إعلان
إعلان

رغيف الخبز يصنع مستقبل السّودان! . بقلم : الإعلاميّة د. عبير الحيّالي

سفيربرس_لندن

إعلان

“إذا قل الخبز أو حتى امتنع في الأسواق تتغير أحوال الناس”، هذا ما قاله جمال كمال محمود في كتابه “الخبز في مصر العثمانية”، فهل يستطيع هذا الرغيف أن يكون صمام الأمان في المجتمعات؟ وهل من الممكن أن يكون غيابه سبباً في انعدام الاستقرار السياسي والأمني؟ ثورات البطون الجائعة والخبز، ليست بظاهرة جديدة، وإنما هي موجودة منذ أقدم العصور. فقد خرج المصريون ثائرين على الملك بيبي الثاني في القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد بسبب الجوع والقحط والظلم، وربما كانت أول ثورة اجتماعية ضد الجوع. وكذلك كان الحال عندما تمادى النظام القيصري في روسيا في ظلمه وتجويعه للشعب؛ مما أدى إلى انفجار الثورة البلشفية في روسيا عام ١٩١٧م. وبسبب كلمة “الجوع” المخيفة انتهى العصر الملكي في فرنسا إلى الأبد بثورة تؤرخ نتائج الجوع على الشعوب. كل هذه الثورات وغيرها اشتركت في الأسباب فهي آلام البطون الخاوية المصحوبة بالشعور بالظلم والقهر الذي يتحول إلى هتافات جماعية لتأمين رغيف الخبز. فهل كان للخبز ذات المكانة والأهمية في الأزمة السودانية الجديدة؟

لم يتمكن السودان البلد الغني بالثروة النفطية من تقديم الحياة الكريمة لعامة الشعب، حيث انتشر الفساد الاقتصادي والسياسي تحت مظلة حكومة اتهمتها محكمة الجنايات الدولية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الإبادة الجماعية المتعلقة بنزاع دارفور ٢٠١٠. واعتمدت الحكومة في السودان، على سياسة الراعي والقطيع، حيث تعمل الحكومة وهي “الراعي” على اتخاذ القرارات التي تقدم القليل القليل من المأكل والمشرب للشعب، وهو ما يؤمّن عملياً حفظ الاستقرار العام، وإن كان هذا الاستقرار يعتبر زائفا تحت ظروف اجتماعية وتنموية واقتصادية وسياسية سيئة. هذه السياسة قدمت نوعاً من الحماية للحكومة في ظل موجات الاحتجاجات التي اجتاحت العالم العربي تحت مسمى “الربيع العربي”، واستطاعت فعلاً أن تنأى بالسودان عن الجو العام، والأهم من ذلك منعت الشعب من العمل على تغيير النظام أو حتى التفكير في إعادة بنائه. وهكذا ينام الراعي مطمئن البال على ممتلكاته وكرسي عرشه الذهبي.

هزت الاحتجاجات المناهضة للحكومة بين عشية وضحاها، ونتيجة لارتفاع أسعار الخبز والوقود وشح السيولة النقدية، مدينة عطبرة في ١٩ ديسمبر، ولكنها اتسعت بسرعة منذ ذلك الحين وصولاً إلى العاصمة الخرطوم، ومن الملفت للنظر أن مطالب المحتجين اتسعت أيضا مع اتساع رقعة الاحتجاجات وصولاً إلى الدعوة إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير وإسقاط النظام. والأمر البيّن هو أن الرئيس السوداني حاول تجنب الاضطرابات الكبرى لسنوات ونجح في ذلك إلى حد بعيد، ولكن ربما لا يستمر ذلك النجاح، فقد يكون هناك تغييرا وشيكا بانتظاره!!

من الناحية النظرية، فإنّ استمرار الحكومة على المدى الطويل يعني أن السودان كان أكثر أمناً من أي وقت مضى، ولكن من الناحية العملية لم يكن الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي هو السبب الأساسي لهذا البقاء الذي طال لثلاثة عقود، فقد نجح حكم النظام الإسلامي في البقاء بسبب الاستئصال المتقطع لقوى المعارضة، والتأثيرالجيوسياسي، والتعاون الأمني مع الولايات المتحدة الأمريكية. وربما كان رفع العقوبات الاقتصادية الأخيرة عن السودان بعد عقدين من الزمن، والوعود بإخراج السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب يشير إلى تعاون حقيقي بين الطرفين.

عندما أحاول تحليل أسباب هذه الهزة القوية “المفاجئة” التي أصابت السودان والنتائج المحتملة لها، يدور في ذهني مجموعة من الأسئلة، على سبيل المثال: هل من الممكن أن يخاطر شعب آخر في العالم العربي ويدخل عالم تجربة الثورات أو الفوضى بعد كل التجارب السابقة في المنطقة، بداية من التجربة التونسية ونهاية بالتجربة السورية؟ هل سنشهد تمزقاً آخر للسودان كالذي شهدناه عام ٢٠١١ وأدى إلى سيطرة الجنوبيين على آبار النفط؟ والسؤال الأهم !؟.

هل المعارضة السودانية مهيأة فعلاً لخوض مثل هذه الحروب الشرسة، أم سنشهد محرقة بشرية جديدة تحت مسمى الثورات، ورحيل الأنظمة؟.

