إعلان
إعلان

عن مدرستي التي يسكنها الجان: كتبت لينا هويان الحسن

# سفير برس

إعلان

حدث كل شيء فجأة: انتهت أيام نادي الضباط في اللاذقية، وودعت طفولتي المبكرة وتركتها تكمل بناء أحلامها على رمال الشاطئ. كنت أعلم -منذ وعيت على الدنيا- أنّي بدوية بشكل ما، رغم الحياة المدنية التي كنت أحياها في المدينة البحرية الساحرة “اللاذقية”. يقلّني الأوتوكار صباحا إلى المدرسة، وبعد الظهر أرافق أبي إلى النادي، في الشتاء أتدثّر بالصوف وأتسلّى بالفستق وعصير البرتقال وأراقب أبي يلعب الشطرنج مع رفاقه. في الصيف أقضي المزيد من الوقت في اللعب على رمال الشاطئ.

لكن ذلك انتهى وكان علينا الانتقال إلى قريتنا النائية البعيدة جدًا عن البحر. لأنّ أبي انتقل إلى مدينة حمص وكانت أمي حاملاً ولم تكن جاهزة لمشقة الانتقال. ففضلت إكمال السنة بين أقاربنا لأننا كنا خمسة أولاد أنا أكبرهم.

شكّل البدو قرى مرتجلة: أي نُصب البيت المنسوج من شعر الماعز قريبًا من بضعة قباب مخروطية من الطين اشتهر بها الريف وتخوم البادية في محافظتي حلب وحماة وإدلب.

في قرية أعمامي لم تكن هنالك مدرسة. فكان لا بدّ لأكمل تعليمي من الانتقال إلى قرية أخوالي. سكنتُ عند جدتي وابتدأت أروع مرحلة يمكن أن يعيشها طفل شقي لا يحب الدراسة.

كما قلت لكم المنطقة نائية أي لا كهرباء ولا طرقات معبدة، وبعيدة ذلك البعد الذي يلزم كل شيء ليكون ساحرًا. قضيتُ أيامي في قبّة طينية وغرفتين وحيدتين مبنيتين من الإسمنت في كل القرية.

القبّة المشيدة على أحجار بازلتية مربعة ومنحوتة بطريقة بديعة تمّ السطو عليها من بقايا درابزون لبركة رومانية أثرية! نعم، هكذا فعل البدو بما وصلته أيديهم من الآثار التي تضج بها المنطقة، بل إنّ قلاعًا كاملة هدمت ونقلت أحجارها لاستخدامها أساسات لبيوت طينية متواضعة جدًا.

المهم: بدأت أيامي، أتقاسمُها مع جدتي التي منحتني حرية مطلقة، وقطة بيضاء رفضت مصادقتي ومنعتني من لمس أيّ من صغارها، أمّا الحيّة الحمراء التي استعمرت أساسات القبّة الطينية وملأتْها بذريّتها، فقد توارت عن الأنظار بينما اعتدت على رؤية أبنائها يزحفون هنا وهناك.

المدرسة: هي قبتان بديعتان منفردتان عن القرية. ولا يتجاوز عدد زملائي الأربعة عشر، وهم كل تلاميذ المرحلة الابتدائية في المدرسة، والصف الثالث الذي كنت طالبته الوحيدة بعد أن رفضت زميلتي الوحيدة في كل المدرسة أن تداوم! لأنها لا تريد رؤيتي لسبب لا دخل لي فيه! لكنه يبدو وجيهُا لها، لأن ابن عمي قتل شقيقها قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ لسبب ثأري وقبلي بحت. هكذا غدوت الطالبة الوحيدة بين العدد الإجمالي لطلاب المدرسة الأربعة عشر.

الأستاذ: كان خالي، وكان مدرّسًا لكل المراحل و مديرًا بالطبع. استسلم منذ البداية لحقيقة أنني لن أكون طالبة نجيبة، ولأنه كان قد تزوج حديثًا ويعيش حالة “شهر العسل” لم يكن مكترثًا لحقيقة أنني كنت أذهب إلى المدرسة لأتسلّى واكتشف عالمي الجديد، وحسب.

سرعان ما غدوت أكتشف عالمًا لم أسمع به في المدينة. نسيتُ دروسي ورحت أسمع الحكايات والخرافات بشغف واندهاش كبيرين.

قالوا لي: المدرسة مسكونة!؟ لم أفهم المعنى!؟ أخبروني عن الجان. فالقبتان ملكٌ للجان والقباب الخمس الأخرى الملاصقة للقبتين، مغلقة دائمًا فلا أحد من “البشر” يستطيع الاقتراب منها!!

جان؟! هل هناك قوم آخرون غيرنا؟! لا نراهم ولكن لهم أسماء وعشائر وألقاب وأجناس. انفتحت بوابة “الخرافي” في حياتي في تلك اللحظة وأنا أتتبع آثار جنية اسمها رقية بنت شمهورش وهند بنت الملك الأحمر وسمعت أسماء ملوك لا مرئيين مثل: برقان أبو العجائب وزوبعة، وعلمتُ أنّ الغيلان هم سحَرَة الجان، ورحت أقضي أوقاتي في كتابة مذكرات بخط رديء وسطور مدججة بالأخطاء الإملائية وأصرف وقتي بالأسئلة حول هؤلاء الأقوام وكلما لمحتُ الدّخان المتصاعد من التنور حيث تخبز زوجة خالي اعتقدتُ أنّه الجن وهم يتحركون.

أخيرًا وضع خالي حدًا لمشاكستي التي أرهقته، ومن ذلك أنني سرقتُ أحد صغار القطة البيضاء وحبسته في قنّ الدجاج وتمترست الأم تموء بجنون أمام باب القن، اعتقد خالي أنّ ثمة أفعى دخلت القن فجاء ببارودة الصيد وحين وجدتُ أنّ الأمور تعقدت، اعترفتُ بما فعلت، وأعيد الصغير إلى أمه التي كرهتني كثيرًا.

وافق خالي على أن أرافق جدتي في أشهر الربيع القادمة إلى أرض يقصدها أصحاب القطعان لأجل إشباع مواشيهم من عشب الأرض، وهكذا بدأ فصل جديد مدهش في حياتي تذوقت فيه متعة وغرابة العيش في منزل منسوج من شعر الماعز. وهنا بدأت حكاية أخرى فبينما كان والداي يعتقدان أنني أكمل أخذ دروسي عند جدتي، كنت في الواقع قد نسيت أصلًا ما درسته في الصفين الأوّل والثاني.

كبرت، والتقيت كل أصناف البشر وبينهم المتباهون الفخورون، بالقول مثلًا: “تخرجت من أوكسفورد!!”

والله، يا أصدقاء، تخرجت من مدرسة الجان، وأتحدّى أيّ أحد منكم حظي بمدرسة كهذه، لم أَدرس فيها شيئًا، وفي الوقت نفسه درستُ كلّ شيء!!

أختم بعبارة للشاعرة إميلي ديكنسون: “الطبيعة بيت مسكون -أمّا الفنّ- فهو بيت يسعى إلى أن يكون مسكونًا“.

# سفير برس- لينا هويان الحسن 

إعلان
إعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *