الفنان التشكيلّي د.علاء بشير ،، الوطن والغراب.. بقلم : الفنان محمود شُبّر
خاص سفيربرس


حدثنا التاريخ عن الخطيئة الأولى التي ارتكبها جدنا (آدم) عليه السلام بأكله التفاحة التي هبطت به من الجنة إلى الأرض وخروجه الأبدي من سرمدية الخلود إلى قدر النهاية، ولا أعلم إن كان هناك أوجه تشابه بين تلك التفاحة الملعونة وتفاحة (نيوتن) التي أوصلتنا إلى القنبلة النووية والقنابل الفراغيّة!! .
وكذلك يحدثنا عن الخطيئة الثانية التي كانت أول حادث قتل متعمد بالتاريخ ، وكان شاهدها ذلك(الغراب) الذي علّم القاتل ( كيف يواري سوأة أخيه)، وهنا ادعي أنني أعرف علاقة ذاك الغراب بغراب د.علاء بشير الذي ما انفك يتعلم كيف يواري سوأة وطن مذبوح عمداً من خلال استخدامه لمفردة الغراب التي أصبحت (الكود) الذي يفتح من خلاله كل شيفرات أعماله حتى وإن كان غير موجوداً في اللوحة!! .
سألته ذات مرة (هناك الكثيرين من الذين يستخدمون هذه المفردة وأعني هنا الغراب ، في أعمالهم) فرد مبتسماً ( ما الضير من ذلك يا عزيزي، دعهم يقولون ما لايفقهون )!!

فهمت من كلامه عن هذه المفردة أنه باحث أكثر من كونه رساماً يريد أن يمارس طقس الرسم بشكله المتعارف لدى الفنانين، وهذه المسألة جعلتني أدقق بوعي أكبر وأكثر تفصيلاً في خطابه البصري الذي أتابعه وبشغف كبير منذ سبعينات القرن المنصرم، حيث كنت أنتظر والدي (رحمه الله) الذي يأتي بعد كل معرض مشترك لفناني العراق في تلك الفترة (بدليل الأعمال الفنية) الذي يطبع عادة مع المعرض وكانت أغلب الأدلة باللونين الأسود والأبيض. اي أن متعة اللوحة لاتكمن بالألوان وبهجتها بل تكون راسخة بالفكرة والدلالة الفكرية وهذا ما أراه حاضراً دائما في أعماله التي تظل مخزوناً في ذاكرتي كلما كبرت وأزداد اهتمامي بعالم الفن.
أرى الغراب وأتمعن فيه كثيراً وأحاول مع نفسي أن أفهم لماذا يصر الفنان علاء بشير على هذه المفردة(المكروهة) اذا جاز التعبير لدى عامة الناس ، حيث يعتقدونه انه نذير شؤم وفأل غير حسن، وأقول لنفسي ياترى هل انه لايريد ان يبيع اعماله مثله مثل اقرانه من الفنانين، ام هي سباحة ضد التيار الذي كان يهيمن على معظم النتاج التشكيلي الذي يرى ان التشخيص وزيادة الامعان بالتزويق في اللوحة هي التي تعطي القبول لدى المتلقي ، ام هو علامة ثاوية ضمن بنية العمل الذي يكون مبني على اساس الدلالة الاشارية التي تحمل بين جنباتها الكثير من البوح الذي يضج به صدر الفنان وعقله الممتليء بأسرار لايستطيع حتى التفكير بها مع نفسه.

كل هذا جعل الفنان الدكتور علاء بشير والذي يروقني كثيراً أن اصفه (جرّاح التشكيل العراقي) لما تركه من أثار قيّمية واعتبارية خرّجت الكثير من الفنانين الشباب المتأثرين بها.
وأصبح ولفترة ليست بالبعيدة ظاهرة واضحة في المعارض الفنيّة التي تقام بالعراق وخاصة بعد الحرب العراقية الإيرانية حيث نجد أن المدرسة التي جاء بها هذا الفنان هي الوحيدة القادرة على ان تجعل اللوحة حمالة اوجه وقابلة لأكثر من تأويل وبالتالي تكون العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية لا يمكن الإتكاء عليها في توجيه التهم للفنان صاحب العمل وأن يكون بمصاف المعارض للحرب أو الرافض لهى أي أن اسلوب الرسم الذي جاء به (بشير) أصبح متنفساً للكثير من الفنانين الشباب الذين كانوا يعانون من وطأة الحرب وخذلانهم الكبير.
د.علاء بشير أطل علينا قبل أسبوعين بمعرضين مهمين وأعتقدهما كانا الخلاصة البحثية لمجموعة من الأفكار والأسئلة الوجودية التي القت بظلالها على مخيلته بعد أن ترك الوطن قسراً باتجاه المجهول، فقد غادر حبيبته (بغداد) في عام 2003 أي في عام الاحتلال وبعد دخول الأمريكان كغزاة لهذه المدينة التي لم تعرف الراحة منذ دهور، غادرها جسداً نحيلاً . خاوياً من كل شيء إلّا فرشاته ومجموعة تخطيطات كان قد وثق بها كل مادار في بغداد اثناء الحروب المتكررة التي لم تهدأ يوماً ما.
احتضنت مؤسسة ” كتارا للثقافة والفنون ” في الدوحة عاصمة دولة قطر هذين المعرضين اللذان أخذا طابع الإستعادية لمنتج قارب عمره الستين عاماً من البحث والدراسة والتأمل فأتحفنا بسيل عرم من الجمال الذي لايجيده إلا هو..
سفيربرس ـ بقلم الفنان التشيكلي العراقي : محمود شُبّر



