إعلان
إعلان

اعرِفْ نفسَكَ … قصة للأطفال .. بقلم : الأديبة: ميرفت أحمد علي

#سفيربرس

إعلان

شُوهدَ الثعلبُ يسيرُ في الغابةِ كئيباً شارداً, رغمَ أنَّهُ اصطادَ بالأمسِ غَزالتيْنِ سَمينتَيْنِ، تكْفِيَانهِ طعَاماً لأسبُوعيْنِ اثنيْنِ.
إنهُ في حيرةٍ مِنْ أمرِهِ؛ فالحيَواناتُ كلُّها والنَّاسُ جميعُهُم يرونَهُ مُخادِعاً، يتفادَونْ صُحبتَهُ، ممَّا يُشعرُهُ بالوحدةِ والبُؤسِ. وهو لا يستطيعُ مصادقةَ الحيواناتِ الأُخرى، لأنَّ علاقتَهُ بها علاقةُ تنافُسٍ وتسابُقٍ على صيدِ الطَّرائدِ والغزلانِ.
ما أَقسى الإحساسَ بالوحدةِ! فصديقٌ أمينٌ يـُغني عنْ مائةٍ من الخـَوَنةِ.
بهذا راحَ يفكِّرُ الثعلبُ، ويبتكِرُ طُرُقاً لاسْتمالةِ مـَن يـُصادِفُ في تَجوالهِ.
ـــــ ابتسامةٌ وَدودةٌ، وتحيَّةٌ صباحيَّةٌ، خُطوةٌ جيدةٌ لكَسبِ المحبَّةِ.
حدَّثَ نفسَهُ، وسارَ في الغابةِ مُتفائِلاً.
على مَقْرُبةٍ, لمحَ الثَّعلبُ فلَّاحاتِ القريةِ يَمضينَ لبيْعِ الحليبِ في السُّوقِ, فوثبَتْ إلى وجهِهِ ابتسامةٌ لطيفةٌ:
ــــــ صباحُكُنَّ سعيدٌ أيـُّتها الأخَواتُ.
تراجعَتِ الفلَّاحاتُ خُطوةً, قبلَ أن يعلُو الاشمئزازُ وجوهَهُنَّ الممتلئةَ الغضَّةَ:
ـــــ الثَّعلبُ؟ وأيُّ سعادةٍ في صباحٍ نَرى فيهِ ثعالبَ؟.
تنهَّدَ الثَّعلبُ، وقالَ:
ـــــ بإمكانِكُنَّ تَحميلي سُطولَ الَّلبنِ، وسأُوصلُها سَعيداً إلى السُّوقِ.
ضحكَتِ الفلَّاحاتُ بصوتٍ عالٍ، وعلّقَتْ إِحداهُنَّ:
ـــــ ثعلبٌ لطيفٌ، أكثرَ اللهُ أمثالَكَ مِنَ الأخيارِ.
سُرَّ الثعلبُ، لكنَّهُ شعرَ بحُزنٍ وألمٍ حينَ قالَت لهُ امرأةٌ:
ــــــ ألا تَستَحي أيُّها الغدَّارُ؟. صدقَ مَـنْ قالَ:
(إذا لقيـْتَ الكريمَ فخالِطْهُ، وإذا لقيْتَ اللَّئيمَ فخالِفْـهُ)
ظلَّ الثَّعلبُ مُتماسكاً رغْمَ ما قِيلَ. واصلَ السَّيرَ وهوَ يفكِّرُ في مَعنى اللُّؤمِ, وفي الوسائلِ التي تَنفي عنهُ هذهِ الصِّفةَ.
بعدَ لحظاتٍ، صادَفَ حطَّاباً ينُوءُ بحِمْلٍ ثقيلٍ، فتقدَّمَ إليهِ بحماسٍ:
ـــــــ جزاكَ اللهُ خَيراً أيُّها الرَّجلُ المكافحُ. هلْ أتشرَّفُ بحَملِ رُزْمةِ الحطبِ عنكَ؟
منَ الغضبِ، أَسقطَ الحطَّابُ حُمولتَهُ على الأرضِ. مسحَ العرقَ عن جبينهِ وساعدَيْهِ, قالَ:
ــــــ وهلْ تظنُّ أنَّ حيلتَكَ ستَنطلي عليَّ؟, قلْ هذا الكلامَ لِغَيري.
استجمعَ الثَّعلبُ ثقتَهُ:
ـــــــ جرِّبْني، ولنْ تندمَ يا سيِّدي.
اغتاظَ الحطـَّابُ، وصرخَ صرخةً جعلَتْ أوبارَ الثَّعلبِ تنتصبُ:
ـــــــ اغرُبْ عنْ وجهي يا مكـَّارُ, صدقَ مَـنْ قالَ:
(رُبَّ امرئٍ لا تغيبُ فوائدُهُ وإنْ غابَ، وآخر لا يسلَمُ منهُ جليسُهُ وإنْ احترسَ)
مشى الرجلُ بعيداً، وانعطفَ الثَّعلبُ نحو القريةِ. كانَ الأملُ يُراودُهُ بصداقةِ الأطفالِ، إنهَّم أَبرياءُ, أَنقياءُ, ولن يجدَ صعوبةً في مُرافقتِهم، وفي تمضيةِ أوقاتٍ حُلوةٍ معَهم، ما لمْ يتدخـَّلِ الكبارُ.
رأى أطفالاً يتقافزونَ حولَ البئرِ، يملؤونَ الدَّلوَ بالماءِ ويتراشقُونَ بهِ دفْعاً للحَرِّ:
ــــــ مرحباً أيُّها الصِّبيانُ، مرحباً أيَّتُها الفتَياتُ
بوغِتَ الأولادُ:
ــــــ مـَن؟ الثَّعلبُ المكَّارُ؟.
صحـَّحَ الثَّعلبُ بودٍّ:
ــــــ بلْ الثَّعلبُ أخُو الأطفالِ، هاتُوا الوعاءَ يا أَصحابي, وسأرفعُهُ مُترَعاً بالماءِ المبرَّدِ.
التقطَ أحدُهُم حَصاةً ولوَّحَ بها:
ــــــ ارحَلْ أيُّها الضَّيفُ الثَّقيلُ، ولا تُجْبرني على استخدامِ الحَصاةِ
تسارعَ نبْضُ الثَّعلبِ، لكنَّهُ تريـَّثَ شارِحاً:
ــــــ أرجوكُمْ، أَعطُوني فُرصةً لأُثبتَ محبَّتي.
هزأَ الأولادُ:
ـــــــ منذُ متى كنْتَ مُحبَّـاً أيُّها المحتالُ؟. أَلمْ تلتَهمْ سبعةً مِنْ أرانبِنا منذُ يَوميـْنِ؟
أصابَ مـَن قالَ: (مـَن صاحَبَ الكِرامَ وُقِّـــرْ، ومَن صاحبَ الأنذالَ حـُقـِّرْ)
مضَى الثَّعلبُ حزيناً، وكمْ صَعُبَ عليهِ أن يـُنعتَ بالنَّذالةِ!
بينَ الأحراشِ، صادفَ الثَّعلبُ صيَّاداً يحشُو بندقيَّتَهُ بالذَّخيرةِ، إلى يَمينهِ كلْبانِ أَسودانِ مُتربِّصانِ.
أحرزَ الصيَّادُ بطلقاتهِ صَيداً موفَّقاً، وبينَما انطلقَ الكلْبانِ لجَمعِ الطُّيورِ المتساقطةِ، اغتنَمَ الثَّعلبُ الوقتَ، فحيَّا الصيَّادَ مُقترحاً مُساعدةَ الحيَوانيْنِ الوفيَّيْنِ في التقاطِ الفَرائسِ.
أطلقَ الصيَّادُ صفيراً ساخِراً، قبلَ أنْ يُلوِّحَ للثَّعلبِ بالبندقيَّةِ:
ــــــ لا تَسُقْ نفسَكَ إلى حتفِكَ أيُّها الغُولُ، بالأمسِ زاحمْتَني على غزالةٍ سمينةٍ، واليومَ.. علامَ تُزاحِمُني؟.
قالَ الثَّعلبُ متوسـِّلاً:
ــــــ أَشفِقْ عليَّ يا أخي، لو أردْتُّ الغدرَ لجئْـتُـكَ منَ الخلفِ، لكنِّي أقفُ أمامَكَ مُسالماً وَدوداً.
أطلقَ الصيَّادُ رصاصةً في الهواءِ، ارتعدَ لها الثَّعلبُ، وصاحَ:
ــــــ لا تُرغِمْني على إيذائِكَ أيُّها المكَّارُ. جاءَ في الكتُبِ: (إذا لم تَستحِ، فاصنعْ ما تشاءُ).
مشَى الثَّعلبُ مُضطرباً حتى أبصرَ فلاَّحاً يُشرِفُ على الحصادِ في مزرعةٍ.
كانَتْ أعوادُ القَشِّ تملأُ المرجَ الأصفرَ, والنَّاسُ يجمعُونَها في أكوامٍ:
ـــــ عافاكَ اللهُ أيُّها العاملُ الكادِحُ.
نظَرَ المزارعُ بشكٍّ إلى الثَّعلبِ، فأوضحَ الأخيرُ:
ــــــ صدِّقْني لنْ أُؤذيكَ, يُمكنُني بذيلي القويِّ أنْ أُكنِسَ أعوادَ القَشِّ، وأنْ أجمعَها في كدْساتٍ.
تنهـَّدَ المزارعُ وقالَ:
ـــــ لا وقتَ عِندي لسماعِ الأكاذيبِ، ارحَلْ قبلَ أن تُلاحقَكَ ضَرباتُ المكانسِ.
تضرَّعَ الثَّعلبُ إلى الرجلِ كي يقبلَ صداقتَهُ، لكنَّ الرجلَ قالَ:
ـــ لنْ أقبلَ صداقةً مشبوهةً، (فجليسُ المرءِ مثلُـهُ)، راجِعْ سِيرتَكَ أيُّها الثَّعلبُ، واعرِفْ أخطاءَك, (فمَنْ أبصرَ عيْبَ نفسهِ، عَمِيَ عنْ عيْبِ غيرهِ).
يَئِسَ الثَّعلبُ مِن صداقةِ النَّاسِ, وقرَّرَ المحاولةَ معَ حَيواناتِ الغابةِ.
طرحَ الفِكرةَ على السَّناجبِ، فاشمأزَّتِ المخلوقاتُ اللَّطيفةُ, واعتذرَتْ بكبرياءٍ:
(بعضُ الخلائقِ ورَقٌ لا شوكَ فيهِ، وبعضُها شوكٌ لا ورَقَ فيهِ).
تألـَّمَ الثَّعلبُ، وعَظـُمَ ألمُـهُ حينَ سمِعَ قردَيْنِ يُعلِّقانِ على كلامِهِ قائليْنِ:
ــــــ هُراءٌ!، الثَّعلبُ يـُساعدُنا في تجميعِ ثمارِ جَوزِ الهندِ؟!.
اصمُتْ إذا لم تقُلْ ما ينفَعُ، (فالحياءُ والحِلمُ والصَّمتُ منَ الإيمانِ).
وصلَ الثَّعلبُ أخيراً إلى واحةٍ خضراءَ، يتوسـَّطُها غَديرانِ عذْبانِ، كانَ مُنهكاً منَ التَّعبِ.
أبصرَ مَجلِساً للدِّيكَةِ والأرانبِ والإوزِّ والبطِّ. قالَ بأنفاسٍ متقطِّعةٍ:
ـــــــ عِمْتُم مساءً أيُّها الأحبابُ، أتتكرَّمونَ عليَّ بقطرةِ ماءٍ؟.
وهوَى مِنَ الإعياءِ، فأَحاطَ بهِ الحُضورُ:
ــــــ كُنَّـا لزمنٍ بعيدٍ فَريسةً لجَشَعِكَ أيُّها المكَّارُ، لكنَّنا سنَسقيكَ الماءَ لأنَّنا طيِّبونَ وخَيِّرون.
بكى الثَّعلبُ، أوضَحَ رغبتَهُ الحقيقيَّةَ في مُصادقةِ الجميعِ.
قالَ زعيمُ الدِّيكَةِ:
ــــــ لقد خدعْـتَنا مرةً وأقمْتَ مدرسةً للُّغةِ وللحِسابِ، وحينَ جاءَتِ الطُّيورُ لطلبِ العلمِ، افترسْتَها بلا رحمةٍ.
وأضافَتْ إِوزَّةٌ:
ــــــ وسمَّـيْتَ مدرستَكَ المزعومةَ: (مدرسةُ الثَّعلبِ).
معَ ذلكَ، قدَّمَتِ الحيواناتُ دلوَيْنِ مليئَيْنِ بالماءِ، ليشرَبَ الثَّعلبُ ويَرتوي، شَرْطَ أن يُغادرَ الواحةَ إلى غَيرِ رَجْعةٍ، وودَّعتْهُ الحيواناتُ قائلةً:
(مَنْ لا أدبَ لهُ، لا عقلَ لهُ ولا أمانٌ).

# سفيربرس _ بقلم : الأديبة: ميرفت أحمد علي .
عضو اتحاد الكتاب العرب في سورية

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *