إعلان
إعلان

“حدث هنا.. في حلب” منى تاجو تروي آلام المدينة خلال الحرب! .. بقلم : بيانكا ماضيّة

#سفيربرس

إعلان

هل كانت الحرب سبباً في ظهور كتّاب وكاتبات جديدات؟! ما الذي قدموه لوطنهم خلال هذه المرحلة؟! ويبدو أن الحرب أظهرت وجوهاً أدبيّة لم يكن الأدب هاجسها في الماضي، فحجم الألم والقهر والعذاب يجعل الإنسان كاتباً، وربما حجم التضليل الذي مورس لتشويه الحقيقة هو ماحدا بالبعض لكتابة الأحداث كما رؤوها، وكما سمعوها.

وممن برزن من النساء في حقل الكتابة في أثناء الحرب، الصيدلانية الدكتورة منى تاجو التي عملت في حقل الصيدلة والصناعات الدوائية حتى عام 2010، وحين بدأت الحرب على سورية انقطعت عن العمل في هذا المجال، وبدأت مرحلة جديدة من حياتها، بأن امتهنت الأدب والكتابة..
تم تكريمها مؤخراً، إلى جانب بعض الشخصيات من مدينة حلب، في حفل افتتاح احتفالية حلب عاصمة الثقافة السورية. صدر لها الكتاب الأول عام 2015 بعنوان (جدي إلى أين؟!) وفيه تتحدث عن الواقع الاجتماعي الخاص بالمرأة، وتقارن فيه بين امرأة الزمن الماضي وامرأة الزمن الحاضر. تلاه كتاب (حدث هنا في حلب) وفيه قصص شخصيات عاشت الواقع الرهيب للحرب في مدينة حلب، إضافة إلى وقائع رأتها الكاتبة بأم عينها، وهناك موضوعات أخرى تعمل عليها لإصدار كتب أخرى.
في مقدمة كتابها عن حلب، تقول ساخرة: (2012 وصل سلامهم إلى حلب وانتشر، أحرق معمل غزل ونسيج ضخم إلى درجة تتيح لنا أن نقول كان صرحاً، وخسرت ثلاثة آلاف أسة مصدر رزقها، من قام بالفعل الشنيع؟! هل سيهدمون حلب العاصمة الاقتصادية، فيها الصناعة وفيها التجارة وفيها الزراعة، أينما سرنا في الريف نجد المعامل منتشرة، تنبت كما الزرع، إنتاج متنوع وطاقات كبيرة، يحرقون، يسرقون، ومالا يستطيعون الوصول إليه يحطمونه بقذائفهم الجهنمية أو يقتلون مالكيه، يريدون أن يدفعوا بنا إلى مزالق الفقر والجهل والتخلف).
“الشهباء” التقت الدكتورة منى تاجو وبدأ الحديث بالأسباب التي جعلتها تطرق باب الكتابة، فقالت: لايخلو الأمر من ومضات منذ أيام الدراسة، إذ كانت المواضيع الإنشائية التي كنت أكتبها مرحباً بها من قبل مدرّساتي، وبصورة عامة أول موضوع يقرأ في الصف هو موضوعي. مايعني أن بذور الكتابة لاتولد ولاتنتشي فجأة، وعندما بدأ النشاط على الفيسبوك كتبت أشياء، ونظراً لأني لست مختصة في الأدب، فلم أكن أعرف ماهية ما أكتب، هل هو خاطرة، أم مقالة، أم قصة قصيرة، لا أعلم! وقبل أن تبدأ الحرب في حلب كنت وصديق لي – يعمل صيدلانياً وهو أصغر مني بعشرين عاماً، وله ظرف خاص يتعلق بالانفصال عن زوجته- نلتقي مراراً وكنت له بمثابة أم إلى جانبه، كنا كل يوم نذهب إلى القلعة. وفي إحدى المرات وفي الوقت الذي كنا نتساءل فيه إلى أين نحن ذاهبون؟! وإلام سيؤول الوضع في البلد؟! تحدثت عدة جمل عن الوضع وعن ألمنا، وبكيت، فقال لي: الكلام الذي قلته يجب أن تكتبيه! كانت بيوتنا قريبة من بعضنا، وكان يتردد إلينا يومياً حتى في أصعب الأوقات، فشجعني وكتبت مايقابل 20 صفحة ونسيتها، وألهتنا الحياة اليومية والصعوبات التي نعاني منها، ومشاعر الخوف التي كانت تنتابنا، حينها بدأت بالكتابة في الفيسبوك، وبعد فترة قرأ صديقي الصيدلاني ما كنت أكتبه، وكان مصرّاً على طباعة ما أكتب، وقد جمع لي أغلب ماكتبت.. وبما أن الأمر كذلك قلت له سأسرّ لك بالفكرة التي تدور في ذهني، وهي أن المرأة في بداية القرن العشرين كانت لاتذهب إلى المدرسة، كل شيء ممنوع، كانت محجوبة عن الحياة اليومية، هي مجرد إنسانة، تعمل في المنزل، وتنجب الأطفال، قيمتها في الإنجاب، خاصة البنين..فقارنت بين جدّتي وبين أمي وبيني، وآلية تطور الحياة خلال الخمسين عاماً التي مرّت، هذه النقلة في تطور المجتمع وماذا قدّم المجتمع لهذا الكائن الجديد، امرأة العصر الحديث، هذا الكائن الذي لم يعد كما كان في السابق، ولكن في الحقيقة لم يقدم أي شيء، بل على العكس انقسم إلى قسمين بالنسبة للرجال، فالنساء اللواتي لم يتعلمن كان لديهم عداء تجاه هذا الكائن، وبالنسبة للرجال أيضاً انقسموا قسمين، قسم رافض، وقسم مستغِل، والمؤيدون قليلون جداً. هذا الواقع الذي عشته، بالإضافة إلى انفصالي عن زوجي بسبب رفضه وعدم تقبّله شخصيتي، بالإضافة إلى وضع الجيل اللاحق الذي خرج وذهب إلى الجامعة بسهولة، مقارنة بأمهاتنا اللواتي كافحن لأجل أن يدرسن في الجامعة، جيلنا نحن الذين ذهبنا إلى الجامعة بسلاسة، أما بناتنا فأصبح من الضروري ذهابهن إلى الجامعة.
هذا الموضوع كان فكرة كتابي الأول (جدّي إلى أين؟!) وهي قصة امرأة من حلب.. كانت الفكرة مختمرة في رأسي فكتبتها، فقرأ صديقي الصيدلاني ماكتبت، وطلب مني مواصلة الكتابة وطباعة الكتاب.. وكان أن استشرت أستاذاً في اللغة العربية إذ غلب في كتابتي اللغة العلمية، وعندما طبع الكتاب بكيت خوفاً، لأن الكثيرين قد يرفضون أفكاري، والآن أصبحت مباحة للكل، والكل بإمكانه مناقشتي بها.
وهكذا كانت البداية وتجربتي الأولى في الكتابة. أما تجربتي الثانية (حدث هنا في حلب) فكانت بعد أن استمررت في الكتابة، ولم أتوقف، إذ كنت أجد فيها متعة، وتنفيساً عما نعيشه. كنت أكتب يومياً..ففي الفترة التي بدأ النزوح فيها، استعنت بنساء ليساعدنني في موضوع الأشغال اليدوية، الهواية التي أحبها وأقوم بها، ووجدت أن عملهن بحاجة إلى تطوير نحو الأجود، فدرّبتهن لمدة عام من 2012- 2013 ، أي في فترة الحرب… فمن خلال جلوسي الطويل مع تلك النسوة، وسماعي لهن ولقصصهن التي عانين فيها من الحرب، قلت في نفسي لابد من كتابة هذه المعاناة، كي يعرف الناس ماذا حصل في حلب، فمن يعيش في الخارج لايعرف تفاصيل هذه المعاناة. لذلك نقلت هذه المعاناة التي كنت أسمعها منهن، إذ كانت تتفتح الجراح، وتتلاقى القلوب، وينساب الحديث مدراراً.. بعض الشخصيات قد ألبستها مما لم تعشها لكن هناك أناساً آخرين قد عاشوا الأحداث ذاتها.
عن أكثر القصص إيلاماً، تلك التي حصلت في حلب، قالت: قصة المعبر هي الأكثر القصص إيلاماً في نفسي، فوجود معبر في حلب كان مؤلماً جداً، وماجرى خلال فترة المعبر، والحصار الذي ألمّ بالمدينة، أن يصحو أهل حلب ولايجدون المأكل والمشرب، هذا أمر غير إنساني، إضافة إلى أننا كمدنيين كنا نعيش في الجحيم، كم عدد الأيام التي عشناها خوفاً من سقوط منطقة كشيحان مثلاً. كل هذا كتبته في كتابي. في إحدى الصفحات كتبت ماجرى في إحدى الليالي التي لم ننم فيها ونحن نسمع أصوات القذائف والاشتباكات، كانت المعركة على أشدّها، وكم عانى أهل حلب من هذه الحرب! لقد شبّهت المعبر بجدار برلين، أمعقول أن يحصل في حلب ماحصل؟! في آخر الكتاب أشرت إلى أن أمنيتي كتابة النهاية لكن كان من الصعب الانتظار حتى النهاية، كنت أريد نشر ما حصل معنا، وكان لابد من تثبيت موقف تجاه هذه الحرب، لهذا أخذت موقعي وكتبت، والحمد لله لقد استطعنا الصمود وقلبنا الطاولة على الباطل وأناسه، وأظهرنا وجه الحق.
ولذلك طبعت الكتاب دون تردد كما حصل معي في الكتاب الأول. وفي حفل توقيع الكتاب جاء مايقارب 80 شخصاً، وجوه أتت لترى ما الذي كتبته صيدلانية في الأدب.
أما حلب في مخزونها الفكري، فتقول د. منى:حلب تعني لي الكثير، فهي الماء وأنا السمكة، كل فترة الحرب لم أخرج من حلب، جاءتني الكثير من الدعوات من الأصدقاء والأقارب للسفر خارج سورية، وكنت أقول لهم إن كنتم تخافون عليّ من الموت، فالموت لي هو الخروج من حلب!.

وقفة مع أمكنة الرواية
تضمحل الأمكنة في هذه الرواية، الأحداث والقصص تجري في القسم الأول من الرواية من دون ذكر الأمكنة، خلا بعض الأمكنة التي تشير الكاتبة إليها حين تروي لنا قصة الحاجة زهيدة، ومنها المعبر، والمدينة الجامعية، فما حصل مع الحاجة زهيدة ونزوحها المتكرر من بيتها وبيوت أخواتها لم يكن لاسم المكان فيه ظهور، فحين يكثر النزوح تغيب الأمكنة وتتلاشى، ويصبح المكان الوحيد هو حلب بكل مايشي هذا الاسم، في أثناء الحرب، من موت ودمار ونزوح وآلام.
هذا التغييب المقصود لأسماء الأماكن يترك آفاق التمثل الوجداني للعمل، ومسارات تخيله وفهمه مفتوحة. فرغم ما يجعل القارئ مصاباً بالدوار، إلا أنه يشعر بأريحية واضحة في تشكيل صورة المدينة، والشخصيات التي يقرأ عنها.
أما حين يحدّد المكان فهناك موت وجراح وألم ودماء، هناك تلاشٍ. وما أكثر أمكنة ومناطق حلب التي سالت فيها الدماء إثر سقوط قذيفة هاون، أو جرار غاز.
بعض تلك المناطق التي تشهد موتاً ودماء أطلق عليها مثلث برمودا، مثلث رعب، أحد هذه الأمكنة، الموكامبو، تقول الراوية: “الموكامبو واحد من مثلثات برمودا في حلب، قد يختفي فيها أحدهم إذا توافق مروره بها مع سقوط قذيفة متلاشياً فلايبقى منه أثر، وقد تفاقم الأمر فيها، كثر لم يعودوا يمرون بها خوفاً من التلاشي”.
وهناك أيضاً السليمانية التي لم يتلاش فيها الناس وحسب بل والأبنية أيضاً: “غابت الشمس وبدأ قذائف الهاون تتساقط على أطراف المدينة، قذائف من نوع جديد، هناك من قال إنها صواريخ زوّد بها المسلحون مؤخراً، استمر القصف طوال ساعات الليل، أبنية بأكملها انهارت دافنة تحتها السكان وهم نيام، أخرجت جثث من تحت الأنقاض، وبعض من الأحياء”.
أما معبر بستان القصر فكان مصدر بؤس وذل وألم وجوع وموت أهل المدينة، سمّي معبر الموت، وعبوره يعني الانتقال من حالة إلى حالة، هو طريق للمو، تقول الراوية: “المرور به مغامرة تتيح لنا أن نقول من يدخله مفقود ومن يخرج منه مولود” (2) وكان رمزاً لتجويع أهل حلب، يتحكّم به شبان مسلحون أنهوا عقدهم الثاني أو ربما لم ينهوه، لم يكن الإذلال وحده من نصيب الحلبيين، إذ اصطفافهم وتدافعهم كأنه يوم الحشر، والسير مع رفع الأيدي كان يشعرهم أنهم أسرى الحرب، يرافق هذا التفتيش المهين ورمي الطعام أرضاً. أما رصاص القنص، والرصاص الطائش في المواجهات، قد أودى بحياة العشرات الذين اختلطت دماؤهم بـما هرّبوه من خضر وفواكه وأغذية.
بين شرقي حلب وغربها، تم العزل، ولكن خطوط تماس تشرف على كل المناطق، هذه الأمور يتم الحديث عنها أثناء اجتماع الأصدقاء، فحين روت لنا المؤلفة قصة “زياد” وأفكاره المختلفة ونشأته وترعرعه في بيت أخته، والأسباب التي جعلته يؤمن ماسمّي زوراً ثورة، تقول: “وهكذا حطّ الحديث حول مايجري، وكيف تمكّن الجيش من عزل المناطق التي دخلها المسلحون، وأصبحت تسمى المناطق الملتهبة أو الساخنة وخطوط التقاء المناطق الآمنة بالأخرى كانت تسمى خطوط التماس”.
البيوت التي احتلّها المسلحون فقدت استقلاليتها وكينونتها وأثاثها وأشياءها، تمّ اختراقها والعبث بها وسرقتها، حتى أنهم فتحوا ثغوراً بها لتوصل إلى بيوت أخرى أو أبنية أخرى مجاورة، يروي لنا هذا الاختراق زياد حين ذهب ليطمئن على بيته: “رأيت في إحدى الغرف فتحة واسعة يمكن لشخص من حجمي أن يمرّ بها بسهولة كبيرة إلى غرفة أخرى، لا ليس إلى غرفة أخرى بل إلى بيت آخر وربما إلى بناء آخر”.
في هذه الرواية ترفض الراوية فكرة الهجرة عن الوطن، فالهجرة موت آخر، والدفاع عن الوطن واجب محتم وإن اضطر الأمر حُمل السلاح: “أصبحت الهجرة تعني لي الموت، هل هي لعنة تلاحق السوري أينما حلّ؟! سأحمل السلاح إن لزم، من يستمع إلي كان يسأل وهل أنت قادرة؟! ربما نعم، وربما لا، ويبقى سلاح البناء والعمل، لن أغادر، قررت ألا أموت إلا على أرض الوطن”.
هنا يكون الانتماء الحقيقي إلى المكان في مقابل التشظّي الحاصل فيه على مستويات عديدة، رمزاً لصمود ومقاومة، هذا الصمود الذي يعبّر عن بطولة أظهرها الحلبيّون في معايشتهم كل أنواع الألم والقهر والعذاب والقتل والخطف وغيرها من أساليب اجتمعت لسحق إنسان هذه المدينة، ولم تفلح كل المحاولات للنيل من هذا الانتماء، وماذاك إلا لأنها حلب ولأنه حلبي.

#سفيربرس _ بقلم : بيانكا ماضيّة _ الشهباء

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *