
إعلان
خلافًا للإعتقاد الشائع، لم تتأسس إسرائيل ردًا على همجية المحرقة النازية، فقد كانت الإمبراطورية البريطانية قد وافقت بالفعل على إنشاء نظام استعماري صهيوني في فلسطين التاريخية قبل ذلك بثلاثة عقود، مع وعد بلفور عام 1917، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تستعمر غرب آسيا (وهو مصطلح أفضل للشرق الأوسط). و ليس من قبيل المصادفة أن وعد بلفور جاء مباشرةً بعد إتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي اقتسمت بموجبها الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية أراضي الإمبراطورية العثمانية وأنشأتا مستعمراتهما الخاصة في غرب آسيا. إستمدت الصهيونية وجودها مباشرةً من الحركات الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر. كتب ”الأب المؤسس“ للحركة السياسية الصهيونية، الصحفي المجري تيودور هرتزل، رسالة إلى سيسيل رودس، المستعمر الإنجليزي الذي قام بالإبادة الجماعية في أفريقيا (والذي سُميت روديسيا بإسمه)، طالباً مساعدته في استعمار فلسطين. تفاخر هرتزل في الرسالة بأن الصهيونية إستعمارية، وطمأن هرتزل رعاته الاستعماريين الأوروبيين بأن إسرائيل (التي أطلق عليها اسم دير يهوديستات) ستشكل جزءاً من حائط صد لأوروبا في آسيا، وبؤرة أمامية للحضارة ضد البربرية”. هذه هي اللغة الاستعمارية نفسها التي لا يزال يستخدمها اليوم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأطول خدمة في إسرائيل، بنيامين نتنياهو، إذ قال للكونغرس الأمريكي في خطاب ألقاه في يوليو 2024: “نحن نحميكم”، “هذا ليس صدام حضارات، إنه صدام بين الهمجية والحضارة”. في حين أن مؤيدي إسرائيل في القرن الحادي والعشرين عادة ما يقللون من شأن الجذور الاستعمارية لدولة إسرائيل، إلا أن القادة الصهاينة الأوائل كانوا فخورين بأيديولوجيتهم الاستعمارية؛ ولم يخفوا ذلك مطلقاً.
لذلك لا يمكننا أن نتعامل مع قضية ما يسمى بالشرق الأوسط بمعزل عن الخطوط العريضة لأيديولوجيات واستراتيجيات النظام العالمي والسياسة الدولية الأوروبية، وهنا يتبادر إلى الذهن اسم شخصية تاريخية؛ ألبرت بنجامين بايك (1809-1891م)، كان محامياً وسياسياً وكاتباً وجنرالاً في جيش الولايات المتحدة الأمريكية، نشر العديد من الكتيبات للتحريض على المعركة ضد الكاثوليكية الرومانية والبابوية، والنهوض بالمثل العليا للثورة الفرنسية في أوروبا وحول العالم. يعتبره الإنجيليون الأمريكيون أحد المنشئين الرئيسيين للنظام العالمي الجديد. مراسلاته مع جوزيبي ماتسيني (مناضل، سياسي، فيلسوف و صحفي إيطالي 1805 – 1872)، مثيرة للدهشة، و في ضوء واقع الحقائق التاريخية، هناك رسالتان مهمتان: الرسالة التي أرسلها ماتسيني إلى بايك في 22 يناير 1870، والرسالة التي أرسلها بايك إلى ماتسيني بتاريخ 15 أغسطس1871.
غير أن خصوصية رسالة ألبرت بايك كانت تكمن في أنها حددت بوضوح السيناريوهات التي كانت ستحدث مع الحروب العالمية الثلاث: كتب بايك “أن الحرب العالمية الأولى يجب أن تكون مصمّمَة على تدمير سلطة القياصرة في روسيا وجعل تلك البلاد قلعة للشيوعية الملحدة، وستستخدم الخلافات بين الإمبراطوريتين البريطانية والجرمانية لإثارة هذه الحرب. وعند إنتهاء الحرب سيتم تطوير الشيوعية وإستخدامها لتدمير الحكومات الأخرى وإضعاف الأديان”. أليس هذا ما حدث في الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية؟
ولكن بايك توقع أيضاً ما ستكون عليه الحرب الثانية، وكتب يقول: “يجب أن تثار هذه الحرب بالاستفادة من الخلافات بين الفاشيين والصهيونية السياسية. ويجب أن تكون هذه الحرب موجهة نحو تدمير النازية وتقوية الصهيونية السياسية بما يكفي لإقامة دولة إسرائيل ذات سيادة في فلسطين”. ومرة أخرى، يبدو أن تاريخ الحرب العالمية الثانية كان يتماشى مع ما كتبه للإيطالي ماتسيني. كذلك الأمر للحرب العالمية الثالثة، وفقاً لذات المراسلات: “يجب إشعال الحرب العالمية الثالثة بالاستفادة من الخلافات التي سببها عملاء المتنورين بين الصهاينة السياسيين وزعماء العالم الإسلامي. يجب أن تدار الحرب بطريقة تقضي على الإسلام والصهيونية السياسية كل منهما على الآخر. وفي هذه الأثناء ستضطر الأمم الأخرى، بعد أن تنقسم مرة أخرى حول هذا الأمر، للقتال إلى حد الإنهاك المادي والمعنوي والروحي والاقتصادي الكامل. يبدو الأمر مريع في ضوء ما يحدث، هل هو مجرد خيال؟ هل الأجيال القادمة قادرة على أن تستوعب و تحكم على ما يحدث مقارنة برسائل بايك – ماتسيتي؟
يمكنني الاستشهاد بمثال آخر من التاريخ الذي سبق في جزء منه معاهدات سايكس بيكو ووعد بلفور، والذي عكس أيضاً التفكير الأوروبي وخططه للسيطرة على الشرق الأوسط والعالم (العربي والإسلامي) بشكل عام، وقد يساعدنا هذا المثال على فهم مسار الأحداث: في أبريل 1904، أبرمت بريطانيا وفرنسا اتفاقية الوفاق الودية. وضعت هذه الاتفاقية حداً للصدام الذي استمر لعقود بين أكبر قوتين إستعماريتين، والذي كان سيؤدي بدفع أوروبا إلى حافة حرب عالمية مع ما يسمى بـ “حادثة فاشود” في السودان من عام 1898. وقد إعترفت كل من القوتين بـممتلكات ومناطق نفوذ كل منهما من خلال إتفاقية بريطانيا العظمى في مصر ووادي النيل بأكمله، وفرنسا في الجزائر وتونس، لم تكتفِ الدولتان الإمبرياليتان بوضع أسس التحالف الذي سيجمعهما جنباً إلى جنب في الحرب العالمية الأولى، بل أقرتا قبل كل شيء مبدأ التقسيم الاستعماري، مستبعدتين ضمنياً القوى الأخرى ألمانيا أولاً وقبل كل شيء، و أيضاً إيطاليا من المأدبة. في إطار هذه التهدئة يجب فهم اتفاقيات سايكس – بيكو. كان البريطاني مارك سايكس، و الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، هما الدبلوماسيان اللذان وقعا تلك المعاهدة في 13 يناير 1916، في خضم الحرب العالمية الأولى، إتفاقية منحت بموجبها بريطانيا نفوذاً حصرياً في العراق الأسفل، و بشكل عام في جميع الأراضي العربية في جنوب الهلال الخصيب، من فلسطين إلى الخليج العربي، بينما منحت فرنسا نفوذاً حصرياً من سوريا و لبنان إلى الموصل في أعالي العراق
وبالتالي كانت الاتفاقية خيانة لإلتزامات بريطانيا تجاه العرب في المقام الأول. والواقع أن المقيم البريطاني العام الجديد في القاهرة، السير هنري ماك ماهون، في مراسلات متبادلة بين يوليو 1915 ومارس 1916، كان قد وعد شريف مكة حسين الهاشمي بتأييد استقلال العرب التام عن العثمانيين، بل وبمساعدة الهاشميين على إقامة مملكة على كامل الهلال الخصيب والجزيرة العربية من أجل إحياء أمجاد الخلافة القديمة…
و من المستغرب، إنه منذ ذلك التاريخ و ما زالت كذبة بريطانيا فعّالة، لكن الأغرب من الغرابة، هو إن العرب ما زالوا يثقون ببريطانيا و فرنسا، و اليوم آمريكا التي أخذت مكان الغرب في السيطرة على العالم، بل يتفاخرون برضى الكذّاب عليهم… و كما قال أبو العلاء المعرّي:
كذلك النفس، ما زالت مُعلّلةً
بباطل العيش، حتى قام ناعيها
يا أمّةً من سَفاهٍ لا حُلومَ لها
ما أنت إلاّ كضأنٍ غاب راعيها
تُدعى لخيرٍ، فلا تصغى له أُذناً
فما ينادي لغير الشر داعيها.
#سفيربرس _ بقلم : د. سناء شامي
إعلان