القطار الأزرق ينطلق من دمشق الشكل الأحدث للرواية العربية. بقلم : د. آداب عبد الهادي
#خاص سفيربرس

من دمشق المدينة الأقدم والأجمل، من دمشق الشامخة الأبية، دمشق موطن الإنسان الأول والحرف الأول، دمشق النابضة بالحياة والحب والجمال، دمشق العصية على الخراب والموت، دمشق ياسمينة الأرض وعبق الأرض وجمال الأرض، من روح كل هذا العطر انطلقت أزهار الياسمين لتفوح بعطر ساحر كعطر الأنقياء في الجنة ، فرع من شجرة الياسمين حمل سبع زهرات بيضاء نقية ناصعة, من غصن واحد وفرع واحد وعطر واحد ولون واحد، سبع زهرات فارعات نثرن عبقا وعطرا ذكيا ملأ ريحه الملائكي ليس الشام وحدها بل كل عالمنا العربي وربما وصل إلى أقاصي الأرض، إلى قطبيها وإلى أمريكا، سبع زهرات من ياسمين الشام ولأول مرة في تاريخ أدبنا العربي تفوح منه هذه الرائحة الذكية التي تحدت رائحة الدم والموت، تحدت الخراب والدمار تحدت الألم والقهر لتصنع من عصير روحها قطارا أزرق له لون السماء ليكون الأول والأجمل والأكبر والأشجع والأجرأ في تاريخ أدبنا العربي.
فاتن ديركي وعماد نداف وجمال الزعبي وسهيل الذيب ومحمد الحفري ومحمد الطاهر والأمريكي السوري مقبل الميلع
زهرات الياسمين التي توحدت على فرع واحد و من نسغ واحد عانقت وريقاتها وجه الشمس وتحدت عيونها الوهج الحارق لتصرخ من روحها معلنة أننا هنا، هنا باقون ، صامدون أحياء نتحدى وسنبقى نتحدى، نتحدى وننجب ، وننجب لنتحدى فكان الوليد الأول(القطار الأزرق) رواية تحت عنوان (التشاركية) جاءت في 253 صفحة من القطع الكبير، غلافها المميز من تصميم الفنانة المبدعة آكاد نداف التي جعلت الغلاف الأول لمقدمة القطار الأزرق متواجها مع ظلال سبعة ، أظهرتهم في الغلاف الخلفي بصور واضحة لكتاب الرواية الذين قالوا أنهم اتفقوا على الحلم ربما لندرة الأحلام وتلاشيها من الذات العربية وسيطرة الكوابيس محلها لكن الكتاب السبعة أصروا على الحلم و حلموا وقصوا ما حلموا به فكانت رواية القطار الأزرق في محطة تحولت إلى بيت للحلم.
ليس العجب أن يحلم سبعة أفرادا حلما واحدا، لكن العجب أن تحتار أيهم خطت أنامله ذلك الحلم، أن تحتار أن الكاتب واحد أم سبعة، العجب أن تكون الكلمة واحدة للسبعة والعاطفة واحدة للسبعة والروح واحدة للسبعة، أي تمازج وأي تماهي وأي انصهار حدث ليخرجوا بروح واحدة عصارة أرواحهم السبعة،التي هي أرواحنا نحن الجماعة المحتجزة في محطات الحياة…ربما كان السبب الأساسي لهذا الحلم هو السعي نحو الانتماء والبحث عن جماعة يتشارك أفرادها في المصير بعد أن حل الانشقاق والتفرد في الشخصة العربية المأزومة بكل الاتجاهات والتي فقدت قدرتها حتى على الحلم فقررت أخيرا أن تصنعه، أن تخلق الحلم رغما عن الوعي واللاوعي الفردي والجمعي.
من الصعب أن تكتب عن عمل واحد بروح واحدة وبعاطفة واحدة لسبعة شخصيات من المفترض أن تكون متباينة، هل الإعجاز هنا، ربما هنا موطن الدهشة لكن بما أننا في الشام فلا غرابة فالشام بلد المعجزات ومنبت الجمال والخير والحب،ومنطلق القطار الأزرق الذي بات شكلا جديدا للرواية العربية التي اتخذت على مر العقود الماضية شكلا واحدا ولونا واحدا وقالبا واحدا ليأتي القطار الأزرق متفجرا في عالم متفجرمحطما كل تلك القوالب والأشكال صانعا لنفسه الشكل الجديد والأحدث، ويمكن القول أن الرواية العربية دخلت في المرحلة قبل الأخيرة من مراحل تطورها إبان الثورات والحروب التي حدثت في العقد الأخير في العالم العربي و التي جعلت من الكاتب العربي والمثقف العربي يقف متواجها مع ذاته مرة ومع التغييرات الجذرية فيما حوله مئات المرات، ومن عمق هذا التغيير وهذا التفجير تأخذ الرواية العربية شكلها الجديد لتترجم التغير الحاصل في شخصية و حلم الكاتب العربي حيث حل حلم القطار الأزرق والخلاص محل الأحلام الكبرى التي تلاشت ربما إلى غير رجعة كالحلم بالوحدة والحرية والعدالة والديمقراطية والقومية بكل أسف.
وبما أن الرواية من أكثر الفنون الأدبية قابلية للتطوير والتحديث والإتيان بكل جديد مع المحافظة على المقومات الأساسية لها، كان القطار الأزرق رواية متكاملة بكل ما تحوية الرواية من معنى.
بدءا من الشكل العام الذي كان جديدا وجريئا حيث أن الشخصيات المتفاعلة والمتحركة والمتأزمة في الرواية هم (أنا الكاتب أنا البطل) الكتاب السبعة الذين اتبعوا أسلوب السرد المباشر بقالب واقعي وبأحداث منطقية وبشخصيات نعرفها ونعيش معها ونشعر بها وتحادثنا بلهجتنا وبلغتنا وبمفرداتنا لها آلامنا وأحزاننا، لها طموحاتنا، لها فرحنا وترحنا لها مالنا وعليها ماعلينا، إلى المضمون الحكائي في الرواية الذي أجاد بمهنية وحرفية متميزة نسج خيوط الحبكة الروائية بطريقة متقنة فتحتار من أي من الكتاب السبعة كان صاحبها فكانت حبكة انصهرت فيها الأوراح السبعة لتخرج لنا من عجين الروح ذلك الرغيف الطازج ذو الرائحة الذكية.
بدأت الحكاية مع شخصية البطل في الرواية عماد نداف متجها إلى محطة القطار يرافقه صوت تلك المرأة الباهية الساحرة ، فجاءت بداية قوية متينة بالسرد والوصف والعاطفة ، بداية لا تقل أهمية عن بدايات الروايات العالمية بلغتها وبطريقة السرد وبالمفردات الجذلة فكان أول الواصلين إلى المحطة لتتالي بعده الشخصيات تباعا واحدا بعد الآخر بانسيابية وبأحداث منطقية بعيدا عن التصنع والمبالغة والتفريط، إلى أن اجتمع السبعة في مكان واحدا لكل منهم حكاية لقدومه وقصة موجعة في حياته،ولكل منهم ملامح شخصية خاصة في الرواية لها تفردها وتميزها ووحدانيتها، فشخصية الطاهر لا تشبه شخصية الحفري وشخصية الذيب لا تشبه شخصية الميلع وشخصية الزعبي لا تشبه شخصية نداف وكان لزهرة المحطة فاتن ديركي الشخصية الواضحة شخصية المرأة الواثقة القوية الجريئة التي تحمل هم الدفاع عن المظلومين والمتعبين بكل شجاعة، وهنا يكمن السؤال هل تجرد الكتاب السبعة إلى هذا الحد ليخلقوا لنا شخصيات الرواية من أرواحهم بلبوس آخر يلبسونه على أبطال روايتهم فيخرجوا بهذه الشخصيات المحببة اللطيفة المنتظرة والبائسة أيضا،.من هنا يمكننا القول أن شخصيات الرواية لوحدها بحاجة لدراسة نقدية وتمحيص في كيانها وفي تكوينها بغض النظر عن كون تلك الشخوص هي ذاتها من كتب تلك الرواية وقد نأتي في وقت لاحق لوضع دراسة سيكولوجية خاصة عن شخصيات رواية القطار الأزرق بعد هذه الوقفة العامة للرواية ككل.
من المعروف أن من أهم مقومات أي عمل روائي هو القصة (قصة الرواية )لأن القصة هي روح الرواية ويصح أن تكون هناك رواية بلا قصة لكنها ستكون بلا روح وبلا جاذبية ولاتلقى أي قبول عند المتلقي (القارئ) القصة في هذه الرواية جديدة والقصة هي أن الكتاب السبعة اتفقوا على حلم واتخذوا ركنا ليغفو كل منهم على حدا ويقص حلمه على الآخرين،وبدأت القصة بالحلم على أرض الواقع، فأبطال الرواية يتجهون واحدا تلوى الآخر إلى محطة قطار ينتظرونه ولا يأتي فيحتجزون في المحطة بسبب الاشتباكات بين الجهات المتصارعة خارج المحطة واشتداد وتيرة القذائف هنا وهناك فاجبروا على البقاء أياما محتجزين في محطة خالية تماما من أي شخص آخر غيرهم وهنا يتساءل القارئ كيف حصل ذلك فيكمل القراءة ليعرف ثم يتساءل، وثم ماذا…هل وصل القطار….هل سيصل….. كيف شربوا ….كيف اغتسلوا…… من أين احضروا الطعام……وأجهزتهم الخلوية ما حل بها….. وكيف وأين وبأي طريقة ناموا ، هذه الأسئلة التي تفجرت في ذهن القارئ بل ورطت القارئ مع شخوص الرواية ومع كتابها لدرجة أن القارئ سيصبح أو أصبح شريكا معهم في محطة القطار وهو يضع اللوم على هذه الجهة أو تلك….. هذه التساؤلات التي فرضها القطار الأزرق تعد من أهم مقومات نجاحها كرواية جديدة شكلا ومضمونا.
رواية القطار الأزرق حلم والحلم هو سلسلة من التخيلات التي تحدث أثناء النوم والحلم وسيلة يلجأ إليها الناس لإشباع رغباتهم ودوافعهم المكبوتة خاصة التي يكون اشباعها صعبا في الواقع ولأن الرواية حلم فهناك تخيلات والخيال هو ما يشغف به القارئ ، الخيال هو فسحة الامل وهو الواحة التي يبحث عنها القارئ في هذه الرواية فيجدها عندما نهض البطل عماد في القصة متعثرا بالبقايا وهو يبحث عن الاخرين عندما كانت الرؤيا مشوشة وعيناه امتلأتا بالغبار عندما لاحت له كتلة كائن نحيل تغيرت ملامحه فظنه الحفري مات بالقصف وهو ملقى على وجهه ومزق سرواله فانكشفت ساقه النحيلة كعود القصب وجديلة شعره مفكوكة صبغها الدم ( ويحك يا محمد …لا تقل لي أنك ميت) وفي مكان اخر على مقربة منه كانت فاتن مرمية على الأرض وكأنها تدحرجت فوق تلة رمل فغدت ترابية اللون باهتة لا نبض فيها ولاحياة لم يعد لشعرها الأشقر لونه المتموج الذهبي ولا حقيبتها كانت معها وغابت تلك الرائحة الجميلة التي كانت تفوح منها بعدما أهداها مقبل زجاجةالعطر، رأيت يدها وهي تمسك بشيء تحطم يشبه النظارة الصفراءـ رفعتها فسقط الحطام ثم سقطت يدها هززت جسدها وقلت :قومي لا تخافي ذهبت الطائرات والمسلحون تراجعوا وباء هجومهم بالفشل ، انهضي فربما يأتي القطار، لكن فاتن لم تتحرك وكان فمها فقط هو من يرسم ابتسامة كبرياء وكأنها مقتنعة أن الموت أحلى.
وهاهو ذا سهيل الذيب مرمى فوق كومة من الأشلاء وقد نثر الدوي الكبير الذي أحدثه قصف الطائرات شعره الأبيض فاختلط بتراب ودم، كان مغمض العينين يحلم بغرانيق بيض يطير معها إلى قريته المسبية(قم يا صديقي…قم أرجوك لا تتركني وحيدا)
تمنيت لو أني لم أنج ، وصرت أنوح كامرأة لا أصدق ما أرى
هزتني يده القوية مرة ومرتين وسمعت صوتا قم أيها المجنون ،قم لقد ارتكبت أكبر حماقة في حياتك
هو جمال الزعبي انحنى علي بقامته الطويلة وابتسامته الواسعة وحضنني وهو يردد باكيا وضاحكا في آن واحد لقد نجوت.
وتمتم كلاما لم أفهم معناه إلا فيما بعد (لماذا خرجت من القاطرة تركض كمجنون أثناء القصف).
لم أع سؤاله بشكل جيد لكني رأيتهم يتراكضون من جهة القاطرة المقلوبة (مقبل والطاهر والحفري وفاتن وسهيل وجمال الزعبي يصرخ عماد حي…لا تخافوا عماد حي ليس مصابا لكنه يهذي)).
من أجمل مشاهد الرواية وتخيلاتها المنطقية هذا المشهد الذي خرج فيه البطل عماد نداف من القاطرة بعد قصف شديد على المسلحين خارج المحطة وداخلها فقتلوا جميعا بالقصف وخرج عماد من القاطرة كالمجنون وزاد في صدمته تلك الجثث والأشلاء المتناثرة في أرض المحطة فكان يقترب من كل جثة على حدا ويظنها أحد أصحابه السبعة فالأشلاء متشابهة والجثث واحدة هي جثث ولم يستيقظ من كابوسه إلا على صوت جمال الزعبي ليرى بعد قليل أصحابه يتراكضون نحوه فرحين أنه مازال حيا.
الوصف الدقيق والصورة رغم قتامتها وصعوبتها رغم أنها للجثث والأشلاء والغبار إلا أن ضباب المحطة زادها اشراقا فكانت عين عماد كاميرا رقمية دقيقة لم تنسى أدق التفاصيل وأصغرها كانت عينه بارعه وهو يلتقط صور تلك المجزرة للمسلحين وصور التشظي والتفكك وغياب الوعي والصورة الواضحة والخوف والقلق والتوتر والضياع والجنون عند الكاتب العربي الذي أرهقته التفجيرات والجثث والأشلاء وضياع الحلم.
في محطة قطار وفي زمن الحرب حدثت تلك الرواية.. الحلم… الحقيقة… كتابها هم شخوصها وأبطالها الحقيقيون نحن، نحن من عاش لحظات الرعب والخوف ونحن من تقطعت به السبل ونحن من علق في محطات القطارات والباصات والطائرات نحن ما بتنا نهذي ليلا نهارا بأحبائنا وبمصائرهم المجهولة نحن الذين مازلنا نبحث عن بريق أمل لننطلق من محطاتنا نحن الذين مازلنا عالقين وإلى الآن لم يأتي القطار ولا نعرف متى وكيف وأين سيأتي…نحن الذين نصرخ ونستغيث …نحن الذين نطلب النجدة ومازلنا نرفع عقيرتنا متوسلين. ….أغيثونا يرحمكم الله…لكن أصواتنا كما أصوات المنتظرين في محطة قطار تتبعثر في الهواء بلا رد وبلا صدى وكأنها لم تنطلق أساسا..
رواية القطار الأزرق رواية تشاركية لكنها هذه المرة تشاركية مع القارئ ، استطاع كتابها أن يجعلوا القارئ هو صاحب القصة وصاحب القضية
كانت شخصية القارى متوازية تماما مع أبطال الرواية إلا أن شخصية البطل عماد نداف كانت الأكثر حضورا به ابتدأت الحكاية ومعه انتهت وكاميرا الصحفي عماد نداف هي التي كانت تلتقط الصور وتعرضها لنا بشاشة عرض سينمائية كبيرة واضحة وزيلها توقيعه بجملة (أنا لا أهذي) .
# سفيربرس _ بقلم : د. آداب عبد الهادي