العبقرية والشرّ لا يجتمعان ..في اتحاد الكتاب العرب فرع دمشق
#سفيربرس _ ماجدة البدر

أقام فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب في مقره الكائن بدمشق يوم الأحد 13/12/2020،وذلك بحضور هيئة الفرع د. محمد الحوراني، رئيس الفرع، د.إبراهيم سعيد، أمين الصندوق، محاضرة وحوار مفتوح بعنوان: (العبقرية والشرّ لا يجتمعان، قراءة في مسرحية بوشكين موزارت وساليري أنموذجاً)، (مسرحية قصيرة لبوشكين ترجمها عن الروسية الأستاذ شاهر نصر) ألقاها أ.مالك صقور رئيس اتحاد الكتاب العرب، أدار الجلسة: د.إبراهيم زعرور، أمين السر.
افتتح أ.مالك صقور محاضرته : ((اللهم احمني من أصدقائي، وأنا علّي بأعدائي))… لا أعرف من قالها، ولكن يا حنظلة، لما كان لا أعداء لي غير أعداء الأمة والشعب، وهذه مهمة لا تقع على عاتقي وحدي. كان علي أن أحتاط من الذين قال فيهم النبي العربي (ص) ((اتق شر من أحسنت إليه)). وإذا كان يا حنظلة، الخل الوفي ثالثة أثافي المستحيل، فعزائي هو قول بوشكين على لسان الموسيقار الكبير أماديوس موزارت لصديقه الحسود انطونيو ساليري:
-يا ساليري: العبقرية والشر لا يجتمعان.
لكن موزارت العبقري المخدوع، لم يكن يعلم أن صديقه الذي أحبه وقدم له النصائح في الموسيقا، وسمع ألحانه، وسمعَّه أيضاً، وتمتعا بالعزف وشرب النبيذ معه، قد سكب له السّم الزعاف في كأسه وكان الكأس الأخير.
الحسد والغيرة، طبعان متأصلان في بني البشر، مذ كان البشر وأبو البشر آدم. وقصة الحسد الأولى، أو الغيرة الأولى التي أدت إلى جريمة القتل الأولى، ألا وهي قصة هابيل وقابيل، مازالت ماثلة، وقصة يوسف مع أخوته وما حصل له جراء حسدهم له وغيرتهم منه،
تعدُّ مسرحية بوشكين القصيرة “موزارت وساليري” من أهم الأعمال التي عالجت موضوع الحسد والغيرة بين الفنانين. وربما كانت واحدة من الأعمال الإشكالية كونها تعرضت لأهم موسيقارين في عصريهما ..”موزارت وساليري”. في عام1832. كتب بوشكين هذه الملاحظة حول المسرحية: “خلال العرض الأول لمسرحية “دوان جوان” كان المسرح يغص بالمشاهير العارفين بالموسيقى الذين كانوا ينصتون بنشوة وشغف إلى هارمونيا موزارت. فجأة سُمع صفير فالتفت الجميع بسخط إلى الموسيقي المشهور ساليري وهو يخرج من القاعة مسعوراً، والحسد يثقل كاهله. توفي ساليري منذ ثمانية أعوام. وتحدث بعض الصحفيين الألمان، إنه اعترف وهو يحتضر على فراش الموت بالجريمة الشنعاء التي اقترفها- تسميم موزارت العظيم. لقد استطاع الحسود الذي استهجن (دون جوان) أن يسمم مبدعها”بهذا الصدد يقول الناقد سيرغي بوندي: “بعد موت ساليري عام 1825 انتشرت إشاعات كثيرة عن حادثة تسميم ساليري لصديقه موزارت وقد كتبت هذا الجرائد والمجلات بين مؤيد ومعارض، ومنها بعض الصحف الفرنسية التي نفت الشائعة”..
ويقول زيد الشريف: “بالغ المؤرخون في وصف العداء بين ساليري وموزارت وأخطأوا عندما أصروا أن يقارنوا موهبة موزارت بموهبة ساليري. فساليري لم يكن بوجه من الوجوه أستاذاً دون موهبة، ولكن أحداً في التاريخ لا يمكن مقارنته بموزارت..
وباستطاعتنا أن نعتقد هنا بأن الغيرة لعبت برأس ساليري وهو يرى موزارت الذي لم يكن يصغره بأكثر من ست سنوات، يحظى (على الأقل) بتأييد الأسرة المالكة والبلاط. ومن المؤكد، بأن عبقرية موزارت التي استطاع ساليري أن يقدرها أكثر من جميع معاصريه، لعبت دوراً كبيراً في شعوره بالنقص. ولكن هذا كله ليس سبباً كافياً لاتهامه بدّس السم له، وهو اتهام ظهر في فيينا بعد سنوات طويلة من وفاة موزارت. وساهم عمل بوشكين (موزارت وساليري) في تحويله إلى حقيقة تاريخية” وبغض النظر، عن صحة (الواقعة التاريخية) أو عدم صحتها، وبغض النظر عما نشرته الصحافة الألمانية والفرنسية والروسية حينذاك، بين مؤيد ومعارض لهذه الواقعة أو هذه التهمة، فقد دخلت تراجيديا بوشكين “موزارت وساليري” تاريخ الأدب المسرحي والاجتماعي، والبسكالوجي العالمي، من أوسع أبوابه. ومنذ صدورها عام 1830 وحتى اليوم، مازالت محط دراسات نقدية، ومازال المسرحيون يقومون بتمثيلها على الخشبة، وقد حولها بيرشافر إلى دراما (أماديوس) والتي قام المخرج التشكيلي ميلوش فورمان بتحويلها إلى فيلم شهير حصد ثماني جوائز أوسكار كما في الأوبرا ريمسكي كورساكوف عن عمل بوشكين، وكل تلك الأعمال تقوم على فكرة الحسد والغيرة، وتنتهي بدس السم من قبل ساليري لصديقه موزارت.
لكن سؤالاً يطرح نفسه بقوة: هل يمكن لشاعر عظيم، بحجم بوشكين وموسوعيته وعبقريته، أن يكتب بالاسم الصريح شخصيتين تاريخيتين، وهما موسيقاران مشهوران آنذاك على مستوى أوروبا، دون أن يتأكد من صحة الواقعة، معرضاً سمعته ومكانته الأدبية للشك وعدم المصداقية؟ تشيرُ كل الدلائل إلى أن بوشكين كان متأكداً من ذلك ولم يشك في صحة التهمة إطلاقاً.
لقد وضعت عنواناً هو “العبقرية والشر لايجتمعان” وهذا ما قاله بوشكين على لسان موزارت. وهذا القول: هو جوهر هذه التراجيديا، التي عدها بيلنيسكي: “أنها عظيمة وعميقة وتشهد على عبقرية نادرة قوية، على الرغم من قصر هذه التراجيديا وصغر حجمها”
أما الناقد البلغاري ايفريم كارانفيلوف فيقول: “ومن ناحية أخرى، فالمسألة الأساس في المغناة تبدو واضحة للغاية: العلاقة بين العبقرية وضيق الأفق، وولادة الحسد والجريمة”.
وفي رأيي إن جوهر مأساة بوشكين “موزارت وساليري” هو الصراع الأزلي بين الخير والشر، والصراع بين الموهبة وعدم الموهبة، الصراع بين الأريحية والأنانية، الصراع بين الأخلاق الرفيعة والأخلاق المنحطة، الصراع بين الشهامة والنذالة بين المروءة والخسة، الصراع بين الغرور والتكبر والتواضع، وأخيراً الصراع بين كبار النفوس وصغارها.
إن بوشكين شاعر الحرية، بكل ما يعني لقب شاعر من معنى، وبكل ما تعني كلمة حرية بكل أبعادها ومعانيها.
بوشكين هو الذي يقول:
أريد أن أغني الحرية
وأفضح الشر المتربع على العروش
وهو، فعلاً، أنشد الحرية وغنى لها، وفضح الشر والعروش معاً، في كل ما كتب، وفي هذه المسرحية القصيرة المأساة، يفضح الشر الكامن في النفوس.
وإن كان دوستويفسكي توغل إلى أعماق النفس البشرية، في كشفه عن ذوات أبطاله ونماذجه، فإن بوشكين، قد سبقه في هذه التراجيديا، في كشف أعماق نموذج بشري، فضح من خلاله الحسد الكامن في نفس ساليري، الحسد الذي قاد إلى الجريمة، وفي الوقت نفسه غنّى للانسان المبدع الذي هو موزارت.
الحسد، كما قلت، موضوع قديم، قدم البشرية، والأمثلة أكثر من أن تحصى. ولقد قرن الشر بالحسد في القرآن: “ومن شر حاسد إذا حسد”
لكن في رأيي، أن موضوع (الحسد) في هذه التراجيديا، له خصوصية متميزة؛ وخصوصيته تنبع من العمق الذي تناوله فيه بوشكين كشاعر عظيم عبقري أولاً، وثانياً تأتي هذه الخصوصية من شخصية (البطلين) اللذين جعل منهما بوشكين رمزين، في الأدب والفن.
رمزين: للخير والشر، رمزين للنبل والسفالة، رمزين للطيبة والضغينة رمزين للموهبة وضيق الأفق. رمزين للأريحية والحسد.
فموزارت ليس إنساناً عادياً، فقد لفت نظر الناس في طفولته، وأدهشهم في يفاعته، وأسرهم في نضوجه. كذلك ساليري فهو موسيقي مهم في عصره وصل إلى أعلى المراتب في البلاط النمساوي، وهذا ما دفع بعض المشككين للقول: كيف يمكن لأستاذ في الموسيقى مثل ساليري وهو أستاذ (بتهوفن وشوبرت وليست) أن يغدو حاسداً لموزارت ثم يقتله بالسم؟
يقول بيلينسكي: إن ساليري لديه من العقل وحب الموسيقى وفهمها ما يجعله يدرك – أي ساليري – أنه لاشيء أمامه -أي أمام موزارت.
تبدأ التراجيديا بلحظة، يبدو ساليري فيها مأزوماً شاكياً، فيسرد قصته مع الموسيقى، وكيف وقف حياته كلها من أجل الفن مذ كان طفلاً وحتى اللحظة الراهنة، وكيف سعى، وجاهد وجدّ، واعتزل الناس، ناسياً النوم والطعام لأيام متتالية، وكان يبدو له، أن المجد بعيدٌ عنه، ولكن وبعد إصرار، ابتسم له المجد، وشعر بلذة النجاح والمجد معاً. عندها لم يحس بالحسد أو الغيرة من أحد، حتى من أكبر موسيقي عصره ألا وهو (بوتشيني) الذي أسر أهل باريس المتوحشين، ساليري يطلق على أهل باريس “متوحشين” لأنهم معجبون ببوتشيني، ولكن بعد ظهور موزارت في عالم الموسيقى وبعد أن سطع نجمه، اختلف كل شيء.
يقول:
“من قال إن ساليري الشهم
يصبح حسوداً حقيراً.
ساليري يضرم حقد الأفاعي البشرية
وينفث الرمال والغبار بقوة؟
لا أحد!.. والآن بنفسي أقول:
الآن، أنا أحسد. أحسد من أعماقي
أحسد بألم.. أواه، أيتها السماء!
أين الحقيقة، فالهبة المقدسة
والعبقرية الخالدة- ليست مكافأة
للحب الحار، والتفاني والعمل والجد
ولا لرسول العبادة بل إنها تضيء
رأس ذلك المجنون الفارغ، المدمن الكسلان..آه.. موزارت، موزارت!!
وما أن يلفظ ساليري، اسم موزارت حتى يدخل موزارت إليه لنتأمل هذا المشهد بين الصديقين:
ساليري يتألم شاكياً حتى من السماء، ويصرح عن حسده، والغل في صدره كسم الأفاعي، وموزارت يدخل إليه بكل طيبة وبساطة بكامل حيويته وفكاهته وضحكة وعذوبته، ويصطحب معه عازفاً عجوزاً أعمى.
ترى، ماذا يتوقع القارىء والمشاهد من هذا اللقاء؟
عوضاً عن الترحاب والاستقبال الحار، والبشاشة عوضاً عن هذا يسأله ساليري: أأنت هنا؟! منذ مدة؟!
فيجيبه موزارت: أحببت أن أقدم لك مفاجأة طريفة!
لكن ساليري، لا يهتم بالمفاجأة التي يحملها موزارت والمفاجاة هي العازف العجوز الأعمى.
موزارت بكل بساطة وطيبة وتواضع يقول:
وأنا قادم إليك، مررت أمام الحانة، سمعت عزف العجوز الأعمى لم أستطع أن أسمعه لوحدى فأتيتك به كي تسمع فنه، إنه أعجوبة ياللروعة. ثم يطلب موزارت من العازف الأعمى أن يعزف شيئاً من مؤلفاته فيعزف لهما أغنية من (دون جوان) لموزارت. موزارت يقهقه طرباُ فيما يغتاظ ساليري، وبحنق يقول: وتضحك أيضاً؟!! موزارت يتعجب كيف لا يضحك ساليري حتى ولا يبتسم بمعنمى كيف، ولماذا لم يٌعجب بعزف الضرير الشيخ. بل يقول ساليري ممتعضاً وبغيظ:
“لا يبعث الدّهان الرديء الضحك فيّ، عندما يلوث بخربشته عذراء رفائيل”.
ثم يطرد ساليري العازف العجوز الأعمى.
ساليري، يطرد العجوز الأعمى لكن موزارت يقول: تعال “اشرب نخب صحتي:
هنا، لابد من التساؤل، لماذا تصرف ساليري هكذا فكيف له كإنسان أن يطرد ضيفاً من بيته كائناً من كان، ثم هل ساليري فعلاً يبدو أكثر إخلاصاً للفن من موزارت، وهل لا يتقبل إلا الفنان المشهور؟!
لماذا أعجب موزارت بعزف الشيخ الضرير، ورأى فيه أعجوبته، وساليري يطرده، بعد أن يشبهّه بدّهان يشوه عذراء رفائيل، بمعنى من المعاني، إنه هذا العازف الضرير العجوز، يشوه لحن موزارت، وكأن ساليري، حريص على ألحان موزارت، أكثر من موزارت نفسه، لكن الحقيقة غير ذلك، هنا تتجسد مقولة الصراع بين الروح الجافة اليابسة والروح المبدعة، الصراع بين دوغمائية الحرفي وبين الشاعر الحر الطليق.
وكما يقول كارانفيلوف: “فالعباقرة والموهوبون حقاً، يبدون على استعداد دائم لمد اليد إلى الشعب عبر رؤوس ضيقي الأفق اليابسة”.
لا بد أن القارئ والمشاهد، انتبه إلى هذا المشهد، شديد الواقعية، ساليري يطرد العجوز الأعمى، موزارت يطلب منه أن يشرب نخب صمته.
ساليري يغتاظ من وجود الشيخ الضرير، ولا يطرب له، موزارت يطلب منه أن يعزف لحناً من ألحانه.
في هذا المشهد، تنكشف للقارئ والمشاهد معاً شخصية كل من موزارت وساليري، من خلال حماسة موزارت وأريحيته بالتعامل مع عامة الشعب وتواضعه مع البائسين.
كم يتكرر هذا المشهد، بأشكال مختلفة، في المشهد الثقافي العام. حين يحاول فنان مشهور، أو كاتب كبير، أو شاعر معروف، أن يلغي الآخر، بحجة المحافظة على الفن، تارة وبحجة المحافظة على اللغة، وطوراً المحافظة على الشعر، وطوراً على الوزن، ثم يتكرر هذا المشهد، ويعارض أهل المنابر من يرون فيهم أنهم أدنى من مستواهم الفني، أو، ذوّق لهم غرورهم أنهم هم أعلى من مستوى أولئك، الذين لم يصلوا بعد.
إن ساليري في هذا المشهد، يلخص المشهد العام للأنانية، في عدم قبوله الإنسان البسيط الفقير، العازف الشيخ الضرير، الذي يتسول اللقمة في الشارع وفي الحانات، أما موزارت يبدو نبيلاً بلا حدود.
ولكي تتضح لنا شخصية ساليري، وأزمته، وضحالته أكثر، أذكَّر في بداية المسرحية التي يبدأها ساليري هكذا:
((يقول الجميع: لا يوجد حقيقة على الأرض. ولا توجد في الأعالي)) ثم يعود ويكرر شكواه، وتذمره مراراً خلال منولوغه الطويل: ((أواه، أيتها السماء أين الحقيقة))؟ الهبة المقدسة والعبقرية الخالدة؟!
عن كلمة (الحقيقة) يقول الناقد يغفيني فينوكوروف: ((فكلمة (برافدا) تعني الحقيقة، لا أعرفها في بقية اللغات. ولكن في اللغة الروسية: لها معنيان: الأول: وهو الحقيقة، كما هو متداول. والمعنى الثاني: هو العدالة. “لا يوجد حقيقة على الأرض – هذا ما يقوله بوشكين، فماذا يقصد: العدالة أم الحقيقة؟ بالنسبة للإنسان الروسي مفهوم الحقيقة (البارد)، وتقويم المعنى الأخلاقي (الحار) للعدالة مجموعان في كلمة واحدة ))
هنا، يقصد بوشكين على لسان ساليري: أين الحقيقة، أي، أين العدالة؟ فساليري، الذي يتبجح بالجد والاجتهاد، والمواظبة والتفاني بالعمل وفي حب الموسيقى، فجأة، يجد ذاك اللاهي، المجنون الصبي اللعوب، الكسلان، محب النساء والخمور، متفوقاً عليه. ساليري، يعترض ويحتج حتى على السماء التي منحت موزارت كل الصفات التي ذكرت، تلك الموهبة المقدسة الإلهية ورفعته إلى درجة العبقرية، ومن هنا، توّلد عنده الحسد والحسد قاده إلى الحقد، والحقد جرّه إلى الجريمة.
من المؤكد، أن بوشكين، يعرف سيرة كلٍ من موازارت وساليري، وساليري الذي يسرد قصة حياته، ومن هذه السيرة، يعرف القارئ والمشاهد أن ساليري حرفي، أكثر منه موهوباً، فهو احترف الموسيقى، وربما أتقن العزف، ولكن تنقصه موهبة التأليف المبدع الخلاق، الذي تفوق فيه موزارت على كل أقرانه، بوشكين يعرف: إن ساليري هو أستاذ ثلاثة مشاهير في عالم الموسيقى: (بتهوفن، وشوبرت، وليست) لكن بوشكين يعرف أيضاً، أن الأستاذ المدرّس، تنقصه موهبة العباقرة، مهما أتقن تلقين دروسه، وكثير من التلامذة، تفوقوا على أساتذتهم. ساليري يعترف، ويقر، بعقدة النقص والدونية تجاه صديقه موزارت. ولهذا يحتج على السماء، كيف وهبت موزارت اللامبالي، ولم تهبه هو الجاد.
لقد اتضحت هنا الصورة جلية، صورة كل منهما، وصار من السهل أن نلحظ الفرق بين موزارت وساليري، لكن المشهد يكتمل بعد أن يطرد ساليري، العازف الأعمى، ويصبحا وحيدين، عندها يقول ساليري: لماذا أتيت، أو بماذا أتيتني؟ فيعزف له موزارت مقطوعة ألفّها البارحة، ويريد أن يعرف رأي صديقه ساليري فيها. بعد أن يسمع ساليري اللحن الجديد لموزارت يصرخ ساليري:
((أنت، أتيت إلي بهذا
كيف مكنتك قواك على الوقوف
عند الحانة لسماع عزف الشيخ الأعمى
يا إلهي!
يا موزارت، أنت لست جديراً بنفسك))
بكل بساطة وطيبة وتواضع، ودهشة الطفل البريء يسأله موزارت:
صحيح، ما رأيك، هل أعجبك اللحن، أهو جيد؟!
فيزداد اعجاب ساليري قائلاً:
((يا للعمق، يا للجرأة، يا للاستقامة،
أنت يا موزارت، إله، أنت لا تعرف نفسك،
أنا أعرف ذلك، أنا أعرفك))
هنا، ساليري، يحكي الصدق، لم يستطع أن ينكر ذلك، ولكن هذا قناع الصديق المنافق، الذي يجامل صديقه، وهو يضمر له الشر والحسد والحقد، فقبل قليل، كان بينه وبين نفسه، يقول عنه، إنه مجنوع فارغ، كسلان، مدمن إلخ..
إن بوشكين الشاعر العبقري، الذي عالج هذه القضية بسيكالوجياً، دخل إلى نفسية ساليري، وأظهر ما فيها من نفاق، وبقي هذا النفاق حتى اللحظة الأخيرة.
***
إن القارئ والمشاهد، قد عرف قرار ساليري الحقير، بقتل صديقه، عندما يصرّح قائلاً:
كلا؟ لا أستطيع مقاومة قدري:
لقد تم اختياري لإيقافه،
سأوقفه،
سأضع حداً له، ألم نمتْ جميعاً
كلنا كهنة في خدمة الموسيقى
وأنا لستُ الوحيد
في مجدي الأصم
ما الفائدة، إذا بقي موزارت
على قيد الحياة
وتوصل إلى قمم جديدة
……….
……..
هذا هو السم
آخر منحة من ايزورا
ما زلت أحمله منذ ثمانية عشر عاماً
ومن وقتها بدت لي الحياة جرحاً لا يطاق
جلست مراراً، مع عدوي، على منضدة واحدة
………….
……….
ياهبة الايزورا
لقد كنت محقاً
لقد آن الأوان
فانتقلي يا منحة الحب
إلى كأس الصداقة
هنا، يخلع ساليري قناعه، وتنكشف حقيقته. ساليري يحمل السم معه ثمانية عشر عاماً. من يحمل السم معه، وكل هذه المدة، ولماذا؟ مجرد هذا، يفصح أكثر عن شخصية ساليري وطبعه، وأقل ما يقال، إن السم سلاح الجبناء السفلة. مثله، وأمثاله، وهنا، لا بد من ملاحظة، أن ساليري صار ينطق باسم الجماعة: (كلنا، نحن، كهنة، في خدمة الموسيقى)
لم يقل كلمة غيرها، فكلمة كاهن، لها دلالتها، وكهان الموسيقى كلهم حاقدون على موزارت، كما كهان الأدب حاقدون على بوشكين.
لقد اتجه بوشكين عميقاً في علم النفس، ولم يعتمد الحدث الخارجي، في إيصال القارئ والمشاهد إلى اللحظة التراجيدية الفظيعة، اللحظة، التي يسكب ساليري السم في كأس موزارت.
فليتخيل واحدُنا صديقين، يتناولان طعام الغداء معاً، ويشربان النبيذ، ويتنادمان، أحدهما يفضي كل ما في قلبه، لصديقه فيحكي له همومه، وما يزعجه، وما يقلقه، يحكي له قصة آخر لحن أبدعه، (صلاة الجناز) ولا يكتم عنه رعبه من الشبح الأسود الذي يلاحقه، ويتبعه كالظل، يحرمه النوم، والثاني: يحمل السم في جيبه.
الجو المفعم بالود والحب والصداقة والمصارحة، لا يشي بأن ساليري، بعد قليل سيضع السم في كأس صديقه، لا بل يطمئنه، ويهدئ من روعه:
لنقرأ هذا المقطع:
يقول موزارت: منعني الأسودُ النومَ
لا يدعني ليل نهار، يلاحقني كالظل
يبدو كأنه ثالثنا الآن
يجلس بيننا
فيرد عليه ساليري مطمئناً: يكفي هذا الخوف الصبياني
أبعد عنك الأفكار الفارغة
قال لي بومارشيه: اسمع أخي ساليري
عندما تراودك أفكار سوداوية
افتح زجاجة شمبانيا
أو ترنم بـ “زواج فيغارو”
فيقول موزارت: أجل!
بومارشيه، صديقك •
وأنت ألفّت له لحناً رائعاً
كان عملاً متميزاً،
أحقاً، يا ساميري
أن بومارشيه
سمم شخصاً ما!
فينبفي ساليري ذلك
فيقول موزارت:
هو، عبقري
مثلك، ومثلي
العبقرية والشر
أمران لا يجتمعان
أتوافقني يا ساليري، ما رأيك؟
(لحظتئد، يسكب ساليري السم في كأس موزارت)
ويقول:
إشرب، إذن:
فيقرع موزارت كأسه بكأس ساليري، قائلاً:
-نخب صمتك، يا صديقي
نخب الاتحاد الصادق الذي يربط موزارت بك
موزارت وساليري توأما هرمونيا الموسيقى
بهذا، أكون قد وصلت إلى بيت القصيد، ومربط الفرس: ((العبقرية والشر لا يجتمعان..))
وهو لغز هذا العمل الإبداعي، ساليري ليس عبقرياً، وارتكب الشر. موزارت هو العبقري الذي لا يمكن أن يقتل، أو يكون مستعداً أو مؤهلاً للقتل.(•)
في يقيني، أن هذا المشهد، أكبر، وأوسع، من أي كلمات في وصفه، لكن بكلمة: هنا يتجلى الصدق كل الصدق، والنبل، وبالمقابل تتجسد السفالة والنذالة والجبن معاً.
سقراط تجرع السم، وهو يعرف أنه السم، لكن المخدوع موزارت كأسه طافحة بالسم. يكرعها، من غير أن يعرف، بعد أن يرفع نخب الاتحاد الصادق، والصداقة الحقيقية، وينهض إلى البيانو:
اسمع يا ساليري،
صلاة الجناز
ويعزف موزارت آخر لحن، أبدعه، يجمع النقاد ومتذوقو الموسيقى، والموسيقيون، أن لحن (صلاة الجناز) من أروع ما لحنّه موزارت.
بعد أن يسمع ساليري اللحن، تأتيه نوبة بكاء.
فيسأله موزارت لماذا تبكي؟
فيقول ساليري: أذرف هذه الدموع
لأول مرة
بألم ورغبة
كأني نفذت واجباً ثقيلاً
يقيدني بخشوع
كأن خنجراً سحرياً
بتر العضو المعذب في
أيها الصديق موزارت
لا تعر انتباهاً
لهذه الدموع
تابع، أسرع
وأملاً روحي بهذه الأنغام
يخال للمرء، في البداية، إنها دموع الندم، لكنها، في الحقيقة دموع التماسيح، أو، بكاء المكتئب العاجز، الجبان، في لحظة ضعفه أمام صديق لن يلقاه أبداً.
لقد عزف موزارت اللحن الأخير، الذي أبدعه، وهو لا يعلم أنه عزف هو صلاته وقداسه عن روحه وعلى قبره.
ولهذا اللحن، قصة، يذكرها مؤرخو الموسيقى، وقد اعتبرها الناقد سيرغي بوندي، إنها مصادفة غريبة:
“في تموز عام (1791) طرق باب منزل موزارت، رجل غريب المظهر قاسي الملامح، كان يرتدي معطفاً أسود وقبعة عريضة كانت تغطي ملامحه القاسية والمريبة، سلّمة رسالة دون توقيع تتضمن طلباً لتأليف قداس للموتى (Requiem) بالسرعة الممكنة وبالمبلغ الذي يريده، وأجاب موزارت الشخص الغريب بأنه يقبل العرض، ولكنه لا يستطيع تحديد موعد لتسليم القداس، وطلب خمسين قطعة نقدية على الحساب، بعد عدة أيام عاد الرجل الغريب، ليقرع الباب مرة أخرى وسلمه المبلغ المطلوب، ووعده بمبلغ مماثل عند انتهاء العمل ثم اختفى بسرعة مثلما جاء، واعتقد موزارت الذي كان يؤمن بقوى خفية تحكم العالم، بأن هذا الشخص الغريب أرسلته إليه قوى خفية من أجل أن يكتب قداسه الأخير.
تبين فيما بعد، أن الرجل الذي طلب وكان بهيئة شبح أسود، ما هو إلا الكونت فرانز فون فالسيج، الذي توفيت زوجته قبل أشهر، وكان الكونت هذا، عازف فيولونسيل، لكنه لا يجيد تأليف الألحان الموسيقية، وكان يوصي بعض الموسيقيين المجهولين على تأليف أعمال موسيقية لقاء مبالغ لا بأس بها، وفعل الشيء ذاته مع موزارت وطلب (الركويم) صلاة الجناز من أجل تقديمه في ذكرى وفاة زوجته.
عندما رأى موزارت أن ساليري يبكي، قال له:
متى سيشعر الجميع بقوة هرمونيا الموسيقى
عندها، لن يقدر العالم على البقاء
عندها، لن يستطيع أحد الاهتمام بمتطلبات الحياة السفلى،
سيهب كل الناس أنفسهم للفن الخالد
هل بوسع المرء، أن يتخيل مشهداً أشهد تأثيراً، وقوة، وحزناً، ومرارة، أكثر من هذا المشهد المأساوي.
صديق يقرع كأسه بكأس صديقه، يقول لنشرب نخب الصداقة، ونخب توأمي الموسيقى أنت وأنا، والآخر يتلذذ بموسيقى الصديق الذي بعد دقائق سيلفظ أنفاسه لا بل يتشفى ويشمت قائلاً:
ستغفو
طويلاً يا موزارت. أمن المعقول، أن يكون مصيباً
إذن، فأنا لست عبقرياً
العبقرية والشر لا يجتمعان.. هذا ليس صحيحاً،
وبوناروتي؟!
مبدع الفاتيكان
ألم يكن قاتلاً
أم هذه خرافة خلقها الرعاع التافهون
اتخذ ساليري، من شائعة تاريخية، واقتدى بها مبرراً فعلته يحكى: إن الرسام والنحات الشهير بوناروتي ميكائيل أنجلو، أيضاً ارتكب جريمة باسم الفن. فحين كان يعمل على تجسيد السيد المسيح مصلوباً، فمن أجل أن يجسد الألم، والمعاناة، والوجع بدقة متناهية وواقعية مباشرة، سمّر الشخص الذي اتخذ منه (موديلاً حياً للتصوير) على الصليب، ودق المسامير في أطرافه فعلاً، وصار يراقب كيف يتلوى ويموت.
***
صار الآن، بإمكاني، أن أطلق وبثقة مصطلح: “الموزارتيون والساليريون.
بالتأكيد: ليس كل الموزارتين، عباقرة، مثل موزارت، وليس كل الساليرين قتلة مجرمين، بالمعنى الحرفي للكلمة. لكن الساليرين إنْ لم يحملوا السم في جيوبهم، فإنهم يحملوه، في سلوكهم، وتصرفاتهم، وأفعالهم وأقوالهم، وخير ما ينطبق على الموزارتيين والساليرين هي مقالة الكبير ميخائيل نعيمة: “صغار النفوس وكبارها”:
((خير ما تمدح به أي إنسان قولك فيه إنه ذو نفس كبيرة، وشر ما تذم به أي إنسان قولك إنه ذو نفس صغيرة. ولولا كبار النفوس في الأرض لكانت جحيماً، ولولا صغار النفوس لكانت نعيماً. أولئك كالنحل، وهؤلاء كالذباب. فبينا تعيش النحلة مع الأزهار، ومن الأزهار، تعيش الذبابة في الأقذار ومن الأقذار النحلة تحمل البرء للسقيم. والذبابة تحمل السقم للبريء)).
أما ايفريم كارانفيلوف يقول: أعيروا انتباهكم إلى أن ساليري والساليرين في حلف مع المتسلطين، مع أولئك الذين يملكون القوة المادية والجبروت. إنهم في وحدة مع الأباطرة والملوك والأدواق والوزراء”.
لقد ذم بعض النقاد المؤيدين لساليري، أن موزارت لم يتخل عن صبيانيته، حتى مماته. فهو متلاف للمال، محب للخمور والنساء واللهو، إلخ. وهذا من وجهة نظري، غير صحيح، أقول: موزارت لم يتخل عن براءة الطفولة. فالعبقري، مهما يكبر يبقى في داخله طفل بريء. ربما طفل مشاغب، وربما طفل مرح.
موزارت كان يحب من قلبه وعقله. وإن توفر لديه المال، فهو ينثره يميناً وشمالاً على أصدقائه وجيبه مفتوح للجميع. كان يحب الحياة يحب الشمبانيا الفاخرة، والنبيذ المعتق، كان يحب الفكاهة، والطرافة كان باسماً أبداً، يحب الألبسة الجميلة الزاهية، والشعر المستعار. عاش بسيطاً متواضعاً، ومات فقيراً، ولم يكن يعرف أنه سيؤثر في القرن التاسع عشر والعشرين وأنه سيبقى خالداً طالما بقي عازف واحد.
الساليريون، حرفيون، معقدون منغلقون، لا يرون الفن هدفاً بل وسيلة.
وهم يسعون إلى مجدهم الأصم، يخدمون دائماً مصالهم أولاً وقبل كل شيء والفن ثانياً، أو يخدمون مصالحهم الشخصية من خلال الفن.
الساليريون، يمارسون التنظير، ويحيطون أنفسهم بنظريات حول الاقناع بقدسية الفن وطهارته.
الساليريون يبررون أفكارهم بحجة الدفاع عن الفن النظيف، والمحافظة على الفن الأصيل، (كما الحال، في مشهد العازف الشيخ الضرير) فيقتلون المواهب إن لم يكن بالسم، فعن طريق الإبعاد، والتهميش، والمنع، والإلغاء، أما الموزارتيون، فيمدون أيهديهم إلى الجميع، يريدون عن طريق الفن تخليص العالم من كل السفالات والدناءات كما قال موزارت آخر كلماته.
***
سيفرح ساليري بموت موزارت، لأنه يعتقد أن الساحة خلت له. ولأنه اختير لهذه المهمة، وسيعود إلى (كهان) الموسيقا، الأصنام، الذين يبحثون عن المجد المزيف والشهرة الجوفاء.
موزارت سيعود حياً، إلى أصدقائه. الذين يقدرون الإبداع الأصيل، سيعود إلى أصدقائه العازفين العميان، وإلى العازفين في الشوارع والحانات، وستصدح موسيقاه في كل الصالات الراقية أيضاً. التي تقدم الموسيقى الصافية، التي تنبض بروح الشعب الحيّة.
الساليريون، يلهثون إلى المجد الأصم المزيف، يلهثون إلى الشهرة، بأي ثمن الموزارتيون، لا يهمهم الموقع، المنصب، ولا يبحثون عن الشهرة.
كذلك، كان مبدع هذه التراجيديا، بوشكين، العبقري، فبوشكين وموزارت، هما توأما الفن الحقيقي، وكأن بوشكين كان يكتب مرثيته، وهو يعرف، إن الساليرين يتربصون به، في كل مكان: في البيت، والشارع، والبلاط، وقد قضى أيضاً، وانتهى إلى النهاية التراجيدية ذاتها، ولكن من غير سم.
وأختم بقول بوشكين:
لن أموت أبداً. ما دامت روحي في قيثارتي الحبيبة
وستنبعث رفاتي من تحت الرماد
سأظل ممجداً في هذا العالم
ما دام عليها مغنٍ واحد.
بلى!
العبقرية والشر لا يجتمعان..
كثيرون سيوافقون على ذلك. والبعض لن يوافق. وربما العكس. لأن بعضهم يعتقد أن الذي اخترع القنبلة الذرية، والبارود، والديناميت عباقرة. إلا أن مقصد بوشكين، يتجه باتجاه آخر. فالذرّة يمكن أن توظف لخدمة الإنسانية. كما الكهرباء والمكتشفات الطبية. وليس من يستخدم هذه “العبقريات” لتدمير الإنسان وما أنجزه. فالعبقري هو من يضع عبقريته في خدمة الإنسانية، وتحريرها من ربقِة الاستبداد، والظلم، والفقر، والقهر، وكل أشكال اضطهاد الإنسان.
وأجل!
العبقري، لا يقتل، ولا يحرق، ولا يدمّر، ولا يغدر. ومن هنا:
فالعبقرية والشر لا يجتمعان
تلا الفعالية مداخلات للسادة: (محمد حديفي، إبراهيم زعرور، نزار بريك هنيدي، سليم بركات، صبحي سعيد، عماد نداف، خليفة عموري غيرهم)..
#سفيربرس _ ماجدة البدر