في الحقيقة أن السودان كان عبارة عن قنبلة موقوتة، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، والاقتصاد المتدهور وسيطرة القسم الجنوبي على معظم آبار النفط بعد انفصاله عن شقيقه الشمالي، وعلى الرغم من رفع الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية عن السودان في الشهر العاشر من عام ٢٠١٧ إلا أن اقتصاده لم يستطع التعافي بعد خسارته لثلاثة أرباع إنتاجه النفطي بعد الانفصال. فالفقر الذي وصل إلى ٩٥٪، والبطالة التي وصلت إلى ٦٠٪، ومثله التضخم الذي وصل إلى مايقارب ٧٠٪ وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي الأخيرة كلها أسباب تدفع السودانيين إلى خوض هذه المغامرة، وربما إنه اليأس من تحسن الأداء الحكومي الذي وصل أسوء مراحله حيث نجد أن حصة الخدمات الصحية والتعليمية والإجتماعية مجتمعة لاتزيد عن ٥٪ من ميزانية الدولة، بينما تنفق الحكومة الحصة الأكبر من الميزانية على الأمن والسيادة.
هذا هو السبب المعلن لهذه الأزمة، أما السبب الآخر، فهو الأجندات السياسية المتضاربة، بعضها داخلي كالعمل الحثيث لأحزاب يسارية لخلخلة بنية الدولة والحزب الحاكم، وبعضها خارجي وربما أبرزها حركة عبد الواحد نور المتمردة، وهي ذات ارتباطات قوية باسرائيل وهناك بعض الإدعاءات عن مسؤوليتها في حرق المؤسسات. ومن الممكن هنا الإشارة إلى الأصابع الخفية التي لديها القدرة على تحويل الاحتجاجات السلميّة إلى حروب أهلية، ولايمكن هنا تجاهل الأحداث الأخيرة في المنطقة كالتوجه إلى إنهاء الأزمة السورية، وزيارة البشير إلى دمشق التي لم تتوضح أسبابها ونتائجها بعد ، والتي ربما لم تكن مرضية لأصحاب الأصابع الخفية !.

يقاتل السودانيون منذ عقود للحصول على حياة أفضل، فبعد انتهاء الحرب الأهلية في عام ٢٠٠٥، ظهرت صراعات أخرى وربما كان أبرزها وأكثرها تأثيراً على السودان هو دارفور. وكذلك في عام ٢٠١٣ شهدت البلاد احتجاجات بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور ونتج عنه ما لايقل عن ٢٠٠ قتيلاً. وفي عام ٢٠١٦، شهدت البلاد عصياناً مدنياً، والآن تترنح البلاد تحت ظروف قاسية ومستقبل مجهول، حيث أشارت منظمة العفو الدولية إلى مقتل ٣٧ مواطنا ولا نعرف إذا كانت هذه الأرقام مرشحة للزيادة. في ظل كل هذه الظروف الاقتصادية والسياسية والإجتماعية القاسية يجب التنبه إلى أن الأزمة السودانية الحالية من الممكن أن تعرّض السودان إلى تجزئة جديدة، وتدخل البلاد في محرقة حروب غير واضحة النتائج، وخصوصاً في غياب معارضة سياسية موحدة تستطيع أن تنقل البلاد من ضفة إلى أخرى بشكل آمن. هذا ماشهدناه عند عودة الصادق المهدي رئيس حزب الأمة المعارض من منفاه إلى العاصمة الخرطوم، وبالرغم من ترحيب حزب المؤتمر الحاكم به ودعوته إلى المشاركة في خوض الانتخابات المقررة عام ٢٠٢٠ وفي لجنة تشكيل الدستور، أظهرت المعارضة رفضاً شديداً لأي حوار مع الجانب الحكومي وهو أمر في غاية الخطورة، وكذلك تحالف نداء السودان، ومثله الجيش الذي لم يستطع أن يحدد لنفسه موقفاً واضحاً من الأزمة. إن مثل هذه المواقف المتشددة تؤدي إلى دخول السودان في حالة تصادم غير محمودة النتائج، وغالباً ستصب في مصلحة الحزب الحاكم والرئيس البشير إذا ماقرر الجيش أن يأخذ موقف الدفاع عن الحكومة.

في العالم “الجائع” حيث ترتبط الحرية برغيف الخبز، تستحق الأصوات أن تسمع، وتستحق الهتافات أن تجد الآذان الصاغية من قبل الحكومات. وفي نهاية المطاف، إن نتيجة أي ثورة أو احتجاج مرهونة بعدة نقاط، وأنا اعتقد أن أهمها هو المعارضة السياسية وطريقة تعاون جميع أطيافها، ومستوى التفاهمات بين فصائلها، هي التي توفر القاعدة الرئيسية للنجاح والفشل، وهذا غير متوفر في النموذج السوداني، بالإضافة إلى الإجراءات التي تتخذها الحكومة، وطريقة تعاملها مع الاحتجاجات، وكذلك تفاعل المجتمع الدولي ولو “إعلامياً”. كل هذه العناصر غير متوفرة في السودان حيث استطاعت الحكومة انتزاع بعض التأييد من محيطها العربي وخصوصاً الخليجي. وعلى الصعيد الدولي، أصبح البشير في الآونة الأخيرة أقل عزلة، حيث تنظر الحكومات الأوربية إلى السودان كشريك هام في وقف الهجرة إلى شواطئها، ومثلها الجانب الأمريكي حيث ظهرت علامات التعاون بينه وبين الحكومة السودانية. في ظل التركيبة الهشة للسودان وانتشار الكيانات المسلحة فالحل السلمي يكمن في الحوار الشفاف بين جميع الأطراف السياسية السودانية دون استثناء، والانفتاح الحكومي، ومخاطبة المطالب الشعبية وإعادة النظر بالسياسة الاقتصادية للسودان، كل هذه العوامل من الممكن أن تجنب الشعب السوداني ويلات الحروب ونتائجها وربما تؤدي إلى انتقال حكومي سلمي.

سفيربرس ـ بقلم : د . عبـــير الحــــيّالي
 باحثة في الإعلام الدولي لندن

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *