم مِن أنّ الحروب سحقت هذا الطفل وكلّ الطفولة، على حدّ سواء. بقيت الجولان في قلب الكاتب على مرّ الأجيال الوطن الأم، والعنوان، والهوية.
#سفير_برس _ بقلم : الأديبة سمر كلاس