إعلان
إعلان

ولادة طفل ذو احتياجات خاصة و مرحلة الصدمة والإنكار عند الأهل. بقلم : د. فتون عبدالله الصعيدي

#سفيربرس

إعلان

قرأتُ في أحد المواقع عن قصة أم دخلت بحالة إكتئاب شديد عند معرفتها أن ابنها مصاب بطيف توحد، وقد نجم عن ذلك قرار إرساله إلى مدرسة داخلية، وكان الجميع من حولها معاتباً لها وأحيانا قاسياً عليها والقليل منهم تفهم حالتها
في الحقيقة إن مجيء طفل جديد في حياة الأهل واقعة جميلة تكون مصحوبة بفرح غامر وبتأثّر شديد، وأيضاً بتوقعات مختلفة وبرغبة في تحقيق حلم ما، يمكن وصف هذه التوقعات بأنها نوع من “خيال الطفل المثالي”
ولكن بعد ولادة طفل ذي احتياجات خاصة، تتشكل عند الأهالي فجوة واضحة بين التوقعات (الحلم/ الخيال) وبين الواقع، وهي فجوة تثير مشاعر الإحباط أو الغضب يتطلب تجنُّد جميع أبناء العائلة وتضافر جهودهم من أجل الاعتناء به ورعايته.
في الواقع تستغرق عملية الفحص والتقصي فترة زمنية طويلة، حتى يتم الحصول على تشخيص محدد وتسمية المشكلة باسمها الصحيح والصريح.
تُعاش هذه الفترة الزمنية بكونها أزمة، ثمة أهالٍ يشعرون بأنّ عليهم التخلي عن الصورة الخيالية التي رسموها وأرادوها لطفلهم، أو التي تمنّوها له، وقد تتولد لديهم مشاعر مختلفة: قلق، ألم وغضب تنعكس هذه الصعوبات على طبيعة تواصل الوالدين واتصالهما مع طفلهما، وعلى فهمهما للوضع وعلى تعاملهما معه.
من الواضح، ضمناً، أنه من الطبيعي أن يكون لكل فرد من أبناء العائلة أسلوب خاص في التعامل مع الأمر بوتيرة خاصة وطريقة خاصة، هذا الاختلاف بين الأساليب، الطريقة والوتيرة، قد يخلق بدوره، توترات مختلفة في داخل العائلة، علاوة على الجهد المبذول في رعاية الطفل من أجل التجسير على الفجوة بين التوقعات والواقع، ومن أجل تجنب الإحباط المتنامي يوصى الوالدان أولاً بأن يكونا واعيين وأن يتحاورا فيما بينهما حول مشاعرهما كي يستطيعا معاً مساعدة أنفسهما وبعضهما البعض على احتواء إحباط كل منهما. وبالإضافة إلى ذلك من المفضل مشاركة آخرين مقربين (الأجداد/ الجدات، الأشقاء والشقيقات، الأصدقاء والصديقات) بهذه المشاعر أو حتى استشارة أخصائيين مهنيين
كما يوصى الوالدان أيضا بجمع معلومات (مهنية وموثوقة) حول نوع الصعوبة التي وُلدت مع الطفل، وذلك أيضا من أجل فهم أفضل للتحديات التي سيواجهانها في المستقبل القريب والبعيد، وكي يصبحا “خبيرين” في هذه المشكلة يمكن الحصول على هذه المعلومات من الجهات المختصة (طبيب، أخصائي تربية خاصة وغيرهما) أو بواسطة الدخول إلى المنتديات الرسمية التابعة للوزارات الحكومية والجمعيات المختلفة.
قد يتم اكتشاف وجود طفل ذي احتياجات خاصة بُعيد لحظة الولادة مباشرة، ولكن قد تمضي أيضاً بضعة أشهر، بل سنوات، حتى اكتشاف الأمر، تحديده وتشخيصه بطريقة دقيقة. والأمر متربط هنا بنوع التشخيص وبمدى القدرة على الوصول إلى الجهات المهنية المشخِّصة وغيرها، في الحالات التي يشوبها عدم الوضوح أو الغموض قد يظهر أحياناً شعور بالخطر وقد يتولّد ميلٌ (طبيعي) لتجنب الغموض بواسطة التجاهل، التقليل من الصعوبة، أو حتى الإنكار، وقد يؤدي هذا الميل إلى تأخير العلاج للمشكلة، بل وربما يؤدي أيضاً إلى تأخير موعد تقديم علاج ناجع وفعال، ولذا يوصى الوالدان باستجماع ما أمكنهما من الطاقة لمواجهة المشكلة ولتجنب سيطرة الشعور بعدم الراحة وبالخطر على قراراتهما، عندما يثور الشك بوجود أمر غير طبيعي وليس كما يرام، تبدأ عملية الفحص والاستيضاح من خلال التوجه إلى الجهات المهنية المختصة، قد يجد الوالدان نفسيهما في حالة من الارتباك والتخبط لأنهما يلتقيان مهنيين من مجالات مختلفة، يشرعون في عمليات البحث والتشخيص، الفحوصات والمحادثات يحصلان خلالها على نصائح، وربما يحصلان أحيانا على تقييمات مهنية متضاربة، فيشعران بأنهما لا يفهمان هذه التقييمات وأسباب تناقضها
وفي موازاة المشاعر القاسية: العجز، الخجل، الغضب… وغيرها، ينشأ أيضاً تعلّق بالمختصين المهنيين وتزداد الرغبة في فهم الصعوبات التي يعاني منها طفلهما، دلالاتها وكيفية معالجتها ومواجهتها.
من المهم أن تتذكروا أنكم بصفتكم الأهل أنتم “الخبراء” بشأن أطفالكم وأنّ المختص المهني يحتاج إليكم أنتم من أجل تقييم الوضع، تحديد المصاعب وتعريف المشكلة، عليكم أن تنظروا إلى اللقاء مع المختص المهني باعتباره لقاءً بين مجموعتين من المختصين: أنتم المختصون بعالم ابنكم ومضمونه وهو المختص بعالم المهنة ومضمونها، من شأن هذا أن يسهّل عليكم جميعاً مهمة العمل مهمة العمل المشترك من خلال التعاون بهدوء ورزانة.
نعرض أمامكم فيما يلي بعض الحالات التي رواها بعض الأهالي لأطفال ذوي احتياجات خاصة:
يروي بعض الأهالي أن شهوراً طويلة بل سنوات في بعض الأحيان، قد مرت قبل أن يشعروا بأن ثمة شيئاً مختلفا لدى ابنهم، كان ذلك هو الابن الأول لدى بعضهم، ولذلك لم يكن لديهم مَن يقارنونه به، وأشار بعضهم إلى أن تطور ابنهم كان طبيعيا في مجالات عديدة، ولذلك كان من الطبيعي أن يعتقدوا بأن ابنهم سيواصل النمو والتطور والتقدم في المجالات الأخرى أيضاً.
في بعض الأحيان كان إنكار وجود علامات مثيرة للقلق بمثابة تغطية على حاجة شخصية أو عائلية غير واضحة: “الحقيقة، أنني لم أشكّ في أي شيء… لم يكن لديّ أي شك، إطلاقاً… وفجأة، خلال عملية التحضير لإدخال الطفل إلى الروضة، بدأت حماتي فجأة تشكو من أن الطفلة لا تتكلم، الطفلة لا تتكلم والطفلة لا تتكلم”.
يقول بعض الأهالي إنهم لاحظوا مبكراً جداً “وجود شيء ليس على ما يرام” لدى الطفل، لكنّ البيئة العائلية لم تسند مشاعرهم: “في سن 3 أشهر، شعرت بشيء ما، في داخلي وتولّد لديّ شعور أموميّ داخلي قويّ أضاء لي ضوءاً أحمر، أدركتُ بأن ثمة شيئاً غير طبيعي لدى طفلتي، لكنني لم أعرف ما هو، شعرت بشيء ما قد تسمّينه الحدس الأمومي”؛ “الجميع، العائلة، الأصدقاء قالوا إنني أتصرّف بشكل هستيريّ، لكنّ الشكّ كان يساورني كل الوقت بأن الطفلة لا تسمع”.
ثمة للتشخيص، أيضاً تأثير على الحياة الزوجية للوالدين، كثرة المهمات والواجبات تتطلب وقتاً وطاقات نفسية قد تؤدي إلى التوتر والإرهاق، وهو ما يضع الحياة الزوجية أمام الامتحان، وقد ينشأ صراع حول السؤال: أي الزوجين يتحمل قسطاً أكبر من هذا العبء. يمكن ملاحظة الزيادة في حالات الإنفصال لدى الأزواج الذين يولد لهم أطفال ذوو احتياجات خاصة.
في بعض الأحيان يتخذ أحد الوالدين الطفل كأنه مشروع حياة، وفي الحالات التي يكون فيها الطفل متعلقاً بالوالدين بدرجة كبيرة ويحتاج إلى رعايتهما المكثفة، يصبح القلق عليه أكثر ملموسية وقد يكون الأمر مُجهداً جداً إلى درجة أن الاهتمام به وبرعايته يأتي على حساب أفراد العائلة الآخرين.
قد تنشأ صوبات اقتصادية، بسبب المصروفات المالية الكثيرة التي تتطلبها العلاجات والمساعدات، وقد يبدو أن الأبوة والأمومة قد أصيبت بالفشل، وحيال العلاجات الكثيرة التي يتلقاها الطفل من أخصائيين مهنيين مختلفين والزيارات المتكررة إلى الأطر المهنية المختلفة، قد يشعر الوالد/ة بأن دورها آخذ في التراجع والتقلص.
في الحقيقة تثار أسئلة حول مستقبل الطفل: ما الذي سيحتاج إليه مستقبلاً وهل بمقدوره أن يكون إنساناً مستقلاً؟
ومع ذلك فمجرد وجود التشخيص الذي يتيح تحديد المشكلة وصعوباتها قد يتيح أيضاً شعوراً بالانفراج وقد يكون رد الفعل إيجابياً.
دائما ما تنشأ لدى الوالدين حاجة إلى فهم الحالة واستيعاب دلالاتها وانعكاساتها. قد يشعر الوالدان بالإرتياح لمجرد معرفة مشكلة طفلهما، فهمها وفهم الصعوبات المترتبة عنها وانعكاساتها على قدراته.
يحدث، في أحيان غير قليلة، وخاصة في حالات الأطفال ذوي اضطرابات التعلم والإصغاء، أن يؤدي الكشف والتحديد، بواسطة التشخيص الدقيق، إلى التخفيف من شعور الوالدين (والطفل)، وخاصة لأن التشخيص “قد سمّى” ما يشعران به وما كان غير واضح تماماً بالنسبة لهما. لذا يؤدي تحديد المشكلة إلى التوقف عن التعامل مع الطفل كأنه طفل ذو قدرات أقل، أو كأنه طفل “كسول” أو “مختلّ”، بل يوضح التشخيص أن الحديث يجري عن خلل مصدره نفسي ـ عصبي وأن الصعوبة هي حقيقية وغير مرتبطة بدافعية الطفل أو برغبته في التعلم. ويدرك الوالدان أن تصرف طفلهم ليس نابعاً من رغبته المتعمدة في التشويش أو الإزعاج، وإنما هو تصرف غير إرادي، خارج عن السيطرة الإرادية. مثلاً: “بعد تشخيص حالة فتاة في الخامسة عشرة من العمر بأنها تعاني من اضطرابات التعلم، خرجت الفتاة من التشخيص وهي مسرورة حقاً وقالت: “ها قد فهمتُ أخيراً أنني لست غبية وإنما لدي مشكلة حقيقية تجعل من الصعب عليّ القراءة
بعد ردة الفعل الأولية، سواء كانت الصدمة أو التبصر والإدراك، تأتي ردات الفعل التالية، وخاصة محاولة التكيف العاطفي الأولي، أحياناً يجري البحث عن تفسيرات لحالة الطفل، بينما قد تُطرح في أحيان أخرى اتهامات ذاتية، من قبيل: “لم نُجر الفحوصات اللازمة في الوقت المناسب”؛ أو “ما هذا الذي أورثته لطفلي؟”.
أحياناً يبحث الوالدان عن أنواع العلاجات المختلفة لطفلهم، ليس من خلال المختصين بالضرورة، وإنما من خلال ما يسمعون ويقرأون في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، عن علاج ما ساعد شخصاً ما أو عاد عليه بالفائدة
هذه العملية ردة فعل تعكس مشاعر الحزن، الأسى والتأنيب الذاتي، وفقط بعد مرور فترة من الوقت، حين يبدأ الوالدان بمعالجة الحقائق، ينتقلان إلى مرحلة البحث عن معلومات موثوقة من المهنيين المختصين وعن طرق المواجهة والعلاج، ثم وضع الخطط والبرامج.
لذا سأذكر لكم هذا الاقتباس : “وجهة نظر الوالدين بشأن العالم وطفله، مستقبله وتطوره، تشكل “رافعة أرخميدس” للطفل فوجهة النظر المؤطِّرة (ما يسمى “النمط الطبي أو النمط الخطي/ التقسيم الثنائي”) تميل إلى رؤية الطفل، بالأساس، من خلال محدوديته أو مرضه، ولهذا فقد تتجاهل قدرات الطفل ومهاراته النوعية وشخصيته كإنسان كامل” (رايتر، 1997).
في المقابل، هنالك المفهوم الإنساني الذي وضعه كارل روجرز ويقول إن التعامل الإنساني الأفضل يمكّن الإنسان من استخدام جميع معطياته وقدراته الطبيعية، بكل قواه الداخلية، وتسخيرها من أجل التطور واكتشاف العالم، على طريقته هو. فثمة لدى الإنسان، يقول روجرز (1973)، ميل الإنسان طبيعي لتحقيق القدرات الذاتية الكامنة لديه، سواء في المجال الفيزيولوجي (النشاط، التصميم والبناء) أو في المجال النفسي (الإبداع، الثقة بالنفس، الطموح) وكي يكون الإنسان قادراً على تحقيق هذه القدرات الذاتية الكامنة في مسيرة تطوره، يحتاج ـ أولاً وقبل أي شيء آخر ـ إلى الدفء، الاحترام والحب وإلى تعامل إيجابي من قِبل المجتمع بأسره مع مجرد وجوده في العالم، بمعنى: تقبّله دون قيد أو أشرط ودون أي حكم مسبق، تقييم أو نقد.
وبكلمات أخرى: إنّ تقبل الطفل، بكل ما في صعوباته من تعقيد، قد يساعد في إنجاح الخطط العلاجية المختلفة (التربوية ـ التعليمية أو الطبية).
إرادة الوالدين ورغبتهما في إيصال الطفل إلى أفضل حالة شعورية وفي تطوير قدراته الذاتية الكامنة تشكلان قوة دافعة للطفل وتساعدان على نجاحه من أجل القيام بهذه المهمات والمتطلبات غير السهلة.
وأخيراً لنعي قبل كل شيء أهمية ما يوصى الأهل به وهو الاستعانة ببعضهما البعض أولاً، ثم بالجهات المهنية المختصة المختلفة.

#سفيربرس _ بقلم  : د. فتون عبدالله الصعيدي 

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *