إعلان
إعلان

أحزان مستعارة…بقلم دلال ابراهيم

#سفير برس

إعلان

أكثر ما كان يشاق عليّ خلال فترة معينة خلت من عمري هو واجب تقديم العزاء, فقد كان يعتريني خوف ورهبة فظيعين, كنت أتخيل أهل المتوفي باكين مكلومين وصوت العويل والنشيج يملأ المكان ويرتجف قلبي من فكرة كيف عليّ أن أذهب دون أن استحضر ملامح المواساة؟؟

فوراً أخلع كل زينتي, انتقي من خزانتي أكثر الثياب سواداً, استغني عن الكعب العالي, حتى لو اضطررت أن استعير من إحداهن, امسح الكحل عن عيناي حتى لا يفضحني بريق عيني وحزني المستعار, أعقص شعري إلى الوراء كيفما كان وطبعاً لا بد أن أعقد الحاجبين وأسدل الجفنين, وعلى تلك الشاكلة كنت اعتقد أنني تلبست دور الحزينة المواسية.

كنت أخاف أن أذهب وحدي فلا أذهب إلا بصحبة والدتي ومن لف لفيفها أو جمع من صديقاتي, قريباتي أو جاراتي, وحبذا لو كان عديدنا كبيراً, لربما تشتت انتباههم عني ولا يلاحظوا تصنعي الحزن. اتحاشى أن أذهب خلال اليومين الأولين. فقد كنت اصر على اختيار الوقت والذي اعتقد فيه أن الحزن قد خف وبردت لوعته نوعا ما, فأنا أكره الدموع وأكره أن أرى بكاء النساء وأكره الفقد.

وعلى الرغم من ذلك كانت تنقلب الأمور عندي إلى ضدها, فتراني أمسك نفسي عن شيطان الضحك الذي يدغدغني في حضرة الموت, من مجرد مشهد صغير أو كلمة تقال وربما كانت لن تستدعي ضحكتي في حالاتي العادية بعيداً عن أجواء الحزن. ربما هي ردة فعل وضغوط نفسية , خصوصاً بعد ما عرفت أنها تصيب غيري أيضاً. ونحن صغار دأبت والدتي على اصطحابنا إلى الضيعة خلال فترة الصيف لكي نمارس فيها شقاوتنا على راحتنا, وحينما نسمع خبر وفاة في الضيعة نكون أول المتوافدين أنا وقريباتي وصديقاتي إلى منزل المتوفي/ة. أجواء الحزن وأصوات الصراخ والعويل واللطم واغماءات بعضهن لم تكن كلها تثنينا عن الضحك على موقف صغير أو مشهد احداهن بمجرد التقت أعيننا مع بعض وعلى الفور ننسحب ونحن نغطي نصف وجهنا السفلي بأيدينا نداري ضحكتنا قبل أن يلاحظ علينا أحد ويطردنا.

جاءت أعوامنا العجاف, ومعها كل أصناف الموت والخوف والأحزان, رأينا الموت بعدة أشكال لم نكن نتخيلها, فجربت الحزن بعدة طرق, تفنن الفقد في زرع نفسه في طريقي, حتى أنه نضج تماماً لا يحتاج مني جهداً لأشعل تحته النار لاستحضره في المناسبات..

أما اليوم ما عدت أرى أنه يتعين أن أخلع زينتي, ولا أن أرتدي الأسود, فالحزن لم يعد أسوداً لقد صار بالألوان, ولا بأس لو ذهبت انتعل حذاء عال, ولا ضرورة أن استحضر الدموع ومظاهر الحزن, أدخل منزل العزاء وكلي ثقة, دون أن أعقد حاجبي ولا أسدل جٌفني ودون صحبة أحد ولا يرجف قلبي من دموع أهل الفقيد..

لا بأس ربما نضجت, أو أني اكتشفت أن الجميع مثلي يذهبون بدموع مصطنعة, ما عدا أهل المتوفي..

ولربما وهو السبب المرجح لديّ

أنه وبينما يذهب الجميع ليشتري له حزناً يلبسه

أنا حزني الآن يذهب معي, فلا داعي لأن آتي بحزن مستعار..

#سفير برس- دلال ابراهيم 

إعلان
إعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *