إعلان
إعلان

كتّير حكي: كتبت دلال ابراهيم

#سفير برس

إعلان

في رواية  زوربا للروائي اليوناني نيكوس كازانزاكي , كان جد باسيل بطل الرواية المثقف والقارىء النهم للكتب يحمل فانوسه ليلاً يبحث خارج منزله عن غريب تائه,  يستضيفه في داره ويكرمه حق الضيف , ومقابل ذلك يطلب منه تسديد دين الضيافة ويقول له ” احكي ” ويبدأ الضيف في ” الحكي ” وينتشي الجد مما يسمع من أخبار وأحاديث وحكايات . الجد كان يكتفي بما يسمعه من ضيوفه من أخبار وحكايات دون أن يغادر حدود قريته التي يعيش فيها , لا حاجة له ليضرب في الأرض أو يشغل جهاز التلفزيون أو يمسك جهازه الخلوي ويفصل عالمه عن عالم الآخرين ممن بجواره . واليوم لا أحد يخرج بالفانوس ليبحث عن غريب من أجل أن يسمع منه كلاماً عن العالم الخارجي , فهذا الغريب صار غب الطلب , ونحن الذين بتنا غرباء عن بعضنا, فالبحث عن شخص تائه يحكي لنا الأخبار والحكايات في زمن فيه  مستقبلات فضائية وأجهزة رقمية وانترنيت صار ضرباً من الجنون . مشهد يتكرر وبات مألوفاً , ضمن حيز مكاني ضيق يجمع لفيف من الناس , يكون الصمت سيد الموقف حيث الرؤوس حانية صوب جهاز الموبايل , كل واحد يغوص في عالمه الخاص ولا مجال لأي اختراق. من يجرؤ على شق هذا الصمت فالجواب إما هزة من الرأس أو ابتسامة بلهاء تشي بأنه لم يعرنا سمعه وإنما أدباً منه ابتسم لنا أو هز برأسه ولنا أن نفهم معناها ” لا تفسد علينا عالمنا دعنا وشأننا غارقين فيه ” . جد باسيل ذكرني بجدي وضيوفه في سهرات ما قبل عصر التكنولوجيا المنزلية. ففي غرفة فسيحة خلت من الكهرباء وأجهزتها ينيرها سراج لا يكاد يفي بغرض الإنارة يضاف له ما يشبه الضباب على جو الغرفة من كثرة المدخنين . كان هذا العالم هو تلفزيوننا ومذياعنا وشبكتنا العنكبوتية .  كان هناك دوماً  ” نجم السهرة ” أي ما يشبه الحكواتي في المقاهي العامة,  يحرص يومياً على تسجيل حضوره في السهرة ويستأثر بالحديث مقاطعاً أي كان يريد أن يحكي شيئاً مما رآه أو سمعه , فهو العارف بكل شيء , طبعاً حين دخوله الغرفة كان يسود الوجوم وجوه الحاضرين وأجواء من الامتعاض والغضب المكبوت تكاد تبدو جلية, يتململون من أحاديثه لأن ثلاثة أرباعها لا صلة لها مع الواقع. بينما بالنسبة لي كانت تنبسط أمامي عوالم ذات سحر وجاذبية أشبه بعوالم ألف ليلة وليلة أغرق حتى في تفاصيلها حينما كنت أسمع حكاياه وأكاذيبه التي لم يكن يبخل عليها بمسحة من السحر المنمق . كانت حكاياه متسلسلة ومتماسكة ومتراصة لا اعوجاج فيها , كنت استغرب أين الكذب فيها , تلك التهمة التي الصقوها به , ولا بد لمن ينصت إليه ولديه حسن الظن مثلي أن يفغر فاه ويطلب المزيد من كذبه وبإلحاح الظمآن , ويجعله يتمنى لو كانت له أذن ثالثة تمكنه أكثر من التقاط كل كلامه . كانت معظم أحاديثه تدور حول عالم الجن. وللمصادفة أو بتواطؤ مع جدتي, التي كانت تحاول بشتى السبل ثنينا عن الذهاب إلى الكرم للعب واللهو في ظل اشجاره الوارفة الظلال , وتضعنا دوماً في قفص اتهامها عند أي عملية تخريب تحصل للشجر والحجروالنبات في الكرم الذي كنا لا نغادره منذ ساعات الصباح الباكرة حتى غروب الشمس. كان صديقنا الحكواتي يصر أنه رأى الجنيات في عين موسى ( وهو اسم كرمنا نسبة لعين ماء جارية تنبع منه ) مرة يصفهم لنا أنهم كانوا يرقصون ويدبكون في عرس , ومرة يحكي أنه رآهم يستحمون عند العين المذكورة ويسهب في الوصف ويسرد كيف رآهم يسرحون شعورهم . كل ذلك نسمعه بينما يزيد تكورنا في أمكنتنا على بعضنا نحن الصغار, تتسع أحداقنا, تجف حلوقنا تزداد ضربا قلوبنا يطير النوم من أعيننا ونبدأ نشعر بتلاشينا واضمحلالنا, فتلك الأماكن جميعها مرتع لعبنا وشقاوتنا , معناه هم يعيشون معنا ويعرفون كل حركاتنا. نذهب إلى النوم ونحن نرتجف خوفاً ونتصور أشكالهم وكيف يمكن أن يظهروا لنا في كل لحظة . وبمجرد أن ترسل الشمس ضيائها وتعم الضوضاء والصخب صباحاتها نتنادى لبعض : هيا إلى الكرم متأكدين أنهم ( اختلقوا هذه القصص لكي يخيفونا ونمتنع عن اللعب في الكرم ) .

(  كتّير حكي ) هكذا كانوا ينعتوه في الضيعة . وهذا الكتّير الحكي نفتقده في عصر استمرئنا فيه الصمت والانعزال داخل ذواتنا وكل واحد منا اتخذ لنفسه بصمت هذا الكتّير حكي .

# سفير برس- دلال ابراهيم 

إعلان
إعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *