إعلان
إعلان

على صــوت نبــضه.. لـ رنا العسلي ـ بقلم : ماجدة البدر

#سفيربرس

إعلان

“إننا نعيش، زمن الرواية حيث يطبع هذا الجنس الأدبي ويوزع ويقبل على كتابته الأدباء ، وفق نسب عالية قياساً إلى الأجناس الأدبية الأخرى وخصوصاً القصة القصيرة والشعر. ولئن كان الشعر، ولقرون مضت، (ديوان العرب)، فإن الرواية راحت تنتزع هذه الصفة من الشعر لتكون هي (ديوان العرب في العصر الحديث). [في زمن الرواية – جابر عصفور].
العمل الأدبي الجيد والصادق والمشغول بحرفية عالية، وثقافة أصيلة، يستحق من القارئ والناقد وقفةً مطولة تضيء مواطن الجمال فيه، فهناك الكثير من الروايات الجميلة التي لم تحظَّ بالاهتمام الَّذي يستحقه الجهد المبذول من قبل كاتبها. وهي في النهاية نص جميل يخاطب الروح والوجدان والعواطف بحرفية عالية، والأديب الجيد هو الَّذي يقوم بمراجعة نصه وتنقيحه وترميم ثغراته، ليصل إلى المستوى الفني الأفضل.
رنا العسلي، من مواليد مدينة حلب الشهباء 1978، وكلنا نعرف تاريخ مدينة حلب عاصمة الثقافة والأدب والفنون وما قدمته من أدباء وشعراء وكتاب ومثقفين.. خريجة كلية التربية، دخلت مضمار الأدب من خلال القصة القصيرة، والتي استطاعت من خلالها أن تحوز على المرتبة الثانية بمهرجان همسة الدولي في مصر، عن القصة القصيرة، لها العديد من المؤلفات: [رسائل لم يقرأها آدم – نثر، على شفاه الوجد – نثر، مسكونة بك – رواية، سنين المخاض.. رواية] تطل علينا بإصدار عمل فني جديد (شعر، ورواية) وهو يحمل العنوان نفسه: (على وقع نبضه)..
***
“كانت يداها لا زالت هناك، تحاكي نبضه المجنون، تمسك الضربات المتسارعة، دون أن تجرؤ على الاقتراب أكثر فحرارة الشوق أحاطت مكان وقوفهما حتى لفحتهما بالدفء، شدها إليه، ووضع رأسها على قلبه.. اسمعي .. اسمعي انتظرك هذا القلب طويلاً…”… أسرى بحروفه داخل مسامها الخائفة، فسكنت على صوت نبضه المشتاق بطريقة غريبة جداً”
**
تبدأ الرواية بالحديث عن الوقت المرهق على جدران غرفة ميلاد، طبيب التجميل المشهور الذي تقصده النساء الثريات من كل الأنحاء، ليرممن ما أتلفه الزمن على وجوههن، فيقوم هذا المختص بتصميم لوحة جميلة متناسقة، لم يستطع ميلاد طبيب التجميل البارع في مهنته والذي ملأت شهرته الآفاق أن يرسم الابتسامة الجميلة الممتنة على وجه زوجته لما قدمه لها من سعادة ونعم أو أن يغير شيئاً من تفاصيل هذا الوجه… حتى إنَّه كان يشعر أنَّ الزمن اقتصَّ منه بأن وهبه زوجة تحب النكد والمال، وتفتقد حبّ الحياة والمشاركة والقلب الَّذي يحتوي الحب والروح، حبها أعمى بصره وبصيرته، فهي لوحة فائقة الجمال، وقع في براثنها بكل سهولة، تزوجها، متغاضياً عن عيوبها، وماضيها الَّذي لم يبحث عنه أو يعرف عنه شيئاً، وأنانيتها، وقذارتها، وخيانتها. أجهضت حلمه المنتظر في إنجاب طفل ينسيه حزنه ويجد فيه الحب الَّذي افتقده في قلبها. غادر منزل الزوجية، ينشد السلوان في مرتع طفولته، بيته القديم، وسريره الخشبي سرير البراءة والطفولة، لينسى الهم والحزن الَّذين خيَّما على قلبه.. تقتل زوجته، ويُتهم بقتلها، ويُسجن لفترة قصيرة، ولكنه يُبرأ ويخرج من السجن، بمساعدة ممرضته لين وشقيقه منير، الذي عارض زواجه من سمر. غادر حياة الرخاء والمال والبيت الفخم والفراش الوثير، يشارك المتشردين رصيفهم، وبردهم وشقاءهم، ويستمع إلى قصصهم، فتقوده الأقدار، لفلاحة فقيرة، يصطدم بها من دون قصد، ويفسد لها بضاعتها، تلحق به، وتشاركه طعامه، وتهبه نفسها بعد أن تقنعه بأنَّها تمارس العهر منذ زمن، وقد اعتادت على ذلك، وتغادره مخلفة في قلبه فراغاً كبيراً، وأسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة، لقد أعادت المال الَّذي أعطاها إياه تعويضاً عن الجبن والحليب وما أفسده لها حين اصطدم بها، مما أثار استغرابه أكثر أنها لم تكن عاهرة، كما زعمت بل كانت عذراء.. شغل هذا الأمر تفكيره فقرر البحث عنها.. بينما منير ولين يغرقان في قصة حب لطيفة، يتزوجان ويغادران البلد، بعد أن يعترف منير لشقيقه بقتل سمر الَّتي ابتزته بأفلام وصور قديمة وقررت فضحه إذا لم يمارس معها الرذيلة. تمضي أحداث القصة على صوت نبض يبحث عن الحب في شخصية ميرنا تلك الفتاة النبيلة الَّتي التقاها في تشرده، وتزوجها على الرغم من اختلاف عقيدتهما.. ميرنا تؤمن بالحلم لحل أمورها، فيقوده الحلم أيضاً إلى معرفة والدته الحقيقية، عند ذلك يعرف سرَّ اهتمام والديه به أكثر من شقيقه..
الرواية تسير وفق خط بياني : [ميلاد، ندمه على الزواج، اكتشافه خيانة زوجته وإجهاضها، مقتل الزوجة، اتهامه بالقتل، سجنه، ظهور لين في حياته، الصداقة البريئة الَّتي ربطت بينهما، عودة الشقيق، براءة ميلاد، التشرد والمعاناة ومقاسمة الآخرين همومهم، ظهور ميرنا في حياته من خلال الصدقة، البحث عن ميرنا، الزواج، الأحلام والكوابيس الَّتي أرّقت علاقتها معاً، ثم تنفك خيوط الرواية عن نهاية سعيدة)..
الشخصيات:
استطاعت الكاتبة بحرفية عالية التعامل مع الشخصيات، والسير معها في مراحل حياتها كلها، على الرغم من اختلاف الأفكار، والمبادئ الَّتي تؤمن بها كل شخصية، فالشخصية عند رنا لها حياتها الخاصة، وتفكيرها، وهي تتحرك في مضمار ذلك بكل حرية معربة عن حبها أو خيانتها أو عهرها أو صدقها، وهي الَّتي تختار مصيرها وطريقة حياتها.
شخصية ميلاد
الطبيب المحبوب والمفضل من قبل الأب والأم، والأصدقاء، والمرضى، شخصية طيبة جداً ولطيفة، يتمتع بإنسانية عالية النظير، لم يحمل بحياته العداء لأحد، ولم يذكر أنه وجه لكمة لوجه أحدهم، حتى حين كان طفلاً، اعتاد حلّ أموره باللين والهدوء والمحاورة، شارك الفقراء والمشردين آلامهم، وفقرهم، وكان يساعدهم، يولي الحياة الزوجية التقديس والإكبار والاحترام، لم تخلُّ حياته قبل الزواج من بعض النزوات، اهتمامه الأول والأخير عمله وإرضاء زوجته الساخطة الناكرة للجميل، والتي كانت تقابله دائماً بالازدراء والتعالي. آلمته خيانتها، حاول أن يجعل من حياتهما مهداً لمستقبل جميل، يعدُّ الالتزام والصدق هما الرجولة بحدّ ذاتها…محباً للمعرفة ولمن يحاول الحصول عليها.. زاهد في متاع الحياة، خيانة سمر جعلت منه شخصاً جدياً قاسي الملامح، ولكن ظهور ميرنا وقلبها المحب أعاد الحب إلى قلبه، لينشأ أسرة يسودها الحب والتفاهم.
شخصية سمر:
أنثى بلغة الغواية، نكدية، تحب المال، تهتم بجمالها اهتماماً كبيراً، أنانية، متعالية، تشبه الطقس بتقلباته، بهيجانه، ببروده..لا تولي الحياة الزوجية أية أهمية أو قدسية، تمارس العهر مقابل المال، لم تكن سمر سيدة منزل، ولا حبيبة، كانت أنثى تتقد جنوناً ودفئاً، لا تشبه أي أنثى، رغم جنونها، تخفي ألماً في داخلها، تمتلئ بالحقد والكره، يسيطر الغضب عليها دائماً، مزاجية بشكل لا يطاق. دلعها المشين أحياناً كثيرة، ونظرات المعجبين الذين تبادلهم الاهتمام المختبئ تحت نظرات التعالي، كان مصدر إحراج لزوجها الَّذي يحبها، ويولي الحياة الزوجية التقديس والإخلاص والالتزام.. باردة، عديمة الاهتمام بكل شيء، كان زواجها من ميلاد مشروع انتقام من شقيقه منير الَّذي ربطتها به علاقة جنسية في الماضي،ـ والذي رفض الانصياع لرغباتها في النهاية، مما أدى إلى إقدامها على الزواج من أخيه انتقاماً منه على الرغم من معرفتها لمشاعر الحب الَّتي يكنها لها..
لم تستطع رفاهية الحياة الزوجية، ولا دفئها أن تغير من العهر الكامن في داخلها، فانغمست في حياتها الماجنة، مستخدمة الانترنت ومراسلة الصفحات الإباحية، والمشبوهة لعيش حياة لا ترغب بمغادرتها.. زوجة غير مبالية، ولدت من أم تعمل (مومساً)، وأب لا تعلم هويته، اعتادت تحرّش الكبار بها، بل والنساء أيضاً، فصارت حياتها كقوقعة شبيهة بتلك البارات، بل وتلذَّذت بمتعها حتى فاقت الحاجة، أدمنت تعاطي الكحول والجنس واستمتعت بالشذوذ حدّ الترف الجميل، أعجب بها تاجر من دولة مجاورة مشهور جداً، وله صيت في كل أنحاء المنطقة، فأخذها معه إلى بلده سعياً بالغنيمة الَّتي حصل عليها، علمها أصول الاتيكيت وارتياد الصالونات الفخمة، علّمها أصول العطاء الَّذي تتقاضى عليه أجراً، وكيف تكون عصية على من لا ترغب إلاَّ بماله، علمها كيف تأخذ ولا تعطي إلاَّ بمزاجها، ربح من عملها الكثير، وربحت منه أكثر، كانت تمتدّ على جسد تلك الحياة كالأفعى، تتعلم بسرعة حتى أصبحت الملكة في ذلك المكان، كان ذلك التاجر يتأمّل إنجازه كلّ يوم بمزيج من الرغبة الَّتي لم يخفيها عنها يوماً، فصارت خليلته في كلّ الليالي حتى إنَّ الغيرة باتت تأكله من كلّ من يقترب منها، فانقلب السحر على الساحر في حياة ملكها المجون بكلّ تفاصيلها، رغب بالزواج منها، ولكنَّ رفضها للتخلي عن تلك الحياة الشاذة، دفعها للهرب بماله، عادت في ليلةٍ هادئة بشكل سري إلى بلدها، تحمل ثروة كبيرة، كثيرة هي الإشاعات الَّتي طالت غيابها المفاجئ، وخصوصاً بعد موت التاجر بجلطة دماغية مفاجئة.
كانت سمر ذكية متمرسة تمنح من ترضى عنه أكثر لحظاته سعادةً ولذة. (ص90) الوضع الَّذي كانت فيه سمر، كان أشبه بمرض وجنون وانفصام غريب، فتارةً تراها معجبة بالفتيات، وتارة بالرجال. حبها للعهر، وتصميمها على المضي في هذا الطريق، أنهى حياتها على يد منير شقيق الزوج، بعد رفضه الانصياع لرغباتها احتراماً لعلاقتها الزوجية مع شقيقه.
لين
لين ممرضة مساعدة، تدرس الطب، وتعمل كي تساعد أهلها كحال الكثير من أبناء الطبقة الفقيرة في سورية، فتاة عشرينية ناعمة الجسد، تفاصيلها صغيرة بكلّ ما فيها، عاركت الحياة، رغم صغر سنها، من خلال التجارب الَّتي مرَّت بعائلتها والاستماع إلى حديث السيدات اللواتي يسترسلن في العيادة، أعطاها خبرةً جيدةً في الكشف عن الكثير المختبئ في النفوس، حكيمة، طيبة، تستطيع أن تحلَّ كل الأمور والمشاكل الَّتي تمرُّ بها بعقلانية.. كانت مخلصة لعملها، تكن لميلاد الاحترام والود، ربطت بينهما عرى صداقة قوية، على الرغم من فارق السن بينهما، فهو رجل سيصل الأربعين قريباً- وهي فتاة تنهي سنتها الأخيرة في دنيا الطب، في أحاديثهما مودة من عرفا بعضهما لفترة طويلة من الزمن، استطاعت أن تؤدي دورها كصديقة حنونة، ورقيقة، ساعدته على تجاوز جميع المحن الَّتي مرَّ بها، وفي النهاية، ساعدته للوصول إلى حبّ حياته، بينما قام ميلاد بترميم علاقتها مع شقيقه، والتي أثمرت عن زواج ناجح..
منير
شخصية غامضة، لطيفة، هو الابن الأول لعائلة مسيحية، يملك بشرة بيضاء لحدٍّ كبير، وعينين زرقاوين، ورغم جاذبيته الكبيرة، إلا أن أغلب النساء كنّ يملن إلى سمرة ميلاد الخفيفة، ويرونها جاذب أكبر من أخيه، ربما شعر ميلاد بالغيرة من حرص أهله الزائد عليه بينما تركوا كلّ الحرية لمنير ، وربما شعر منير بالمثل بسبب اهتمام الأهل بميلاد وحده وخوفهم عليه.
عاش حياته حراً، كانت الغيرة من اهتمام الأب والأم بميلاد، تظهر بشكل لا شعوري في تصرفاته، وجنونه، وشجاراته في الحارة، نظراته لميلاد لا تخلو من الغيرة والحب معاً.
منير شخص صنعته الظروف، ولم يصنع نفسه، عارك الكثير من أنواع العمل والتجارة، ولم يعلم أحد عنه شيئاً بعد سفره الأمر الَّذي أخفاه منير كل تلك الفترة، وهذا ما جعل بينه وبين الكثيرين فراغاً كبيراً..
ربطته بسمر علاقة مشبوهة، وصار طوع أمرها، تعلقه الشديد بها، جعله يمارس أسوأ أنواع العهر، وهو ممارسة الجنس مع فتيات تحضرهن له، وتقوم بتصويره، والمكافأة أنه سيحصل عليها كهدية ثمينة، وستسعده، وحين كان ينتهي منهن، ويخرج إلى سمر يجدها في حالة شهوانية لا تقاوم، كانت تنقض عليه كفريسة فتغطيه أجمل لياليه سعادة، مما جعله يبدع في إرضائها كل الوقت. ذلك الرجل الكامن في منير كان مذهولاً بما تقدمه له في كل مرة. غير أن منير كان يحافظ على عذرية الفتيات اللواتي تحضرهن له سمر، وتغيب في حالة لم يفهمها.
شخصيةميرنا:
ميرنا النقية الطيبة، وهي الشخصية الَّتي تحمل الصفات النقيضة تماماً لشخصية سمر، الزوجة الأولى، عيناها لوزيتان أنفها جميل، وثغرها ممتلئ ، أتقن الله في صنعها، حيرته ملامحها. يسترسل شعرها على وجنتيها بشكل عبثي، تلوح للشمس بلا آثار لمكياح ولا مساحيق تجميل ولا ألوان، تعترض الحياة بقوة كي تثبت لنفسها قبل أي إنسان آخر أنها على حق، هربت من عقائد عائلتها وضيعتها واختفت في المدينة، توفي والدها الَّذي كان سندها الوحيد في أفكارها، لتصبح تحت رحمة العقائد والعادات والتقاليد. تاهت في دمشق، وتعرضت لأقسى أنواع الذل والتحرش، ولكنها حافظت على كيانها وأكملت بصعوبة، عملت في فندق مهم في دمشق، واختفت بين جدران مطبخه، وهي سعيدة بهذا المكان الَّذي يبعدها عن الشارع وظلمه، لم تصل للعنوان الَّذي دلّتها عليه والدتها، وأضاعت المال، وأضاعت المكان حين وفقت إلى العمل في هذا الفندق. درست الفنون وكانت كغيرها من الطالبات المتقدات بالحماسة والحياة. مضت سنوات الدراسة، وتخرجت دون أن تقترب من صديقة إلى حد الحميمية، خوفاً من أن يصل إليها أحد من قريتها عن طريق أية معرفة، خافت من قدرتها على الإحساس بالأشياء الَّتي لا تمتّ لها بصلة، حاولت كثيراً أن تسأل عن سر هذا الإحساس في داخلها، واجهت الشارع وقساوة الحياة مع الناس، بلا عائلة، مضغت الحياة بلا أصل أو نسب معلوم لمحيطها، بحثت عن وظيفة دون نتيجة، فالوظيفة تحتاج إلى مؤهلات لا تمت إلى الشهادة الجامعية بصلة، فحقنت أوجاعها بمخدر الوقت، وأكملت في مطبخ الفندق، حب ابن صاحب الفندق لها، دفع بوالده بإيقاعها بمكيدة حقيرة، مما دفعها إلى ترك العمل في هذا الفندق, فلجأت لهذه السيدة، تبيع معها منتجات الحليب والألبان ومشتقاتهما، انتحلت شخصيتين متناقضتين في جميع ملامحهما، الفتاة المثّقفة في النهار، والعاملة القروية بقية اليوم وفي العطل، جذبها ميلاد النائم على صقيع الحياة، انبثق من قلبها وميض تجهله، فاقتربت منه راضية، مؤمنة بقدرها وما يوحيه لها من إيماء: [ستستغرب إن أخبرتك أن نوراً أوحى إلي أن أمنحك نفسي] ص115
(كان صوتاً محموماً ، لهاثه في أذني، ضاق صدري وأنا أقترب من المنزل المهجور، لكني لم أخف، همس من جديد… تابعت.. نفضت أذني لأكثر من مرة علني أبعد هذا الصوت، …. ومض نور رافقني إليك، أراح فؤادي، همس الصوت من جديد.. خذيه.. صحيح أنك أوقعت مابين يدي يومها، لكني شعرت بأن الصوت داخلي يكبر..)(ص116)
أوهمته أنها فتاة بائعة هوى، أعطته بصدق ما خبأته رغم مرارة الظروف، والتحرّش الَّذي كانت تتعرّض له باستمرار، وإصرارها على أن تكون لمن يميل له قلبها وتكسب من كدها وتعبها في الحياة، أبت أن تعطي إلا للحب ولقلبها الَّذي نبض بشدة حين التقاه. تزوجته بعد العديد من المراحل الَّتي مرت بها، ومرَّ بها في رحلة البحث عنها، وتحولت من قروية ضعيفة، إلى سيدة مجتمع مثقفة متحدثة بأكثر من لغة.
الزمان:
الزمان في الرواية شخصية منفردة، له الصفات الإنسانية كلها يتشارك فيها مع الشخصيات، فهو مرهق (تأمّل الوقت المرهق على جدران غرفته) (ص9)، طويل (مرَّ الوقت طويلاً)، (ص65)، مقيت: (اتحدا تحت عمامة الصبر، والوقت المقيت)، (ص134)، ثم يترك أثراً (يترك للزمان لحظة فاصلة، تخبر الأشياء عن مروره)، (ص 25)، يتحول الوجع إلى حصان يُمتطى، ومطر ينهمر في ثقوب الوقت: (قبل أن (يمتطي وجعه انهمر في ثقوب الوقت)، (ص67)، الضمير الحي للضمير صوتٌ خانق، يذيب الشهيق على حافة الحياة، هو يستيقظ كلّ الوقت وينقر بأصابعه على نافذة الوقت)، (ص147)، يلتهم: (التهمه الوقت)،(ص9).. يمضغ: (مضغت دقائق تعارفهما السريعة بإحساس عالٍ)، (ص66)، يقضم،(وقضم جفاف الوقت، وصمتٌ خلف زجاجٍ أنّبه الضباب)، (ص127)، يسيطر المرض على الوقت يتحول الوجع إلى دقائق وثوان، (المرض حالة عجيبة تسيطر على الوقت فتحيل الوجع دقائقاً وثوانٍ، تلتهم أنفاس الانتظار بلحظات غريبة)، (ص36)، وهو يؤنب المخطئ (لم يؤنبه الوقت، ولم يصدر حركة ليلحق بها)، (ص63)، يكبل الوقت باحتضار النبض : (ويبقى الوقت مكبّلاً باحتضار النبض).. (ص14)، الوقت يهزم: (مهملات الوقت المهزوم).(ص48)، يعتقل: (كم مرة اعتقل الوقت) (ص26)، يتململ (تململ الصباح على أجفانه)، (ص76)..

المكان:
تنوعت الأمكنة في الرواية، حيث انتقلنا من باب توما، إلى جرمانا، إلى أزقة ضيقة تضم بين دفتيها فقراء معدمين، إلى قرية الشيخ بدر، حتى أوربا، من خلال سفر ميلاد وميرنا إلى ألمانيا للعلاج.
وللمكان شخصية منفردة وهو يعيش حياته في القصة كأي فرد آخر ويشارك في الألم والأوجاع والفرح، (أوجعه عبق المكان وهو يغادر، لكنَّ الباب الموصد أتلف أمله بالعودة). وفي بعض المواقف نرى الكاتبة تحن إلى البيئة الدمشقية القديمة، من خلال وصف البيت الدمشقي العريق الَّذي غاب عن ذاكرتنا، بعد التطور العمراني الهائل للمدينة، وغياب هذا النمط من البيوت، وتحولها إلى أبنية شاهقة، فنراها تقول: ((الباحة الجميلة والبحرة المتوسطة بزخارفها العتيقة بأجمل الألوان)(ص26)، وفي (ص28) (صالون مزخرف بالموزاييك المعتّق القديم ورغم قدمه مازال محافظاً على ألوانه الجميلة، الستائر بيضاء نقية منقوشة برسوم هندسية جميلة)، هذه الأصالة الَّتي لم تغادر هذا البيت العريق، جدران هذه البيوت مليئة بالحب: (كم قضى طفولة مرحة بين جدران الحب)(ص26)، كما أن هذه البيوت حافظت على نمطها القديم: (تمدد على السرير الخشبي الضيق، تأمل جدران غرفته، نارنج طفولته، ياسمين ضحكاته الطفولية،) (ص26)، (تتأمل لين شجرة النارنج الأصيلة في هذا المنزل) (ص74) (تأمّل النارنج من جديد، وشبه غيابها بتلك الشجرة القديمة العتيقة، طعمها مرّ لكن ما فيه من لذة لا تشبه مذاق أي فاكهة أخرى) (ص74)، )(المنزل مسكون بذكريات من يحب، ولا يجب أن يبقى على تلك الحال)، (ص75)/ (البحيرة تنبض بالحياة، واستنشق عبير الورد، أرض الدار مشعةً بالنور)، (ص 76)..
السجن مكان كريه، وصفته الكاتبة وصفاً مختصراً، وحبذا لو أضاءت جدرانه قليلاً، (رموه في غرفة مظلمة، تحمل أوساخ النفوس الَّتي فيها، وانزوى في ركن بعيد خشية التماس مع أحدهم)(ص30)..
وللمكان عواطف يعبر عنها: (باح المكان بخيبته والعطر صفعته الذكرى على الوجنات الشاحبة وحين يقترب).(ص120)، ستائر المكان وشمسه تبعث الدفء والسكينة: (غرفة ستائرها خضراء، الشمس الدافئة تعانق بردها، فبعثت فيها السلام والسكينة) (ص34). يحمل المكان الذكريات (كان المكان فقط من حمل عطرها ولم يجد شفاه)، (ص72)، أما العيادة، فهي: (في عيادة واسعة، لونها أبيض، وستائرها بيضاء، ومقاعدها بيضاء). (ص 122)، واللون الأبيض يوحي بالنقاء والراحة.
أما القرية وهي المكان الَّذي يحتل القسم الثاني من الرواية ففي (قرية الشيخ بدر): وهي قرية في ريف طرطوس، من أجمل القرى بأراضيها الممتدّة الخضراء، تميّزت ببساطة ناسها وهدوئهم…
والطريق إلى هذه القرية: (على الطريق الأخضر الممتدّ، وأغاني الربيع تصهل في المكان، تعانق الأذن والقلب، طول العشب الَّذي أعطى بلا تقصير كان يجاور أجساد المارّين، وعطر الربيع مدى يخطف الأنفاس، فيحمل ما في النفوس من أرقٍ وتعب ويطير به بعيداً) (ص137)
المكان بطل الخرافات، والمعتقدات الشعبية البائدة، الَّتي يؤمن بها حتى من استطاع أن ينال أعلى الشهادات: (“أبو طاقة” هذا المقام المشهور الَّذي يقع على تلةٍ في قريةٍ اسمها ربعو، إلى الشرق من مدينة مصياف، يلجأ إليه العديد بسبب المعتقدات القديمة عن أنَّ من يكذب لا يخرج منه، الغريب في أمر هذا المقام أن نسبه يعود إلى الشيخ يوسف الحكيم ابن عفيف الدين الَّذي توفي منذ 750 عام وكان رجل علم وفلكي رياضي معماري).(ص129)، فكيف لعالم مثل ذلك أن يورث أهل قريته تلك المعتقدات البائدة، يمتلئ المكان بالأصوات المعبرة: (امتلأ المكان بالهمهمة) (ص130)..
بكل الحب استطاع المكان أن يتشارك مع شخصيات الرواية عواطفها الإنسانية، ويعيش معها ويساعدها في تقديم الحلول، ويصف مشاعرها بدقة.
***
الحكمة في الرواية:
تتميز الرواية بحكمة كاتبتها الَّتي ظهرت في العديد من المواقف، وكل شخص عركته الحياة بين دفتيها، تنساب الحكم الرائعة من بين شفتيه: (مجنونٌ من يعتقل الحزن خلف أسوار اللامبالاة، فتحرق جسده قبل أن تضمّ حياته الَّتي تمر أمام نظراته بخوف) (ص10)، وهذا يدل على عمق ثقافة الكاتبة، (الصداقة القوية تمنح الإحساس بالراحة، والحبّ الأخوي يمنح إشارة مرور لكل الأمكنة المغلقة في الغرباء، وحدهم الأصدقاء يتجوّلون في النفس والذكريات ويومياتنا والقادم بحرية، لأنهم بصدقهم صنعوا أماكن حقيقية في داخل النفس) (ص18). حتى المواقف تتحول إلى حكم: (الالتزام والصدق هما الرجولة بحدّ ذاتها)،(23)، (قاسية لحظات الحقيقة، ولكنها الطريق الوحيد لقرارات مهمّة في الحياة) (ص24).
الحب:
ترى الكاتبة الحب أنَّه بداية تحرر داخل الكون كله وليس فقط الأشخاص وتفرّد ونزوح نحو العاطفة بأقوى نبضاتها، يقترب من كل المسام ويتمدّد على تنفسّها ويصبح الهواء والمكان والرداء أيضاً) (ص40).. هذه المشاعر الإنسانية يئدها الإهمال: (الإهمال طريق النهاية في كلّ علاقة، مهما بدت متينة)، (ص44)، وهو أيضاً:(الحب وحده من جعل الاكتفاء حالة من اللذّة، يفهم معناها ويطيب له العيش به)(ص67).. الحب يملأ قلب كل شخصيات الرواية، إلا شخصية سمر الَّتي امتلأت بالحقد نتيجة للظلم للنشأة الَّتي نشأتها، حتى إنَّ القارئ يشعر أنَّ سمر تحاول الانتقام من مجتمعها في كل ما فعلته من أذىً نفسي لجميع المحيطين بها. حتى الرجل الَّذي ساعدها لتحصل على هذه الثروة، قامت بقتله بطريقة غير مباشرة..
أما الجنس (تلك الحاجة الإنسانية فهي عندها:(يخلق الجنس فيك طاقة وصبراً بنفس الوقت، لكنه يعلم أنه حاجة للبشرية لا يستطيع التخلي عنها، ينكر الجميع منه حوله تلك الحروف العلمية لشيء يسمّونه الانجذاب، ولكنه لأكثر من مرة واجه حقيقته كرجل، وعلم أنَّ الحبّ شيءٌ ثانوي أمام المتعة الَّتي يحققها وجود أنثى كاملة في حياة الرجل، وإلاَّ لماذا يلجأ الكثيرون إلى الخروج عن حياتهم والبحث في البارات عن لحظة عابرة لا تعني لهم الكثير)(ص42)، فكأنَّ الكاتبة تؤمن بأنَّ ما تقدمه العاهرات أهم بكثير مما تقدمه له الزوجة الشريفة.
تظهر بعض العبارات فلسفتها في الحياة: (كل الأسئلة ممكن أن تصمت بكلمة نعم، لكنَّه يرفض تلك الـ نعم القرارية ويفضّل أن ينعم باللحظة القدرية) (ص56)، فالأقدار هي الَّتي تقرر مصير الإنسان.
الحلم :
الأحلام هي أهم وسيلة كانت للتواصل بين الأم ، وابنتها،(كنا نلتقي في أحلامنا ، تخبرني وأخبرها عن الأحوال حتى بدأت الكوابيس تبعدنا، وحين تزوجتما شعرت بفرحٍ كبير، ضمّني نورٌ بالدفء فباركت لكما هنا من مكاني هذا، لكنَّ الكوابيس والحمل الَّذي مات كان سببه ما خبأناه زمناً طويلاً، ربّما لم يسامحنا ذلك الطفل، وربّما مازال بعض الحزن جاثماْ على قلبه) (ص 143)
والحلم هو الَّذي يعيد لميلاد نسبه الحقيقي: حين يرى تلك المرأة في المنام تشير إلى الكنيسة الَّتي تقيم فيها والدته الحقيقية: (كان يحملني الحلم أنّي سأجد ابني يمرّ من هنا مع المسافرين برفقة تلك الصبية التي خطفته مني)، (ص157). (ربما لا تكون ابني وتشابهت الأسماء لكنَّ حلمك قادك، والحلم تأويلٌ من الله لعباده)، (ص 157).
***
الخاتمة:
أبدعت الكاتبة في وصف شخوص روايتها، واستطاعت بحرفية عالية السير مع الأحداث دون أن تغفل أي تفصيل يفيد الفضاء الروائي، وكان للتشويق دوره الكبير في شدّ القارئ لمتابعة أحداث الرواية الَّتي تنتقل فيها من مكان إلى آخر دون أن تغفل أهم وأدق التفاصيل الصغيرة، وهي تترك للأقدار تحديد مصير شخصياتها، وإيمانها ومعتقداتها. وأهم ما عرضته الرواية: هو التعايش الديني بين الشخصيات: (فميلاد يحب ميرنا، ويتزوجها على الرغم من اختلاف الأديان بينهما، والدير الَّذي يحمي السيدة المسلمة، ويخفي حقيقتها لسنوات، القرآن وهو كلام الله الَّذي كانت تستمع إليه ميرنا دائماً، من دون أن يبدي زوجها أي اعتراض، وفي النهاية، يشعر ميلاد بوالدته تقرأ القرآن على جبينه، ووالده يشعل شمعة كي يحمي الجميع، وأم ميرنا تعلق في معصمه خيطاً أخضر من مقام شريف، بينما ميرنا تحمل طفله وتضعه فوق التراب كي يكون مخلصاً مثله.
الصمت لغة المواقف العقيمة الَّتي لا تحمل إلا الحقيقة، والحلم بوابة الصدق، والانتماء للماء والطين بكل مافينا، أبناء الحياة هم من يتقاسمون الحب والحزن دون انتماء إلا لله وحده والحياة وحدها.

#سفيربرس _ بقلم:  ماجدة البدر

*على صوت نبضه – رنا العسلي – رواية – من القطع الصغير تقع في 170 صفحة – من إصدار دار دلمون الجديدة – الطبعة الأولى2020.

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *