إعلان
إعلان

 جماعة الأربعة في عين عاصم الأمير

سفيربرس _أبوظبي

إعلان

طارت شهرة ( جماعة الأربعة ) التي ضمت ( الراحل محمد صبري ، فاخر محمد ، عاصم الأمير ، حسن عبود )، أبان الثمانينيات من القرن المنصرم ، يوم كانت بغداد ، ومدن العراق تعيش عقد عاصف جراء النزاع الدامي في الحرب العراقية الايرانية وتداعياتها المدمرة . سارت الجماعة في ظرف ملتبس ، لكنها رسمت زوايا نظر مختلفة لأقطاب جيل وجد نفسه دون إرادة منه في حرب لا معنى لها ، فيما أحيطت معارضها السنوية باهتمام عالٍ من الأوساط الفنية والثقافية ، قيل فيها الكثير واستطاعت بدأب أن تدون اسمها في خارطة المشهد التشكيلي العراقي يحف بها صدى واسع النطاق .
ثمانية معارض متواصلة ولم تزل كافية – فيما يبدو – لإطلاق أحلام جيل يسعى في الحفاظ على رمزية الفن العراقي ، الذي كان وسيبقى أحد أهم دعائم الريادة في التشكيل العربي الحديث .

الفنان التشكيلي عاصم الأمير

ما يثير في ( جماعة الأربعة ) أنها نمت واستطالت خارج رعاية المؤسسة الفنية التي كانت تلقي بشراكها لمن آثر الانقياد تبعاً لشرائع النظام الشمولي. لم يكن ميلاد الجماعة حينها بمحض المصادفة بأعضائها الذين دشنوا العقد الثمانيني خاضوا غمار الحرب والحصار والانقطاع عن الما حول ، لكن ذلك لم يزحزح تصميمها في المضي قدما بمشروعها التنويري بما يعيد الثقة بجيل الريادة الجديدة ، مع حزم في إشهار رسائل التحديث بأساليب هاجسها الجدل ، والافلات من حداثة النمط التي علا شأنها عند جيل الستينيات .
أربعة رسامين جمعهم مبدأ الاختلاف ، لكنهم آثروا الالتقاء عند منعطف التجديد ، كل قدر مستطاعه أشكالاً ومضامين وأساليب ، وهم ممن خرج تواً من مرجل الموت باحثين عن فضاءات جديدة منها نزعة التجريب والطفولة المستعادة والأسطورة الشعبية والغنائية .
مرَّ معرض الجماعة الأول بسلام عام ( 1981 ) في قاعة كولبنكيان في العاصمة بغداد تاركاً وراءه سيلاً من القراءات النقدية لمن هالهم ما يحدث في تجربة جيل يريد أن يقول شيئاً في خضم حوار الأساليب لأجيال أعطت ما يكفي من مظاهر نبوغ في التشكيل العراقي ، غير أن معارض الأربعة ازدادت رسوخاً مع الاحتفاء النقدي في ظل تراجع بريق الجماعات الفنية السابقة ، التي تركت عبر صولاتها الابداعية أوشاماً ظلت في عهدة التاريخ لحركة فنية مثلت قطب الرحى في مشروع الريادة العربية .
لعبت الجماعات الفنية في بحر الخمسينيات ، دوراً مؤثراً في تكريس حمى الحوار عبر الأساليب المستحدثة شكلاً ومضموناً ، يوم اجترح رياديو الفن العراقي مداخل رؤيوية تعمق مسار التواصل البصري في شتى أنساقه الأدائية .
مع مطلع الخمسينيات 1950 عرفت بغداد تأسيس جماعة الرواد بزعامة فائق حسن ، تلتها ( جماعة بغداد للفن الحديث ) عام 1951 ورائدها جواد سليم ، ثم ( جماعة الانطباعيين ) عام 1953 التي تبناها حافظ الدروبي . وكان أن أسهمت هذه الجماعات في إثراء المشهد التشكيلي العراقي مع تباين المرجعيات المفاهيمية والأدائية على السواء ، تاركة صداها على الجيل الستيني الذي خاض غمار المشاريع المشتركة أيضاً ، وكانت جماعة المجديدين عام 1965 وجماعة الرؤية الجديدة عام 1969 وسواهما الكثير ، التي ألهبت الحراك الأسلوبي في الفن العراقي ، وسط تعاظم موجة التجديد والبناء على مقاربات الهوية والأصالة .
أعود لأقول ، مثّلت ( جماعة الأربعة ) آخر القطاف في الحوار المشترك لفنانين درسوا الفن ودرسوه في كليات الفنون ومعاهدها ، غير أن خلفيتهم الأكاديمية لم تكن ذريعة للتغطية على فضاءات التجريب مما مثّل هاجساً ملحاً عرفت بها موجة رسومهم حين لم يكن مجدياً الطواف في الثيم الجمالية التي دارت عليها رحى الأساليب السابقة .
تحصنت الجماعة بما يكفي بمددها الفكري والتصويري بسبب من خصوصية الظرف العصيب الذي قاد خطاهم نحو تكريس نزعة تعبيرية ابتداءً ، بدت يومها مثيرة للاهتمام ، إذ لم تكن من قبل بهذا العنفوان والحضور المشع سوى تجارب متفرقة مهمة هنا أو هناك ، وهكذا خطفت الجماعة الأضواء في سياق بحثها المتصل عن زوايا نظر جمالية مفارقة ، تدعمها إرادات شخصية حافظت على أخلاقية الخطاب البصري مع تطوير للطرز الأسلوبية.
كتب شاكر حسن آل سعيد ( إنهم – أي الجماعة – يرمون الموضوعية لا الذاتية ، حين يرفضون النزعة الأسلوبية يؤكدون على المسؤولية التي يتحملها الفنان في عمله الفني لذاته وليس على ادعائه الذي يسبق هذا العمل ) . في المقابل كتب عادل كامل فيها ( أنها أدركت أهمية توحيد الصوت الواحد ، وخلق المناخ الذي تتقارب فيه وجهات النظر ، بل الأساليب الفنية ذاتها ، لا لعزل الرؤية الشخصية أو لدمجها ، بل التعبير عن مرحلة جديدة في الفن العراقي ) .
لقد نجت ( جماعة الأربعة ) من السباحة في المجهول ، وكانت مصادر بحثها ملهمة الى حد بعيد تبعها موجة من الرسامين لما بعد الثمانينيات في سياق رعاية المؤسسة الفنية هذه المرة بعنوان ( سلسلة تجارب جديدة ) ، وكان أن علا معهم صوت التعبيرية . منذ الثمانينيات وللآن تواصل ( جماعة الأربعة ) نشر مشروعها الجمالي ، قدر ما تتاح لها ظروف البلد غير الآمنة بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 في ظل تراجع المؤسسة الفنية ، وارتفاع صوت المحاصصة السياسية ، واتباع سياسة التقشف والعشوائية في إدارة شؤون البلاد .
لقد تيسر لأعضاء الجماعة مؤهلات علمية وخبرات فنية وضعتهم في دائرة الوعي الحداثي الذي سار بهديها الكثير ، غير أن رسوم الجماعة ظلت عصية على الهجانة ، وبدا أن مرجعياتهم الحضارية والثقافية كافية لتعيين بوصلة خطاباتهم البصرية ، وهي تلوح على الدوام بضرورة تحديث الأنظمة الرسومية لصالح حاجات جيل خرج سهواً من الحروب ، ومحافظاً على النسق الحضاري محيداً النزعة الابلاغية التي راجت مع مفاصل واسعة في الفن العراقي .
( جماعة الأربعة ) في معرضها هذا في فضاء ( كاليري عيون – ابو ظبي ) تعيد ترتيب أوراق الفن العراقي بعد انتكاسات عديدة طالت الفن العراقي في الصميم صياغة ومفاهيماً وآليات اشتغال .

الفنان فاخر محمد

فاخر محمد
رسام ذو وجهة استعادية ، تتواشج مرجعياته عند لحظة الاشتغال وتبدو كسبيكة كل شيء فيها ممكناً ، إذ لا كوابح تعيق حركة فرشاته فهي تعرف وجهتها أنى ساقها الشعور اللحظي ، حينئذ ليس مهماً ما الذي تخلفه ورائه من ارتدادات ، لأن مسارات الابداع تتخذ حركتها بيسر وتحت طائل ذهنية رسام يدير السطوح البصرية بلا مشقة .
فاخر محمد مجيد في تعامله مع الفضاء التصويري ، ويعرف ضروراته البنائية ، فهو ماهر في إحداث مبادلة بين الأدوار التي تلعبها الخطوط السارحة وهي ترسم مساراتها على جغرافية السطح التصويري والسطوح المجاورة إن كان لها حاجة بالشكل الذي يزيدها ألقاً فيما ألوانه تأخذ على عاتقها صناعة ايقاعها المرح ، والمحتدم ، وتبدو أكثر نضارة في التجانسات ، كما في التعارضات ، وحسب حاجة الفضاءات المتاحة لها .
هو رسام يعرف تماماً كيف يخاطب البصر ولا يريد لسطوحه الراقصة الاكتفاء بمهامها لانضاج التعالقات البنائية حسب ، فقد تخلف ورائها ثيماً ذات وجهة درامية لا تقوى شبكة الألوان من اخفائها . ثمة روح سرية يودعها الفنان عبر صياغات لاهية للخط الذي يؤدي مهمة حصر وتحديد الرواسم الخليقية أو المتخيلة والمجردة على السواء ، حيث تدور عليها لعبة الأشكال وكرنفالها عن طريق إحكام الأدوار للمساحات اللونية المبهجة التي تتطلع هي الأخرى لمواكبة الرؤية الى نهاياتها .
إنه حاذق في تدوين تصوراته في الفضاء المتاح له ، وليس مؤكداً أن تقوده ميوله الجمالية باتجاه التجريد الزخرفي المحض ، أو الى مناطق عارية من المعنى، فهو يعرف أن المعنى ليس كافياً لايصال الخطاب الى مغزاه الجمالي ، في المقابل قد تدفعه لذة الاشتباك مع السطح البصري الى استيلاد معاني قد لا تكون عفو الخاطر ، إنما بتصميم وحرية في رسم خرائط الأشكال وتماسها أو تراكبها مما يوفر فرصة سانحة لقول شيء ما ، توافقاً مع لحظة الشعور الآني .
بدأ ( فاخر محمد ) رساماً خليقياً تتجاذب كيانته في سياق وحدة الوجود ، لتأخذ مكانها في مسرحه الافتراضي المعد جيداً لونياً وإيقاعاً داخلياً وزحمة في العناصر المولدة لبعضها ، ثمة وعي جدلي يقود الرؤية لأن تستبدل وجهتها كيف ما تريد إرادة الرسام مما يوفر له طلاقة اقتراح أنماط اشتغال تتمدد على مساحة واسعة من الخليقية الى التعبيرية والزخرفية وصولاً الى الغنائية .
مساحة واسعة من المقاربات الأسلوبية هذه ، أسهمت في إبقاء لوحاته تنبض بالحيوية والطاقة الكامنة ، مع الاستعداد للتمدد على مناطق غير مأهولة في الرسم .

عاصم الأمير
منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي ومع تشكل ( جماعة الأربعة ) بدت رسومي متماهية مع نزعة تعبيرية بدت مهيأة لامتصاص زخم المشاعر على وقع طبول الحرب ، لاسيما وأن المشاهدات العيانية لضحاياها تضرب المخيلة بشدة وتقودها لتمثل الشناعات في محاولة لاقتراح لغة للرسم تصور الانسان منزوع الإرادة ، وفي مواجهة تراجيديا الموت المجاني والمؤجل على السواء .
لم تكن الرسوم الأولى تلك سوى طور من أطوار الوعي الجمالي ، فيما يمكن أن يفعله الرسم في استلهام الهواجس الإنسانية مع مظاهر الهلع والخوف من المجهول في بلد ما أن ترفع الأكف فيه لتثبيت السلام الداخلي ، حتى تأخذ به أيادٍ خفية الى الوراء في لعبة المصائر الخطرة . ثمة نشوى داخلية تركتها تلك الرسوم وهي تجهد في اقتراح لغة بصرية محمولة على تراجيديا عاصفة تلاها طيف من الرسوم صورت فيها الأحداث الداخلية والاضطرابات ، يومها كانت الأيام حالكة وتنذر بعواقب مع تصاعد قبضة الحصار وتسارع قوافل الضحايا .
كانت الرسوم حينئذ توائم بين الارتجال الحر مع نزعة شبه تصميمية لإعداد مشاهد جمالية لما يحدث ، مع بزوغ نزعة طفولية ممهدة ، ربما هي نوع من الهروب لإعادة اكتشاف الذات ، وممارسة الرسم تحت وقع الإحساس بالحرية المضاعة . وما تحتفظ به من زخم شعوري لابتكار رؤية لها صوت وصدى قوامها الاشتغال على روح الرسم غير المقيد ، واعتماد المرونة الأسلوبية باستحداث مداخل ومخارج أدائية مناسبة لأجواء الطفولة التي تدعم حرية التعامل مع التراكيب وأنظمة الرسم والفضاء المهيب ، حيث يبقى الخطاب طليقاً وقابلاً على احتمال التحولات المتوقعة ، مع ما يتركه الاحساس الآني خطوطاً وأشكالاً وتنويعات في الثيم المشتغل عليها التي رست عند ضفاف الذاكرة البعيدة ، لكنها تظل قابلة للاستدعاء من حين لآخر ، دون نسخ غير مبرر لما يفعله الأطفال ، إنما تحت طائل مشورة الإرادة الحرة ، ومحاولة تقريب صور ذهنية عن مشاهد ترفض الزوال ، واستثمار الغطاء التقني المناسب بما يؤهل الخطاب لأن يبدو أكثر سخاءً وعذوبة ، ويبقيه منفتحاً على تنويعات شكلية ومضمونية تهب اللوحة إحساساً عميقاً بنشوى الرسم .
رسومي لا تخفي مرجعياتها ، لكنها ليست أسيرة لها بالضرورة ، ثمة عناية لتجديد الأشكال بما يدفع بالخطاب لأن ينيب عنا مشاعراً وأحاسيس وتلاوين جمالية تفرزها عوالم الطفولة التي تمثل لي خزاناً جمالياً لا ينضب ، والابقاء على المخيلة مستنفرة تلامس هواجس التجريب الدائم .

الفنان حسن عبود

حسن عبود
عرف الوسط الفني في العراق رسوم ( حسن عبود ) مطلع الثمانيات ، كأحد أبرع ممن زاوج بين الرسم والكرافيك في محاولة لترصين ضرورات المشهدية الرسومية ، واطلاق العنان لمخيلة رسام بدأ غنائياً ، ولم يزل ، يوم كان فن الكرافيك ضئيل التداول في المحافل التشكيلية مع شح في أساتيذه الرعاة ، لكن حسن عبود كان يبذل قصارى جهده لإيصال أسرار رسائله الجمالية عبر موحيات هذا الفن مظهراً براعة لا يمكن تجاهلها بسهولة .
يومها كانت رسومه تحمل طابع الأستذة في إدارة شؤون الخطاب ومداليله الثاوية التي أبقته عند تخوم الشعرية ، لاسيما وأن المرأة مثّلت لديه الثيمة المركزية التي تدور عليها رحى الأداء التشكيلي ، إنه صانع لحظات تشكيلية تشع بوهج العاطفة عبر عوالم الأنوثة ووحداته التي تستثمر في الوجدان كما في النوافذ نصف المضاءه ، والأكف الراعشة في الظلمة ، والستائر ، وإكسسوارات تجد مكانها باحترافية ، وأجساد أنوثية تسبح في شهوانيتها .
أجواء حلمية كهذه كانت كافية – فيما يبدو – لأن يستجمع من خلالها مصادر إلهامه ، ويزج بها في فضاء اللوحة ، تحت وقع ذات تعرف وجهتها جيداً، وهو الفنان المجيد في اقتراح تراكيبه البصرية المغمورة في العتمة وسط اهتمام في جعل المساحات الواسعة تلهب تفاصيله الصغيرة جاعلة منها علامات لافتة للنظر مانحة أجوائه مسحة رومانسية تضرب على مهل فضاءاته الأخاذة .
ثمة غلالة من الشجن تلف مشاهده ، هي بعض مما أوحت له مناخات الحروب في مقابل تدفق مشاعره السيالة وخياراته الإنسانية التي عادة ما تنتصر للحرية وكرامة الإنسان ونبذ الكراهية مع سيطرة في تضييق الخناق على مظاهر الهتاف في مشاهده ، حيث يبدو كل شيء معداً على وفق رؤية تمزق كل التواريخ مبقية على رواسم الحرية والسلام الداخلي والمشاعر الجياشة .
حسن عبود رسام حالم بامتياز ، شعريته في الأداء قادته لأن يجترح رؤية هي الأكثر بلاغة في التعبير عن حزمة مشاعر غاطسة في اللاوعي لا يريد لها أن تبقى حبيسة جدران الذاكرة التي مزقتها ثقافة التخاصم والعزل .
حين دفعته ظروفه الى المهجر ظل حسن عبود وفياً لاطلاق شرارة الايمان بالفن ، متخذاً شكل معرفة بصرية مترعة بشفافية التخاطب ، واحترافية في فهم دوافع مبدع باحث عن المراثي ، دون أن يدفعه ذلك الى الصراخ . في أعماله الأخير ثمة نزعة نستولوجية مثلت مصدراً من مصادر إلهامه الفردي ولها حضورها الكثيف ، لكن ثمة استعداد لجذب كل مصادر الجمال التي تجعل من رسومه ساعية لحياة بديلة يكون الانسان فيها مشدوداً لأحلامه .

محمود شبر
ضيف الشرف في معرض الجماعة التاسع هذا . رسام ذو خيال وفير انخرط في حركة التشكيل العراقي مبكراً ، وكانت أصداء رسومه تسبقه عبر معارض شخصية ومشتركة زادت من حضوره النوعي جعلت منه في واجهة الرسم العراقي .
محمود شبر منذ اطلاقه لمشروعه الفني في تسعينيات القرن الماضي بدا لافتاً للانتباه ، مبدع حاذق يتحرك في فضاءات أريد لها أن تكون مفارقة ، صياغات ، وموضوعات ، ووسائط . طاقته الداخلية المحركة تنسيه لوازم الحفظ الذي درجت عليه تجارب عدة في المشهد التشكيلي العراقي على أهميتها ، قادت الكثير الى أنفاق لا ضوء في نهايتها .
لحظة نفي الخوف هذه دفعته في أن يجول في عوالم الرسم الجديد يراها متنفساً ومنها وبها يعيد اكتشاف ذاته بلا هوادة ، لم يكن الرسم لديه محض تراكمية وخبرة مجردة ، وبناء أسلوبي متدرج ، فالبحث عن الجديد عنده كافٍ لأن يجلب معه صدمات ضرورية تفتح أبواب الشك ، كلما بدا ذلك ممكناً له وللمتلقي على السواء . بدا تجريدياً زاهداً في تراكيبه التي تبدو كمصفوفات متراكبة ذات جرس ثمالي على الأرجح تنشئ عوالم في أماكن غير منظورة ، لكنها تنم عن طاقة أشد ثباتاً وأمضى سطوعاً .
رسومه الأولى تلك قدمته مبدعاً يكافح بدأب بحثاً عن لغة بصرية تضعه في الضفة الأخرى مما هو متداول ، بالشكل الذي يسمح لخياله لأن يبقى مستنفراً ومستعداً للتمرد في كل صولة جمالية تزيح عنا رؤيتنا التقليدية لفن الرسم بوصفه حقلاً افتراضياً لهندسة المشاعر ، تديره ذات هلعة وجدلية .
بدا محمود شبر ومنذ بواكير شغفه بالرسم أكثر استعداداً للانسلال من وصايا الدرس الأكاديمي رغم براعته فيه مقترحاً زوايا نظر جمالية جديدة تمنحه الفرصة على الدوام من الافلات مما هو متوارث في عالم الأساليب ، محيداً هواجس التردد التي تنثر شباكها عادة على التجارب الخاوية من روح المغامرة .
أعماله بوصف عام أظهرته رساماً حراً يعرف أين يضع خياله ، وكيف يدير صنعة الفن ولغته بمعونة خزان رمزي ووعي متراكم ومرجعيات يستل منها ما هو قابل للإثارة على الدوام ، ومنها الحروب والاستبداد والشهادة والمحكي الشعبي ، والمدون الأدبي ، وعلامات المرور ، وما سواها التي تمثل بمجموعها قاموساً لغوياً يصب في صالح الجمال الجديد ، والرسم الذي يعود بنا الى ما يفعله المغامرون عادة .
محمود شبر رسام إحيائي بامتياز ، ليس بصيغة الانكار لخزانه الثقافي ، إنما لإدراكه مغزى أن يكون الرسم شيئاً مفارقاً ومدهشاً ، وقابلاً على الحركة بلا كوابح أو أغلال أياً كان مصدرها . حين ضاقت به السبل في وطن فشل في جمع أبنائه غادر الى لبنان ليعيد مرة أخرى توازنه الفني ، لكن بصيغة الاجتياح هذه المرة ، وكانت تجاربه التي منها علامات المرور ، إضافة لا تنسى في مسار تجربة متوثبة مؤرخاً فيها للخراب تحت وقع الاحتلال الأمريكي وموجاته الارتدادية المدمرة .

سفيربرس _عاصم الأمير _أبوظبي

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *