إعلان
إعلان

كتب عبد الكريم البليخ: الرَّقَّة .. درّة الفرات السورية إلى الوراء درّ ؟!.

#سفيربرس

إعلان

في طريقي شمالاً إلى مدينة الرَّقَّة السورية، اجتاز صحراء بادية الشام الممتدة على  مدى البصر، اكتشف أننا جميعاً كعرب نعيش في نفس التقسيم الجغرافي الحتمي  والقاسي، واحات ضئيلة من الخضرة وسط قبضة صحراوية بالغة القسوة والإحكام.

  فالمناطق الشديدة الجفاف من عالمنا العربي تشكّل أكثر من 67 % منه، ولا تشكل المناطق الرطبة والموجودة على سواحل البحار إلاّ 9% فقط، أما بقية النسب فتتوزّع بين أراض جافّة وشبه جافّة، ولا تتلقى هذه المناطق إلا أقل من 200 مم فقط من مياه الأنهار.

 واقع شديد الشظف، وكأن تغريبة بني هلال لم تكن لحظة بقدر ما كانت قدراً ودورة حياة وموت متواصلة في عمق الزمن.  ولعلّ هذا هو السبب في تلك الهالة والقدسية التي تحيط بكل أنهار العالم العربي على قلتها.

 فالنيل ينبع من الجنة وليس من جبال القُمر بإفريقيا، والفرات سوف يُصبح نهر العسل، ودجلة هو نهر الخمر في جنان الخلد، أما نهر الأردن فهو النهر الذي عمّدت مياهه الأنبياء ومازال يتعمّد بالدم حتى اليوم، والمشكلة الحقيقية أنَّ كل هذه الأنهار تنبع من خارج وطننا العربي وتصب عندنا بعد رحلة طويلة ومنهكة، وحتى نهر الأردن الذي كان عربياً خالصاً أصبحت إسرائيل تتحكّم في الجزء الأكبر والأهم فيه. كانت رحلتي تتواصل عبر الرمال حتى أصل إلى حضرة واحد من أهم هذه الأنهار هو “الفرات”.

  الرَّقّة، هي شاهد التاريخ الحي في سوريا. إنّها درّة الفرات كما يحبّ الجميع أن يطلقوا عليها وكل معْلَم منها هو علامة على مرحلة من التاريخ، نبحر  منها للأسفار الأولى في تاريخ البشرية، للصوّانيات الحجرية التي ابتكرها  الإنسان، أدواته للحياة وللقرية الأولى التي انتقاها في “تل المريبط” في  العصور الحجرية فسبقت غيرها، وإلى البوابة التي ولج منها أبو هريرة وتل  أسود نحو البداوة والرعي والزراعة لنصل إلى “توتول” الشاهدة على نهضة  العصور التاريخية القديمة بعماراتها واقتصادها وقوتها وشريكة ممالك إبلا  وماري وإيمار، وإلى سورا الحصن الحيثي والأشوري، والرّصافة الأولى وطريق  الحرير والصفحات الطويلة من الكرّ والفر بين ممالك العصور الوسطى التي طبعت  حكاياتها على الألواح والرقُم المكتشفة، ويصطفي الفرات من قصص الغابرين  المآثر في العصور الإسلامية للرّقّة فتفتح وتحتضن صفّين وشهداءَها، وترتكز عليها جيوش الفتح نحو أرمينيا وتقترن رصافتها باسم هشام ابن عبد الملك الذي  يبعث فيها الحياة الزاهرة، ويرتقي بها العباسيون إلى ما هو مميّز،  فيهبها  المنصور “الرافقة” حاضرة تتندر بطابعها المعماري.

 في هذه الكلمات الموجزة يتكوّن تاريخ كامل، رقائق من الرمل واحدة فوق أخرى، ولعل تلك  المدينة الفراتية قد اكتسبت اسمها وصفتها من تلك الرقائق التي يتركها ماء  النهر عندما ينحسر عنها، لقد كانت تلك المدينة الحدودية ـ شأن كل المدن  الحدودية في سورية ـ ملتقى ومنفى، ملتقى للقوافل العابرة والثقافات الوافدة وقبائل  البدو التي تبحث عن مستقر من الأرض فيه زرع وماء، ومقراً للحاميات المرابطة  وزاداً للجيوش الخارجة للفتح، كما أنّها كانت أيضاً منفى لكل أصحاب الأصوات  العالية الذين كانوا يجأرون بالرفض في وجه كل أنواع السلطات، ولاة أو عثمانيين أو فرنسيين، ولعلّ هذا هو ما ملأ تاريخها بكل تلك الحيوية وجعل  الكثير من سطوره حافلة بالتفاصيل.

فقد سبق أن تحولت الرَّقة، وللأسف، من مدينة زراعية بامتياز، إلى مسرح لعمليات “داعش” والخراب والدمار الذي جلبه إلى أهلها البسطاء الطيبين، وظلّت إلى فترة قريبة تئِن من الألم، وتعيش الفاقة بكل مؤسياتها..

وكانت مجرد غنيمة، استسهلها الغُزاة من كل حدبِ وصوب، ومورد رزق غير عادي لكل من حاولَ التحايلَ على أهلِها، واغتصب منتوجاتهم، ونهب خيراتهم، وأبقاهم جياعاً مهمّشين أذلاّء يلتمسون الحاجة، نتيجة الفقر المدقع الذي أصابهم في الصميم، في ظل الظروف الحالية التي عايشوها على مدى السنوات الثمانية الماضية.

الكثير من الصور الخرافية تصدّرت المشهد المؤلم بتحويل الرّقّة إلى مدينة أشباح، ولحقها الدمار شبه الكامل، ما يعني مسحها عن بكرة أبيها من الخارطة السورية بذريعة محاربة “داعش”، وهذا ما أنهك كاهل أهلها، وشرّدهم وأبعدهم عن منازلهم ملتحفين السماء، وحوّلتهم إلى مجرد أناس مسلوبي الإرادة، وهم في الواقع، ليس لهم “لا بالعير ولا بالنفير”، وموردهم الأساس ما تنتجه الأرض التي تعود إليهم ببعض الأمل.

حياتهم هذه انغمست فيها الكثير من المنغصّات، وتجسّد ذلك، وبوضوح، بدخول اللصوص والمرتزقة، والقتلة ومن كل أصناف البشر، وأتوا على كل ما يمكن أن يَسد رمق أبنائها الذين، هم بالكاد باتوا قادرين على تأمين لقمة سائغة تخفّف عنهم وطأة الحاجة الذليلة!.

الأفكار تعيد بالذاكرة إلى هناك، حيث الرّقّة، المدينة التي عشنا فيها أيام الطفولة والصبا، وأمضينا فيها بقية العمر، إلى أن غادرنا أراضيها وقلوبنا وعيوننا تحدّق إلى دروبها وحاراتها، وشوارعها العريضة، طرقاتها الواسعة، وإلى ذاك النهر الفيّاض، الذي يزوره أهل المدينة في قيظها الحار صيفاً.

فالرَّقّة، وبكل هدوئها، ونبضات قلوب أهلها وطيبتهم وعشرتهم وأمانيهم وتوادّهم، ظلّوا كما هم، لم تغيّر الحياة بهم شيئاً، على الرغم من الأحداث التي حملت الكثير من الهموم والأوجاع والآلام، والفراق!.

هذه مدينة الرّقّة. مدينة الخليفة العبّاسي هارون الرشيد. المدينة التي أنجبت الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي، رحمه الله، كما أنجبت المؤرخ والباحث، مصطفى الحسّون، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى، والكثير من الأدباء والوجهاء، وغيرهم ممن حفل بهم تاريخ الرّقّة المعاصر.

الرّقّة، لم تستل يوماً خنجراً ولا سيفاً، ولم يُطلب ابنها إلاّ العيش برغد، وأمان واطمئنان. العيش ببساطة، وفي ظلّ إمكانات محدودة، وقبل بكل ما فيها، وتحمّل الأوجاع!

فابن الرّقّة، ظلّ دائماً مسالماً، متألقاً، مقداماً، وأكثر ما يميّزه عن بقية أقرانه، شهامته، وأصالته، وبساطته، وكرمه، وانفتاحه على الناس.

إنَّ ابن الرّقّة، لم يكن في يوم ما ميّالاً للحقد، أو الاقتتال، بل كان أكثر ما يَمِيلُ للتسامح، والبعد عن عقدة المظهرية، والبساطة في لباسه، وبصورةٍ خاصة، لجهة ابن الريف الذي يزورها مع الصباح الباكر، جالباً معه، ما تنتجه أرضه الخيّرة، من القطن “الذهب الأبيض”، ومن أنواع الحبوب والخضروات، فضلاً عن اهتمامه بتربية الأغنام، وما تنتجه من مواد أساسية لها طابعها الخاص لدى ابن الرّقّة.

 الرّقّة، لها شُهرتها بصناعة الجبن البلدي، والسَّمِن العربي، والّلبن “الخاثر” الذي أكثر ما يَلقى روَاجاً لدى سكان المدينة، لأهميته في حياتهم اليومية، وهو من الوجبات الرئيسة، وأكثر ما يتناول في الإفطار وفي الظهيرة، ولا تخلو وجبة الغداء عن حضوره، ويتناول كسائل، هو ما يُعرف باللبن، ناهيك عن البيض العربي، وحليب الأبقار، وهي الأخرى، صار لها حضورها في ريف المحافظة، والإقبال الشديد على تناوله، بعد أن لاقت تربيتها اهتماماً خاصاً من قبل الأهالي، أصحاب الخبرة.

وتقوم الرَّقّة اليوم، إلى الشرق من حلب عاصمة بلاد الشام الاقتصادية على مسافة تبلغ مائة وثمانين كيلو متراً، إلى الشمال الغربي من مدينة دير الزور أكبر مدينة عربية على الفرات .. والتي تبعد عنها بمقدار مائة وأربعين كيلو متراً.

وعند نقطة من هذا الطريق تُدعى “المقصْ” يتفرّع طريق طوله ستة كيلو مترات في اتجاه الشمال الشرقي ليتصل بجسر حديث البناء على الفرات، يؤدي مباشرةً إلى مدينة الرّقّة.

وتعتمد الرّقّة على نهر الفرات العظيم الذي يقذف في كل نصف دقيقة من الزمن ما يكفي لاستهلاك مدينة كبيرة في كل يوم.. لهذا قامت على ضفتيه زراعة كثيفة، يحتلُ القطن فيها مكان الصدارة، ويتلوه في الإنتاج القمح ـ ذهب المستقبل ـ والخضار بأنواعها.

وللرّقّة شهرةً عظيمةً بزراعة البطيخ الأحمر والأصفر، الذي كان يُصدّر إلى عاصمة العباسيين، إذ لا يزالُ العراقيون يطلقون عليه اسم “الرقّي” نسبةً إلى الرّقة، وهو الذي يُدعى “الحُبْحُب” في الحجاز، و”الجُحّ” في نجد، و”الجَبَس” في حلب، و”الدِبْشِي” في دير الزور والرّقّة، و”الدلّاع” في كل أقطار المغرب العربي، مثلما كانت مشتهرة بزيتونها وزيتها وصابونها المعطر.

فالرّقّة، وأهلها يجمعهما خطّان متوازيان لا يمكن أن يفترق أحدهما عن الآخر، أضف إلى ذلك أسواقها المتواضعة التي يلتقي فيها الأصدقاء والمعارف والأقارب، والتي تشتمل على العديد من اللوازم ومتطلبات الحياة اليومية.. وزيارة هذه الأسواق تظل لها مكانتها الخاصة في قلبه ووجدانه.

فابن الرَّقّة، تحمّل على مضض، الواقع المتردي الذي يعيشه، نتيجة غياب الخدمات الأساسية، التي يمكن أن تدفع به نحو حياة طالما حلم بها، ما يعني أن أهلها صاروا أسرى الحاجة، بكل ما تعنية الكلمة من معنى.!.

#سفيربرس ـ بقلم : عبد الكريم البليخ ـ رأي اليوم

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *