إعلان
إعلان

شواغلُ ومضامينُ شعريةٍ مُعاصرة الشاعرُ العراقيُّ المُجدِّد، الدكتور (علي الشلاه)/نموذجاً الأعمالُ الكاملة (2)

#سفير_برس _ بقلم :الأديبة: ميرفت أحمد علي/سوريا

إعلان

مُدخِل:

في مطالعةٍ سابقةٍ لي في فضاء هذا الموقع(Safir Press)،

http://سِيماءُ الحداثةِ الشعريَّةِ..الشاعرُ العراقيُّ الكبير (علي الشلاه) نموذجاً. الأعمال الكاملة (1) – https://www.safirpress.net/2024/01/22/سِيماءُ-الحداثةِ-الشعريَّةِ-الشاعرُ

عرَّجتُ على بعضِ أنماطِ تظهيرِ وإخراجِ القصيدةِ في الجزءِ الأولِ من الأعمالِ الشعريةِ الكاملة للشاعرِ الماجدِ (علي الشلاه)، وهو جزءٌ مُنتمٍ إلى حقبةِ الثمانيناتِ والتسعينات. وقُسِّمتْ التجربةُ وفقَ تسلسلاتٍ زمنيةٍ لصعوبةِ احتوائِها كاملةً، وقد فاضَ إناؤُها السخيُّ بإبداعاتٍ خلَّاقةٍ طالتِ الشكلَ والجوهرَ معاً. 

وهُنا وقوفٌ حَييٌّ في حضرةِ همومِ القصيدةِ، وشواغلِ بالِ الشاعرِ (الشلاه) في العناوينِ العريضةِ والرئيسةِ، وإرجاءٌ للخوضِ في التفرُّعاتِ إلى مقامٍ لاحقٍ.

(المــــــرأة)

يستشفُّ القارئُ منَ القصائدِ الثمانينيةِ المُبكرةِ للشاعرِ الدكتور (علي الشلاه) ظلاً باهتاً وخُفوتاً للمرأةِ، وموقفاً حيادياً صارماً منَ الوشائجِ والعُرى المُفضيةِ إليها وإلى نوَالِها. فلا تستطيعُ أيَّةُ أنثى استنزالَهُ من عرشِ كبريائهِ مهما استبدَّ بهِ نازعُ الهوى. إنَّه يُكرِّسُ /يُوسفيَّتَهُ/ ونأْيَهُ بالنفسِ عن رواسبِ العشقِ وتحلُّلاتهِ وعواقبهِ الرجيمةِ، ويلتزمُ العُذريةَ نهجَ خطابٍ للنساءِ العابراتِ صفحةَ وَعيه. يقولُ في (العُذرية): 

 أتحسبُ أنِّي بها مغرمُ

إذا أنكرتْ طهرَها مريمُ

فلا وهواكِ وما كنتــــــهُ

بكسرِ الكرامةِ يستنعــــمُ

وما حجرٌ روحُنا يا هوى

ولكن لنزْقٍ بنا مَلْجَــــمُ

إذا كانَ فعلُ الخنا لـــــــــذةً 

فتركُ الخنا لذةٌ أعظـــــــــمُ

ومن غيرِ تحرُّجٍ يُصرِّحُ برغبتهِ في بترِ العلاقةِ العاطفيةِ التي تُفضي إلى نفقِ الهمومِ ومتاعبِ النفسِ لا أكثر. يقولُ في (مجيء): 

تعالي ابتداءً وكوني انتــــــــــــهاءا

ولا تتقصي نسائي إني تعبتُ نساءا

وكذا الأمرُ في (حِياد):

سأقولُ للعشاقِ ربُّ

أنا لا أُحـِبُ ولا أُحبُ.

بل حينما يتبصَّرُ الشاعرُ خيطَ الصدقِ، يجدُ أنضجَ تمظهُراتهِ في مشهديَّةِ المرأةِ الخائنة.(فالصدقُ كأنثى تخونُ، والكذبُ كخفضِ البصر)

وفي قصيدةٍ أخرى يستمدُّ الاخضرارُ واليَناعةُ شرعيَّتهما منَ المانحِ الذُّكوريِّ.. إذ ينبُعانِ منَ الرجال! ويُحيلُ الشاعرُ الاصفرارَ وخريفيَّتهُ إلى النساء. فشفاهُ (ليلى) ـــ رمزِ العشقِ في الأدبيَّاتِ العربيةِ القديمةِ ــ  تبدو ملمَحاً خريفيَّاً يخضَوضرُ ويُعشبُ عندَ تلقِّي القُبلِ من مانحيها (الرجال). وفي فكرةٍ مُستحدثةٍ كهذهِ  ابتداعٌ لمعنىً جديدٍ في الحب، إذْ يلوي الشاعرُ (الشلاه) عُنقَ المألوفِ والمُتداولِ في الموضوعةِ العاطفيةِ، ويخسفُ بهِ الأرضَ. يقولُ في (النساء خريف):

مَن يقبلُ ليلى بلا وجهها….

فالوجوهُ بلا مِلحنا… مُقفرة

أخضرٌ

أخضرٌ… حبُّنا… والنساءُ خريفْ

فبمنْ تستضيءُ القُبل…؟

وفي (عنوان الطالعة) عتبٌ على ولَعِ النساءِ بالخُرافةِ (وهنَّ أساساً متَّهماتٌ بخفَّةِ العقلِ في العُرفِ الاجتماعيّ) إذ يمتهنَّ غوايةَ التضليلِ بالتنجيمِ، ويعلنُ الشاعرُ خلاصَهُ من عوالمِ الوهمِ والتَّبعيةِ التضليليةِ تلك، والركونَ إلى حكمةِ العقلِ والالتذاذِ بهدْيهِ، ويُغفلُ الإشارةَ إلى ضلوعِ الرجالِ إلى جانبِ النساءِ في امتهانِ التنجيمِ، ويقرُّ بأنَّه كانَ (يهوى النساءَ افتراضاً): 

بلى.. عدتُ منكِ

فقامتْ سنينُ الصبايا

وعمَّرتِ الروحَ حدَّ الفناء

بلى… عدتُ منكِ

فكنتُ.. . وكانت نهاياتُ عمري

حمَّى ابتداء

بلى… عدتُ منّي…!

وفي (تتابُع حمَّى)، تتوهَّجُ لدى الشاعرِ (الشلاه) فنيَّاتُ الرسمِ بالكلماتِ، وهندسةُ المشاعرِ وتَجْليتُها، باستدعائِها من قرارِ النفسِ، وبتأثيثِيها على الصدقِ، ونصاعةِ البوْحِ، والكريستاليَّةِ التعبيريةِ الشفافةِ. فالأنثى الوحيدةُ البريئةُ في نظرهِ هي: الأمُّ واللغةُ ــــــ القصيدةُ، ولا ثالثَ لهما.

وفي (شرائعُ معلقةٌ) تبدو النساءُ نساءً معفَّراتٍ بالخطايا والآثامِ، فثمَّة (حلمُ شهيدٍ بزوجتهِ) يقابلهُ (رغبتُها في الرجال) وبـ (صهيلِ سريرٍ على نهرِها)، كترميمٍ لشروخاتِ الغرائزِ النازفةِ، وكمهدِّئٍ لجُموحِ الشَّبقِ وتأجُّجاتهِ في حضرةِ الفَقد. وثمَّةَ (عشقانِ من ورقٍ أسودَ لا نساءَ لهُ أو بياض) في قصيدة (بغداد أو منفى2)، وهذا النَّفيُ التجنيسيُّ ينبئُ برغبةٍ في نفيِ النساءِ من دائرةِ الاشتهاء.

وفي قصيدتهِ التي تفيضُ بالموسيقا وبالرَّهافةِ (قليلاً … قليلاً)، يندفقُ الإيقاعُ والتَّناغمُ اللفظيُّ فيُضفيانِ رونقَ الظاهرِ الماتعِ على الباطنِ البارعِ، إذ يُفلسفُ الشاعرُ موقفَهُ منَ الاكتفاءِ، ويدعونا إلى قبولِ القليلِ من كلِّ أمرٍ مُستكرهٍ أو مُستحبٍّ، وينسحبُ الاكتفاءُ على النساءِ (كمفاهيمَ) متداولةٍ في الحياةِ. يقولُ شاعرُنا: 

أنا لا أحبُّ النساءَ … قليلا؟

قليلٌ من امرأةٍ طاوعتكَ قليلا

وشيءٌ من امرأةٍ تزدريكَ قليلا

********

/الحُسينيَّاتُ والكربلائيَّاتُ/

إنَّ رفعَ سقفِ الرقابةِ على المنشوراتِ (حينما يتطرقُ الذِّكرُ إلى المرجعيَّاتِ الدينيةِ واللاءاتِ الثلاثةِ، وعناصرِ /التابو/ التي يحظَّرُ التصريحُ بها، ويُكتفى بالعُبوراتِ المُواربةِ نحوَها) تتطلَّبُ بطولةً. لكنَّ شاعراً راسخَ العقيدةِ، نقيَّها، مثلَ (علي الشلاه) يتكفَّلُ بالأمرِ، فيشدُّ للتاريخِ أُذناً ويجدعُ أنفاً في موضعِ استقواءٍ وغدرٍ لا يُغتفرانِ بحقِّ نباريسِ الهدايةِ البشريةِ وأئمَّتِها… الحسين، وزيد، والمهدي المنتظر… رموزٌ قداسيَّةٌ نتذاكرُ مآسيها إلى يومِ الناسِ هذا، لكأنَّها وقائعُ الأمسِ القريبِ (المُتغاضى عنها)، ومَن أبأَسُ من الشاعرِ (الشلاه) في مقاضاةِ تاريخٍ مُجحفٍ؟ وقد أفردَ جناحاً مُنفسحاً في بداياتهِ الشعريةِ تستظلُّ في أفيائهِ المراثي الحسينيَّةُ، وتقرُّ وأصحابها عيْناً بمَن نافحَ عنها وأجاد.

(لم أُولدْ بعدُ) فاتحةُ المراثي، التي وإن بدتْ للقارئِ حيِّزاً من سيرةٍ ذاتيةٍ للشاعرِ ونُكوصاً إلى طفولتهِ، إلا أنَّ الربطَ معَ الرموزِ الدينيةِ (الإمام علي) واضحٌ منَ الإحالةِ الإسميةِ والتساؤلِ:

هل (علي) اسمُ الشاعرِ المولودِ؟ أم هوَ تميمةٌ لهُ؟ وحضورُ (الرادودِ) والخُطى الوليدةِ التي تسعى نحوَهُ… إحالاتٌ لفظيةٌ مرجعيَّةٌ ترسِّخُ الهويةَ والمُنتمى إليهم من النَّباريسِ والهُداةِ والقادةِ الروحيِّين.

وفي (الوقوفِ في حضرتِهم)، واستحضارِ (الحوزةِ) وكراماتِها ومكانتِها العقائديةِ الحضاريةِ الماجدةِ ما يؤكِّدُ ثباتَ الجَنانِ والقدمِ على أرضيَّةٍ صلبةٍ.

(فيا رحابَ عليٍّ كيفَ وحشتُهم؟… إلى أن يقولَ: (ولا تثورُ قبورٌ نسلها صلَبُوا/ وقد تثورُ قبورٌ نسلها صُلِبوا)

كما لا تسامُحَ معَ قتَلةِ الأئمَّةِ الأطهارِ في (تشيُّؤ):

 لأنكَ كفُّ قتَّالِ أثيــــــــــــــــــــمِ

توضَّا من دمائي كلَّ فـَـــــــرضِ

وما صَعبتْ ولا ثَـقلتْ ولكــــــــنْ

دنَا يومُ النشورِ فجئتَ تفضـــــــي

سأُغضي عن ذنوبِ الخلقِ طُــــرَّاً

فإنْ قربتْ إليكَ فلستُ أُغضــــــي

وفي (هوى)، يتربَّعُ الفخرُ بالأسلافِ الأَجِلَّاءِ على عرشِ المُجاهرةِ والافتداءِ بالروحِ، وتجذيرِ الهويةِ:

(أنا يا حُسينُ هويَّتي أهواكا)

وفي (لعلَّ الحضورَ غيابٌ) وما يَرمي إليهِ قلبُ التركيبِ وفَتْلهِ ـــــ إذ ينبغي أن يكونَ: لعلَّ الغيابَ حضورٌ ـــــ إضفاءٌ لبهجةِ التلقِّي غيرِ العاديِّ، وتجاوزٌ لمألوفيةِ التَّداولِ اللفظيِّ. وتعزِّزُ القصيدةُ كراماتِ القدِّيسينَ، وتُضفي سماتِ النبوَّةِ المستحقَّةِ على (فتَى) القصيدةِ: 

فتىً من فتاةِ النبوءَة

يمشي على العُرْي

يمشي على الصوتِ

يمشي على الماءِ

يمشي على النارِ

يصيرُ المكانُ

زماناً

وتنكسرُ الأزمنهْ

وحدَهُ…

يتبقَّى الحقيقةَ

وحدَهُ…

زرقةٌ ثامنة.

وفي (النَّشيج)، علائمُ إِعلاءٍ وإِكبارٍ مختزلةٌ في ثالوثٍ مباركٍ: رأسٌ، كفٌّ، دماءٌ!

قد تتصلُ بفتيةِ الشِّعرِ ومُبدعيهِ، أو بفتيةِ العقيدةِ وحُماتِها!

وتبلغُ الفاجعةُ أقصى تُخُمٍ في الإيلامِ والفَداحةِ في (القطار)، وفيها فتنةُ وذكاءُ الربطِ بينَ مأساةِ الحسين ومأساةِ المسيح.

في حينِ تصَّاعدُ في (سقوطِ الروايةِ والراوي) لهجةُ الحَوكمةِ والإدانةِ لمقاتلِ الأنبياءِ والمُهتدينَ، والظلاماتِ المرتكبةِ بحقِّهم. وأرى في تكرارِ استحضارِ مأساةِ الصلبِ (رمزياً).. ربطاً موفَّقاً بين قدريّ ومآليّ السيد المسيح وأئمَّةِ بيتِ الشيعةِ… ما يُنبئُ عن انفتاحٍ في الرؤيةِ الروحيةِ والتَّخاطُرِ مع الآخرِ، التوحيديِّ، وتأييدهُ في قضاياهُ الإنسانيةِ، بوصفهِ كائناً مُوازياً لنا على ضفةِ الوجودِ، وموضعَ قبولٍ.

و(مرثيَّةُ المساء) بدورِها، تُومي إلى الفعلِ التصفويِّ الدينيِّ إيماءاتٍ لا تخْفى على القارئِ المتَّئدِ: 

قامتْ جبالُ الله 

تسترُ عُريَها 

وترجَّلَ القمرُ المهيب

عن المدارْ 

مالتْ إلى جدثِ الليالي 

وهوَ ملقىً في رفاتِ الروح 

مجدورَ القناةْ

وتوضأتْ…..

في صمتها الأشياء..

وتبلغُ قصيدةٌ أخرى أعلى شأوَها في ندبِ الخُلصاءِ من أهلِ بيتِ العقيدةِ، وتشرقُ باستفاضةٍ وانفساحٍ في (كربلاءات)، حيث عمرُ التاريخِ البشريِّ لا يُقاسُ بالتَّقادمِ الزمنيِّ وبتراكماتِه، بقدْرِ ما يُقاسُ ويُرازُ بعمرِ الجراحِ النازفةِ المنهملةِ من أجسادِ الأتقياءِ الأطهارِ: 

 لم أمتْ بعدُ….

صوتي

إنَّ هذي الحروب

صدى قلقي

إنَّ هذي الفتوح

مدامةَ نحري

إنَّ هذي التي تشبهُ اليأسَ

خيلي

إنَّ هذي السنين

نسائي

وذا اليتم ما أعشبَ الأرض

نسلي

……………………

……………………..

فأمطري يا سمائي

جراحاً

لها يسجنُ الدهرُ أيامَه

إنَّ عمرَ الدهور

بعمرِ الجراح.

وتتوافدُ قصائدُ مثل (مرثيَّة الجمل) و (شرائع معلقة) وتعومُ على سطحِ هذي الأخيرةِ أطيافُ الألوانِ ومُوحياتُها البليغةُ. والقصيدةُ تخاطبُ من صلبُوا المهدي وقتلُوا الحسين، إنَّها قصيدةٌ تستحوذُ على مشاعرِ القارئِ وتأسرُها بإرباكاتِها الجماليَّةِ والتعبيريَّةِ، وباشتحانِها بالعاطفةِ وتأجُّجاتِها، وبتوطيدِها لنازعِ الحزنِ، وبازدحامِها بحيثياتٍ ذاتِ خصوصيةٍ بالمُومى إليهم منَ الشهداءِ والضحاياـ تنطوي على تحدٍّ مُعلنٍ، ووعدٍ بتلبيةِ استحقاقاتٍ مؤجلةٍ: 

هكذا سنسمِّي مواليدَنا.. والشوارع

باسمِ الحروبِ المؤجلةِ الحسم…

والنصرِ.. والانكسار

باسمِ من شاركونا حماقاتهم…

… عنوةً

باسمِ من نسجُوا كفناً…

للمسيحِ المعطلِ من خوفِه.. والكنائس

يُعَمِّدُ آهابَهُ بالوساوس 

باسمِ الليالي الطويلةِ باليُتمِ والطائراتِ…

سيندثرُ الميتونَ بأبنائهم.

سوف تفنى السلالاتُ… لغوُ المسلاتِ…

نَفنَى

وتبقى أصابعُنا في النشيد

ويبقى لداليةِ الوقتِ حراسُها

… والعقاربُ

.. أصفر في الروايات…

وظهرُ الأفاعي الفلاةُ

وَصَفُّ المريدين.. خضرٌ غلاةُ

يضلِّلهم في المسير… الهُداةُ

وإن قامَ من صلبَ مهديِّنا…

قائمٌ… لن يطيلَ القيامَ…

… فكلٌ غزاة

… يا بن شِسعِ القميص… 

المعلَّقِ بالثائرين… وحبلِ الوصايا

ويا ميتاً… أنهضتهُ التكايا

توانَ… توانَ…

فقد أرهقَ الأولون البقايا

وأراها من أجملِ ما كتبَ الشاعرُ (الشلاه) في مرحلةِ البداياتِ، تؤسِّسُ لفلسفةِ النقدِ التاريخيِّ، ولنسفِ البُنى والأنساقِ الحوادثيَّةِ المشؤومةِ بقوةِ المنافحةِ عن الحق، وبرسوخِ الموقفِ والإيمانِ به.

*******

(ثنائيَّةُ الأوطانِ والمنافي)

ثمَّة أربعةُ نماذجَ للأوطانِ نجدُها في شعرِ الدكتور (علي الشلاه)، إنَّها قصائدُ الثُلثِ الأولِ من مجلدِ الأعمالِ الكاملةِ: الوطنُ الحقيقيُّ ــــ الوطنُ البديلُ/المنفى ـــــ المنفى داخلَ الوطنِ ــــ الوطنُ داخلَ المنفى، وأَربعتُها تسيرُ فُرادى أو تتقاطعُ في بعضِ أنساقٍ شعريةٍ. تترافقُ هذهِ الثِّيمةُ (الوطنُ/المنفى) بمهارةِ الفنِّ التشكيليِّ اللفظيِّ، فتُضفي على القصائدِ جمالياتٍ تعبيريةً تعزِّزُ غرضَ القصيدةِ في تجذيرِ الإحساسِ بالتوحُّدِ وبالاغترابِ وبالفردانيَّةِ في الوطنِ المخذولِ وفي المنفى معاً. 

نبدأُ من (خيانة) التي لا تبدو لوهلةٍ أولى معنيَّةً بالشأنِ الوطنيِّ، لكنَّ الإيغالَ في بواطِنها ومُوحياتِها وظلالِها النفسيةِ يعكسُ حالةً مُضنيةً من الاغترابِ، ترتبطُ بالوطنِ وبرموزهِ المؤثِّرةِ في الفعلِ الحضاريِّ والسياسيِّ العام (خلافةُ المأمون، شاعرٌ من قصَب، الأُلى، التاريخ، أخون): 

فلِّي الأُلى من عصرهم

وكسِّري أسماءَهم

ووطِّني الغيابَ في أوراقهم

وابتدعِي آمالَهم

وبعثري خلافةَ المأمون

فلنْ يؤُمَّ شاعرٌ من قصبٍ 

مزرعةَ الأصنامِ عازفاً بها

تَميمتي جنون

فلِّي المضَى من لُغتي

واستتري في كذبها

لأنني قررتُ أن أخون

وتتوهَّج القصيدةُ الوطنيةُ، فتبلغُ ذروةَ الأداءِ الرشيقِ تعبيرياً وجمالياً في (تعويذة)، فبرغمِ الفُرقةِ والبُعادِ تبقى (بغدادُ) شمسَ الأُممِ. والقصيدةُ ترجمةٌ أمينةٌ للحبِّ وللوفاءِ إلى بلدٍ لا يعترفُ بالخرائطِ ولا بالحصصِ الجغرافيةِ المقسَّمةِ على أسسٍ طائفيةٍ، إثنيةٍ أو مذهبيةٍ، بل إنَّ توقيتَ العالمِ يستمدُّ مشروعيَّتهُ وحقيقتهُ منَ التوقيتِ المحليِّ، بضبطِ الزمنِ على نبضِ (بغدادَ) وروتينِها اليوميِّ. وهذهِ التميمةُ الوطنيةُ الأثيرةُ (الساعةُ البغداديَّةُ) ترافقُ الشاعرَ (الشلاه) في ترحُّلاتهِ كشيءٍ من لوازمِ حقيبةِ السفرِ والانتماءِ الفاضلِ الذي لا تُلغيهِ تعدُّديةُ المطاراتِ والفُراقاتِ: 

وأبقيتُ حالي على حالهِ

لم تغيِّر بهِ غربتي من مذاقي

وأدمنتُ توقيتَ بغداد 

في ساعتي

ثم أوثقتهُ بوثاقي

وصرتُ أصرِّفُ كلَّ الزمان 

بوقتٍ عراقي

وطنٌ لا ينامُ النخلُ 

إذ تنتشي بالنعاسِ العيون

وطنٌ ليس يدري سوانا هواهُ

وطنٌ لا يقسَّم مثلَ الخرائط

لكنهُ نحن

كلُّ عراقي …عراق

فكم وطن يقسمون؟

وطنٌ نحن سيماؤه

وله 

طبعُ أكرادهِ عاشقاً

حلمُ سنَّتهِ غاضباً 

حزنُ شيعتهِ

عندما يحزنون

وطنٌ .. نحن 

وطنٌ .. أنا 

وفي (منفى1)، نُطالعُ نعيَاً صارمَ اللهجةِ لأواصرِ القُربى، بدءاً من نواةِ الأسرةِ وصولاً إلى المجتمعِ القائمِ عليها ككلٍّ. فتتكشَّفُ غربةُ الآباءِ عن البنين في الوطنِ/ الأمةِ (العالم العربي)، برغمِ ذلك تتزعزعُ ثقةُ الأوطانِ البديلةِ بنفسِها وبقدرتِها على شَغْلِ مقعدِ الوطنِ الأمِّ في القلوب. ومأساةُ الأندلسِ والخصاءِ السياسيِّ والحضاريِّ المترتِّبِ عليها يبدوانِ للشاعرِ (الشلاه) لازمةً سياسيةً تتوالدُ وتُستنسخُ من بعضُها لتُفضي إلى (أمةِ اللاأحد):

لا أنا…

لا سواي…

ولا غيرنا…

يعرفُ اليوم شَكْلَ الولد

كلنا باعهُ للثواني أبوه

وأودعهُ نسلهُ

    في الأبد

كلنا أمسكَ الخوفُ أبوابَهُ

فأدارَ الهروبَ بمفتاحهِ

ثم غنَّى لفتحِ البلد

كلنا يبحثُ اليوم عن حدِّه

في المنافي

فما ذاعت الريحُ أصواته

أو أناخَ بخيمته

سَبَبٌ أو وَتَد

كلنا…

حين تعوي الرياحُ

جناةٌ

وأسماؤنا في الوصايا

معفرةٌ بالزبد

كلنا… في الكراريس أندلسٌ

جسدٌ..  لا جسد

أمةٌ…  ربما

أمة اللاأحد.

وتختصُّ (بغداد أو منفى2) بالوطنِ الحميمِ العراق، حيث تفرُّ المخاضاتُ من الحَمل، ويستغيثُ الشاعرُ بالوطنِ، فلا مَحضنَ يسترُ عُريَ المواطنِ المحبِّ كوطنهِ، وكسعْفِهِ ونخيلهِ وأنهارهِ ودقائقِ تفاصيلهِ. إلى أن يختمَ الشاعرُ القصيدةَ البديعةَ بقوله:

وناديتُ… بغداد أنتِ

مقامٌ له ألفُ صوتِ

ولولاكِ…  هذي المدائنُ وهمٌ

وتلكَ الشعوبُ افتراض

وفي (دقائقِ المكان ــ طرائقِ الوقت) أرى ــ كقارئةٍ ــ أطيافاً جنائزيةً وأكفاناً لتواريخَ ولأسلافٍ لم يكونوا على قدْرِ المسؤوليةِ التاريخيةِ والحضاريةِ، يتراءى ذلك في ثنايا الخطابِ الفكريِّ والثقافيِّ الناضجِ الذي يتوجَّهُ بهِ الشاعرُ (الشلاه) إلى (عبد الوهاب البيَّاتي) . ولعلَّ القصيدةَ تقدِّمُ نفسها كملحمةِ رثاءٍ شاملٍ للعروبةِ، وهذا ختامُها:

مرَّ الرومُ على الرومِ بنا

مروا..

مرَّ الفرسُ على الفرسِ بنا

مروا..

مر العُرْبُ على العُرْبِ بنا

مروا..

فرَّ العربُ ـ الفرسُ ـ الرومُ 

بنا فروا

وتلفتت الصحراءُ

تثبّتنا في الظل

لكنَّ الأسلافَ بأكفانِ مقابرهم .. فرُّوا

*************

/الشلاه/ وشعراءُ العربيةِ

المُحاوراتُ الشعريةُ والتَّخاطُراتُ معَ الشعراءِ العربِ الأوائلِ ليستْ بالأمرِ الجديدِ في الشعرِ العربيِّ المعاصرِ، فلطالما ألهمَ شعراءٌ مثلُ أبي العلاء المعري الكثيرينَ بالأفكارِ المستجدَّةِ، وأنعشُوا خواطرَهم بمكنونِ الحكمةِ والتأملِ الوجوديِّ المكنوزيْنِ في شعرهِم. فقد أبدعَ المعري كما لم يُبدع المبصرونَ والمتبصِّرونَ معاً في تخليقِ المعاني، وفلسفةِ الموقفِ من الوجودِ. وأجمعَ على ذلكَ النقَّادُ والشعراءُ.. ويتفقُ الشاعرُ الكبير (علي الشلاه) مع جدِّه المعري على بعضِ الفِكَرِ، ويقدِّمُ له بالمقابلِ بعضَ التصويباتِ والتحليلاتِ للمواقفِ. يبدأُ الأمرُ لدى (الشلاه) بتلاعبٍ لفظيٍّ دلاليٍّ يطالُ عنوانَ قصيدتينِ تتمحورانِ حولَ المعري الجدّ: (ليتَ المعري كانَ أعمى). وفي هذهِ الزحلقةِ اللغويةِ المقصودةِ إعلاءٌ لشأنِ البصيرةِ النافذةِ وتقديمِها على البصرِ النافذِ. وقد أثبتَ (الشلاه) في غيرِ موضعٍ ومناسبةٍ من شعرهِ مهاراتهِ كلاعبِ لغةٍ يتصرَّفُ بمفرداتهِ وبتراكيبهِ، فيُحِلُّ لفظاً أو تركيباً غيرَ عاديٍّ في موضعٍ لفظيٍّ روتينيٍّ ليحقِّقَ سبْقاً مغزويَّاً، ويُحرزَ هدفاً في مرمى التجديدِ المعنويِّ وتخليقِ المداليلِ. 

إنَّ (الشلاه) في محاورتهِ للمعري، يُحيلُنا إلى بعضِ قصائدهِ الشهيرةِ التي تستقصي عمقَ الرؤيةِ وجلاءَ الموقفِ من الحياة. وأعتقدُ أنَّ منها (ليلتي هذهِ عروسٌ منَ الزنجِ عليها قلائدُ من جُمانِ)، وسواها من أفكارِ الشاعرِ ذائعةِ الصيتِ المبثوثةِ في شعره. 

إنهُ يُحاورهُ في معتقداتهِ الشخصيةِ: العزوفُ عن النساءِ وحبسُ النَّفسِ دونهنَّ؟ لمَ لا صُبحَ يعقبُ الليالي المستطيلةَ الكئيبةَ؟ أينَ دليلُ السعادةِ وطعمُ الوجودِ في هذا التغاضي؟. فالمعري بصيرٌ ومُتبصِّرٌ رغمَ قناعاتهِ العنيدةِ الراسخةِ بما لا يقتنعُ به كثيرون، ورغمَ محابسِهِ التي اعتكفَ فيها متزهِّداً.. يراهُ الشاعرُ (الشلاه) المُبصرَ الوحيدَ، في مقابلِ كونٍ أعمى برمَّتهِ.. وهوَ قادمٌ ليُبصِّرنا بالحقائقِ، وسينتعشُ رأسُ الحسينِ ذاتُهُ بمَقْدَمِه. ولو أنَّه أبصرَ بعينيهِ لغدا جاهلاً بحقائقَ كثيرةٍ حالَ المُبصرينَ بالأعينِ وعُميانَ البصيرةِ:

فلتشتعلْ برؤوسِ نيرون 

القبائل

ولينتعشْ.. رأسُ الحسين

هذا المعري مقبلٌ…

والكونُ أعمى 

وصدى مغنٍّ يلعقُ العهدَ القديم 

هالوليا 

هالوليا 

فليشكرِ المحبوسُ ربَّه 

في المحبسين

لو حاورَ المحبوسُ ظلَّه

كان اشترى بالنور جهلَه 

من قاتليهْ

وفي الخطابِ الثاني للمعري، يُفسحُ الشاعرُ (الشلاه) لجدِّنا الكبير مكاناً ليصوِّبَ بعضَ قناعاتهِ، وليصحِّحَ الأخطاءَ القدريَّةَ الفادحةَ التي مُنيَ بها (هذا ما جناهُ عليَّ أبي). فبإمكانهِ أن يختارَ أباً مُناسباً، وأن يعيدَ تدويرَ الأقدارِ الشخصيةِ لتصبَّ النهاياتُ في صالحِ البداياتِ الجديدةِ والمُعادِ صياغتُها. فالمعري ـــــ برأيِ (الشلاه)ُ ــــــ يمتلك الأدواتِ المعرفيةَ والخبرةَ والحكمةَ اللازمةَ لخوضِ تلكَ المغامرةِ، وعليهِ أن يخلعَ جلبابَ الحزنِ الرزينِ المُستديمِ: 

حاول ثانيةً…

أن تقترحَ اليومَ

على جدِّكَ 

شكلَ أبيكَ

وإلاّ فاخلعْ أضراسَ العقلِ

لدى نجلك

حاول ثانيةً…

أن تثقبَ حَبَّ الوقت

وتصنعَ أقراطاً

لنساءٍ لن يُولدن

وفي قصيدةِ (دقائقِ المكان ــ طرائقِ الوقت) المُهداةِ إلى شيخِ الشعراءِ المعاصرينَ (عبد الوهاب البياتي)، يستخدمُ الشاعرُ فنيَّةَ التناصِّ مع سورةِ (العلَق)، ويستحضرُ بلمحةٍ خاطفةٍ مشهديَّةَ العشقِ الممنوعِ بين زُليخا ويُوسف، ويُعيدُ إحياءَ الذاكرةِ بزرقاءِ اليمامةِ، لينتهيَ بهِ مطافُ القصيدةِ إلى شجبِ ذلكَ التَّراكمِ الكميِّ الانهزاميِّ عبرَ التاريخِ العربيِّ الذي دنَّسهُ المحتلونَ الأعاجمُ، ومحتلُّو البيتِ العربيِّ منَ العربِ أنفسِهم، وظلمُ ذوي القُربى منَ العربِ لبعضِهم بعضاً، ما أجبرَ الأسلافَ ـــــ بدافعٍ من شدةِ العارِ وإيلامِهِ ـــــ على أن يفرُّوا من قبورهِم بأكفانِهم مشيَّعينَ بالحيْفِ والشِّين. 

إنَّها لقصيدةٌ ماجدةٌ، ارتقَتْ بخطابِها الإدانيِّ التَّعرويِّ، وبلغتِها وبعناصرِها التعبيريةِ إلى مستوىً رفيعٍ.. والتَّخاطرُ السياسيُّ بينَ الشاعرينِ الكبيرينِ مقبوضٌ على ذمامهِ بقوةِ الأفكارِ، وبمتانةِ الأسلوبِ، وببراعةِ التصويرِ. وقد أوردْنا شاهداً من القصيدةِ أعلاه. 

**************

مُخرِج

إنَّ الخروجَ منَ البيتِ الشعريِّ الفخمِ، والمؤثَّثِ على ركائزَ إبداعيةٍ وفنيةٍ وثقافيةٍ نبيلةٍ، وهوَ بيتُ الشاعرِ المُترفِ بالبهاءِ وبالثقةِ بالكلمةِ، الدكتور (علي الشلاه) ليسَ بالأمرِ الهيِّنِ على قارئٍ أو ناقدٍ. لكنَّهُ خروجٌ مؤقتٌ، تعقبهُ زيارةٌ إلى مُتحفِ الكلمةِ الراقيةِ ذاكَ، في مقالةٍ قادمةٍ، نتداولُ فيها بعضَ أغراضِ شعرِهِ وشواغلِ بالهِ الأخرى. والتي لم يتَّسعْ مقامٌ لها في هذه الإطلالة الحيَّيةِ.

#سفير_برس _ بقلم :الأديبة: ميرفت أحمد علي/سوريا

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *