إعلان
إعلان

أمّ إخوتها ..بقلم : إيمان الدرع

#سفيربرس

إعلان

إنه اليوم الأول للعيد بعد ثبوت الرؤيا ليلة أمس , أمضت الدقائق الأولى من صباحه الغائم بشعور يغمره الفرح والترقـّب , والشوق العارم إليهم , هذا الشوق الذي يأخذها إلى دهاليز ودروب عتيقةربطتها بهم بوشائج أقوى من أن تفنّدها لأنها من الرّوح , من النبض , من النسغ , ومن ندى العيون .

إنهم إخوتها , أحبّتها , فلذاتها , ولجوا قلبها الحاني الذي ضمّهم وحدهم , وقد تنازعت فيه أقوى عاطفتين : الأم والأخت , بعد أن فقدتْ أبويها في حادث مروّع , زلزلها .

نسيت أنها امرأة عاشقة لزوجها الذي جمعتها به أيّام الزفاف الأولى التي لا تغيب , وقد وضعته أمام القرار الأصعب الذي لا خيار فيه : ستغلق دارهما البعيدة عنهم , وتعيش بينهم قرب مدارسهم .

أثارت في قلبه كل الحنايا والكنوز الدافئة التي قدّمها بسخاءٍ حبّاً فيها

..و استماتتْ بكلّ ما أوتيت من طاقة للصبر أن تكون مُنصفةً في عاطفتها لكليهما, تمزّقها المشاعر المتضاربة التي يحاول كلّ طرفٍ أن يستأثر بالقسم الأكبر منها .

ذبُلَتْ ,ونحُلَتْ.., ورويداً اختفتْ نضرة خديها , ونامتْ عَتمة شعرها الغجريّ , على أضواءَ باهتةٍ منسيّةٍ , وشاختْ ثيابها التي كانت زاهيةً مثيرةً حلوةً يوماً .

نبّهها مراراً , قرع في وجهها أجراس الإنذار علّها تلتفت إليه , لمناداة جسده ومحاورة قلبه , تعذره للحظات , فتتمدّد قربه مُنهَكةً في بقايا جسد امرأةٍ كانت تلهبه بعواطفها يوماً ,و ترتدي ثوب عاشقة الليل للحظات لتهرب خلسة آخر الغسق مندسّة في فراش إخوتها , تغطيهم , تعانقهم , تسكـّن سعالهم بالدواء وبالحب , ثم تنظـّم دفاترهم وترتـّق مراييلهم المدرسية التي مزّقتها شقاوتهم. .

تتواتر في المقابل جرعة الألم والمكابرة وتتوسّع دائرة الصراع حدّ الانهيار

, فتبكي بصمتٍ أوجعه أكثر .

بحث عن عمره الذي ضاع بين دروب تضحيات تترى سلبتْ منه سويعاتٍ كان يتوق إليها بشغف وحرم منها دون أمل ,

انسحب لمـّا آثرتْ الخيار الثاني في البقاء معهم دون تردّد

, ومن يومها تحوّل إلى ذكرى حلم لم يكتملْ , واختفتْ ملامحه من حياتها رويداًرويداً حتى غابتْ وراء الغيم .

وتفرّدوا بذرّات الحنان المستفيض بلا حدود , تنظـّف , تطهو , تغسل , تعلـّم , تلفّ شطائرهم , توصلهم لمدارسهم ذهاباً وأوبة ً , تمسح عنهم دموعهم وحرمانهم .

استشعرتْ أن الإيراد البسيط الذي كانت تجود به ليرات مرتّب أبيها المعدودات لم تعد تكفي ,. عملت في الحياكة التي أتقنتْها بعد إصرارٍ عجيبٍ , وكفتْهم عن أي حاجةٍ للغير , وتناسَوا مع الأيام مأساتهم , سدّتْ لهم هذا الشرخ بكل ما أوتيت من فنون الحب والعطف , تهدهد أنوثتها حتى أخرستْها , وألجمتْ كلّ من كان يحاول أن يذكـّرها بها , أو يلمـّح لها بوحدتها عند هرمها , بعد أن يرحلوا عنها ويتزوجوا ويشقـّوا دروبهم .

كانت تراهن عليهم بأنهم أولادها , قبل أن يكونوا إخوتها , ولن يخذلوها , تقول ذلك وهي تشدّهم إلى صدرها تعانقهم , تمطرهم بقبلاتها الدافقة وتمسح شعرهم. .

والآن قد كبُروا

, ورحلوا , وأخذتْهم دروب الحياة , ولكنهم بقَوا في قلبها هؤلاء الفتية الصّغار الذين كانوا يلوذون بها عندما يبكون ويرتجفون , وتلسعهم لفحات الأيام,

هذا الحضن الدافئ لم يخذلْهم يوماً صغاراً ويافعين وكباراً , نعم نادتْهم شطآن البحار وأبعدتْهم عن المرفأ إلى جزر مسافرةٍ ، ولكنهم يؤوبون معتذرين يطلبون السماحة والأمان , فتصفح عنهم في كلّ مرة يكفيها ضمـّة صغيرة منهم تستنشق فيها أريج طفولتهم التي سكنت أنفهاواستوطنت ذاكرتها .

أشدّ ما كان يفرحها إصرارهم على التجمّع عندها على مائدة إفطار العيد

,في السويعات الأولى من أول أيامه ,هذا الإصرار الذي يجعلها تكسب الرهان بأن تضحيتها ما ضاعت وأنها ما هانتْ عليهم رغم مشاغلهم .

أصوات المكبّرين عبر التلفاز

: ( الله أكبر . الله أكبر .ولله الحمد , الله أكبر كبيرا ً والحمد لله كثيراً )

تداخل شوقها إليهم بالنور الذي أشعلته فيض الكلمات في خلاياها

, تهزّ في وجدانها صوراً شتى صوراً تظهر وتخبو , تارةً تضحك وأخرى تثرثر , وأخرى تبكي , وأحايين تزغردُ على وقْع طبول أفراحهم وأعراسهم وشهاداتهم العليا .

عيونها تعود لتعبر من النافذة إلى الشارع المقابل لبيتها , لم تجدْ أحدا ً ، تخطو إلى المطبخ تحمل الأكواب و الصحون اللامعة الملوّنةبالأصناف التي يحبون , تضعها على الطاولة بذوقٍ ملفتٍ ., تعود إلى النافذة , قلبها يستعجلهم بدقـّات متواترة .

وجدت جماعات من الرجال والشبّان والفتية وقد خرجوا لتوّهم من المسجد المجاور يتبادلون التحايا والأماني بوجههم الطَلْق الذي ينسيهم في هذه الأوقات المباركة كل صراعاتهم , وتظهر فطرة القلب الصادق الذي جُبل عليها الإنسان , والذي يخنق الفضائل تحت وطأة قانون الغاب .

تعود إلى قهوتها الساخنة

, تضع فيها حبّات الهيل , وهي تتخيّلهم كيف يرتشفونها بإعجاب كما في كلّ عيد .

مضت أوقات أخرى خفق قلبها من جديد

, تشاغلت عن الدقائق البارقة كالسيف بمتابعة التلفاز الذي يضجّ بأغنيات العيد وأفراحه , اقتحمتْ عالمه المليء بالألوان المزركشة التي يرتديها الأطفال وهم يلعبون ويمرحون , و بحيويّة المذيعين وضيوفهم .

سرتْ في روحها صور أطفالها من جديد , تحرّكت عندها نوازع الشوق أكثر .

تنبّهتْ إلى وقع خطوات عبر الدرجات المقابلات لشقّتها

, همّت بفتح الباب , اختلاط الأصوات الضاحكة المهنّئة وفَتْح الباب المجاور الذي يستعدّ لاستقبالهم أكّدت لها أنها غريبة عنها , فهي تميّز أصوات أولادهالأنها تجاور أضلاعها قبل أذنيها .

عادتْ تصفّف قطع الحلوى التي سهرت الليل في إعدادها

وهي تتصوّرهم يتناولونها بنـَهَم كما كانوا يفعلون .

ضجّة التلفاز وأغنياته الهادرة تزيد من إتلاف شرايينها ,تهرع إليه تخفض صوته، تلفّ جسمها الناحل بشالها الصوفيّ وتلقي بنفسها على الكرسيّ الهزّاز تؤرجحه بصمتٍ رهيبٍ ,

رنّة الهاتف تعلو , تهبّ من فورها , تمسك السمّاعة بيدها الراعشة , صوت أختها يرجوها قبول الاعتذار عن تأخرها واحتمال عدم قدرتها على الحضور نظراً لتجمّع الأولاد والأصهار والأحفاد عندها بعد قدوم ابنتها ليلى من الخليج لتعيـّد بينهم , ولمّا سألت عن إخوتها ؟ تلعثمتْ وأجابت : بأنها لا تعلم .!!! لعلّ أحدهم في سفر !! قالت لها والآخر .؟ ردّت سمعت أن امرأته أوشكت على الوضع , تابعت السؤال : وأصغر العنقود؟

ـ إنه في طريقه إليك لقد أكّد لي ذلك

, لست أدري لم تأخرْ حتى هذه اللحظة .؟؟؟!!

أقفلتْ الهاتف بهدوء تصطنع إجاباتٍ باردةً

, تخفي تحتها براكين دموع ., راحت منها التفاتة غير مقصودة إلى المرآة الكبيرة التي تتصدر الحائط , هالها الثلج الذي غطّى شعرها مرتعداً , والأخاديد الغائرة في ثنايا وجهها , والهشاشة التي اعترت عظامها الناتئة , والملابس الصوفيّة السميكة التي لم تفلح في تعويضها عن الدفء المفقود .

لفّتْ جسدها بشالها من جديد

, وبمحاولةٍ يائسةٍ وقفت قُبالة شبّاكها تشكو وحدتها ولهفتها في أن تجد طيفهم . , تخيّلتهم يأتونها لاهثين كعادتهم, يعتذرون عن التأخير وهم ينحنون على يدها يقبلونها كي تصفح عنهم , حتى تلاشت هذه الاعتذارات رويداًرويدأً فصار غيابهم بلا مقدّمات ولا مسوّغات حتى وصل إلى أعتاب سويعات العيد .

خابت ظنونها عندما لم تجدهم بين كل هذي الوجوه الضاحكة المتشابكة والمتعانقة

, ألقت بنفسها من جديد على أريكتها , تشاطرها الأزيز والأنين والوحدة والانتظار والترقـّب

نقرات على الباب

, هبّت واقفةً , تناستْ خطواتها المتثاقلة وأوجاع عظامها , حادثتْ قلبها :أما قلت لك أنهم سيأتون .؟؟!! هم أحبابك أيها القلب كيف لا يأتون؟!! هم أولادك وأخوتك كيف لا يأتون .؟؟!!

لا يحلو لهم العيد من دون رؤيتي

, ولن يشعروا به إلا عندي , كيف لا يأتون .؟؟؟!!

فتحت الباب دون سؤال ,دون استفسار عن القادم .

تسمّرتْ عيناها الضعيفتان

, وجفّ ريقها , واختلجتْ أوصالها لمـّا توضّحت لها صورة القادم شيئاً فشيئاً , إنه سعيد ابن الرابعة عشرة الذي يقطن في البناء المجاور , جاءها معايداً ملهوفاً مهنئاً.. : كل عام وأنت بخير يا خالة , هل تسمحين لي بالدخول..؟؟.

#سفيربرس _ بقلم  : إيمان الدرع

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرا لصحيفة سفير برس الرائدة
    وللسيد محمود الجدوع رئيس التحرير
    ولكل الأساتذة المشرفين
    شرف عظيم أن أرى نصوصي هنا في واحة الثقافة والأدب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *