إعلان
إعلان

بمناسبة اليوم العربيِّ للأدب المقارن 29 ديسمبر 2024 ..بقلم : أ. د. عبد الله المجيدل

#سفيربرس

إعلان

تعدُّ المقارنة واحدة من آليَّات البحث الرئيسة التي تعزِّز المعرفة، وتمكِّن من الوصول إلى أقرب مسافة من الحقيقة، وهي آليَّة لا يمكن لعلم من العلوم أن يستغني عنها، فبالاعتماد عليها يمكن تحديد التشابهات والاختلافات بين الأشياء. وعلى الرغم من ارتباط مصطلح المقارنة بعلوم القرن التاسع عشر، فإنَّ استخدامها قديم متأصِّل في الدرس الثقافيِّ – الأدبيِّ منذ زمن بعيد، لأنَّ الدارس في المجالات الثقافيَّة والإنسانيَّة لا يستطيع فهم أيَّة ظاهرة مهما كانت فهمًا صحيحًا، إلَّا عندما ينظر إليها في ضوء الظواهر المشابهة لها، أو حتَّى في ضوء الظواهر المباينة والمضادَّة.
والمقارنة في العلوم الإنسانيَّة تعمل عمل المختبر في العلوم الطبيعيَّة والكيميائيَّة، فنحن لا نستطيع استحضار نماذج من الشعوب القديمة ووضعها في المختبرات، لكنَّنا نستطيع أنْ نفهم كثيرًا عنها؛ ونحن نقارن بين آدابها وإبداعاتها وموروثاتها الثقافيَّة. وتُعَدُّ المقارنة خطوة تمهيديَّة أوليَّة، تتلوها خطوات في التأصيل وبيان أسباب التشابه والاختلاف، وتبويب النتائج وتنظيمها في أصناف وأنواع وأنماط… إلخ.
إنَّ كلَّ شيء في عالم الثقافة – على الأقل – لا تصبح معرفته أقرب إلى التمام إلَّا بعد مقارنته بما يشابهه أو يماثله، والوظيفة الرئيسة المنوطة بالمقارنة هي الكشف عن السمات والخصائص المشتركة، أمَّا الكشف عن وجوه التباين والتمايز فهي وظيفة قد لا تقلُّ أهميَّة عن الأولى، لأنَّها تجعلنا أشدَّ اقترابًا من التمام، بكشفها عن بعض الخصوصيَّات المائزة لكلِّ مكوِّنٍ من المكوِّنات المقارَن بينها.
ومن أهميَّة المقارنة بوصفها أداة من أدوات البحث العلميِّ جاءت أهميَّة الأدب المقارن، الذي ابتعد خطوات عن أن يكون وسيلة، ليغدو علمًا قائمًا بذاته. إنَّه العلم الذي يدرس العلاقات الأدبيَّة الدوليَّة، ويقارن أدبًا ما بأدب آخر أو آداب أخرى، ليكشف عن مواطن التلاقي والاختلاف بينها وعن صلاتها الكثيرة والمتعددة، وعن تأثير أحدها في الآخر، وسبل هذا التأثير، ويدرس – إضافةً إلى ذلك – التشابهات النمطيَّة التيبولوجيَّة الناجمة عن تشابه الواقع المعيشيِّ والاجتماعيِّ بين منتجي الآداب المختلفة. ويمكن أن يوسَّع حقل الدرس المقارنيِّ ليشتمل دراسة العلاقات بين الأدب ومناطق أخرى من المعرفة والاعتقاد… أو بمناطق أخرى من التعبير الإنسانيِّ مثل الفنون والفلسفة والتاريخ..
وعلى الرغم من أنَّ جزءًا كبيرًا من الأدب العربيِّ القديم – ولا سيَّما في مرحلة ما قبل الإسلام – قد تمدَّد شمالًا إلى أراضي الشام والعراق، أو نبع أصلًا في هذه الأراضي المكتنزة بثقافات عريقة؛ تعايشت منذ دهور، فإنَّ الدارسين العرب في العصر الحديث لم يحاولوا رؤيته خارج سياق الجغرافيا العربيَّة. وإذا ما انتبه أحدٌ إلى هذا التمدُّد الثقافيِّ فإنَّه يكتفي بالإشارة إلى تشابهٍ ما، ويعفي نفسه من الغوص في التفاصيل، والبحث عن المشتركات والاختلافات. ولا غرابة في ذلك، فكتب الأدب والتاريخ القديمة تضنُّ بالمعلومات، وتبخل بالمعطيات الأوليَّة والأسماء، ممَّا يجعل الباحث يُؤْثر تجنُّب الخوض في مفاوز البحث ومجاهيله.
ليس لأيّ باحث أن ينكر التأثيرات الأدبيّة المتبادلة بين الشعوب، فالآداب الشرقيَّة والمصريَّة القديمة أثَّرت في الأدبين اليونانيِّ والرومانيِّ، والأدب العربي أثّر في الأدب الفارسي والتركي وآداب الشعوب الإسلاميّة جميعًا، والأدب العربي والفارسي معًا أثّرا في الآداب الأوروبية كلِّها، وتأثَّرا بها في العصر الحديث، وأثَّرت الآداب الأوروبيَّة كلٌّ منها في الآخر وتأثرت به، وهكذا دواليك. إنّ تاريخ الأدب العالميّ هو تاريخ سلسلة طويلة من علاقات التأثر والتأثير، يمثّل كلّ أدب من الآداب العالميّة حلقة في هذه السلسلة، قد تصغر أو تكبر، لكنّها تبقى في كلّ الأحوال حلقة متصلة متأثرة بمن سبقها ومؤثرة فيمن لحقها. والأدب المقارن بالذات هو العلم الذي يدرس التأثيرات الأدبيَّة المتبادلة.

#سفيربرس ـ بقلم :  أ. د. عبد الله المجيدل

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. إنّ تاريخ الأدب العالميّ هو تاريخ سلسلة طويلة من علاقات التأثر والتأثير، يمثّل كلّ أدب من الآداب العالميّة حلقة في هذه السلسلة، قد تصغر أو تكبر، لكنّها تبقى في كلّ الأحوال حلقة متصلة متأثرة بمن سبقها ومؤثرة فيمن لحقها. والأدب المقارن بالذات هو العلم الذي يدرس التأثيرات الأدبيَّة المتبادلة.

    بهذا الموجز قال الدكتور عبدالله المجيدل كل ما يجب أن يقال عن الأدب المقارن تعريفا وأهمية واستراتيجيات..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *