إعلان
إعلان

سِيماءُ الحداثةِ الشعريَّةِ..الشاعرُ العراقيُّ الكبير (علي الشلاه) نموذجاً. الأعمال الكاملة (1)

#سفير_برس _ بقلم :الأديبة: ميرفت أحمد علي

إعلان

استهلال:

إنَّ الدخول إلى حرَمٍ شعريٍّ وارفِ البهاء لشاعرٍ بوزنِ الدكتور (علي الشلاه) ــ ينقشُ توقيعاً فخماً على أرومةِ قصيدةٍ عربيةٍ باذخةِ الأصالةِ والتيمُّمِ بصعيدِ الجمال ـــ يُوقعُ القارئَ في محنةِ التلقِّي الذي لن يكون مُتاحاً كلياً؛ إذ يتطلَّبُ الأمرُ الترقِّي في سلَّمِ المعرفةِ، وموسوعيةِ الاطلاعِ على الثقافةِ الشعريةِ والعامة معاً.. وسينطبقُ على الغائصِ في لجَّةِ هذهِ التجربة قولُ أبي نُواس: (فهمتَ شيئاً وغابتْ عنكَ أشياءُ)؛ فاكتنازُ المشهدِ الشعريِّ لدى (الشلاه) بالإحالاتِ المرجعيَّةِ إلى التاريخِ وأفخاخهِ، ورجالاتهِ البارزين، والنصِّ القرآنيِّ وثرائهِ الإيحائيِّ والتخييليّ، والجغرافيا وأطيافِها المُتلامحةِ، والشعرِ وقضاياهُ الجوهريةِ… كلُّ ذلك يجعلُ من مقاربةِ مقاصدِ هذا الشعرِ مهمةً نضاليةً صعبةً؛ فنحنُ أمامَ مُعطىً شعريٍّ أتى أُكلَهُ في التفرُّدِ ومُجانبةِ المُشابهة، وخطا واثقاً في سمْتٍ تجريبيٍّ شديدِ الخصوصيةِ.

وأنوِّهُ إلى أنَّ هذا الجزءَ منَ المُطالعةِ ــ لقارئةٍ متواضعةٍ ــ يشملُ شعرَ الدكتور (علي الشلاه) بينَ عاميّ 1982ـــ 1998م. وستتلوهُ مطالعاتٌ تغطي مجلَّدَ الأعمالِ الكاملةِ في غيرِ مقالٍ ومقام. 

ولنبدأْ مِن ستارِ اللغةِ الشفيفِ.. المُرائي، الذي يُوقعُ القارئَ في مطبِّ الاستسهالِ وبساطةِ إتيانِ المعنى، لنكتشفَ سريعاً بأنَّ اللغةَ مجرَّدُ وسيطٍ مُتخاذلٍ، وأنَّ التوسُّلَ إلى المعنى وبلوغِ عُقرِ دارهِ يتطلَّبُ التناهُضَ والترقِّي إلى مستوى قصيدةٍ مثقفةٍ فاخرةٍ، غيرِ متمنِّعةٍ كلياً، وغيرِ سلسلةِ القيادِ والانسياقِ إلى الإدراك والوعيِ الفوريِّ بالمضامين. إنَّ قصيدةَ (الشلاه) تستوجبُ إعمالَ الذهنِ والتفكُّرَ في الأنساقِ اللغويةِ وتدابيرِها ومراميزِها غيرَ مرَّةٍ. انظرْ ــ عزيزي القارئ ـــ إلى فخِّ الاستسهالِ الذي توقعُكَ بهِ قصيدةٌ بعيدةُ المرامي والمقاصدِ.

كذلك…

أطلقتُ ضوءاً بأوهامها

وانزلقتُ إلى كوكب من سراب

فضاعت جروحي في سورة الماء..

نام الغناء على لغةٍ من بكائي

… كذلك…

رممتُ عمري على عمرها

وتركتُ الحقول التي

بين جدرانها… والقميص

إننا في حضرةٍ شعريَّةٍ تجريبيةٍ منَ الطرازِ النفيسِ، فالشاعرُ (الشلاه) يوظِّفُ كلَّ ما يتوفَّرُ عليهِ الشاعرُ المُقتدرُ من أدواتٍ ليصمِّمَ زِيَّ اللغةِ على مقاسِ المعنى، ولِيَزنَ بالقِسطاسِ المستقيمِ حروفَهُ وعلاماتِ الترقيمِ، فلا تَحيدُ الألفاظُ والتراكيبُ مقدارَ إنشٍ عن مُبتغى الشاعرِ ومَراميهِ، ولا يستفيضُ قِماشُ اللغةِ أو ينمُّ عن شطَطٍ وجُنوح. فحتى الفراغاتُ والنقاطُ تبوح:

(شرائع معلقة)

وحين أفقتُ على وطنٍ

–  ليؤنِّثَ خوفي  –

توهمتُ بابكَ…

بيتْ!

…………

………..

……….. زمانٌ

طوتني مسافتهُ فانطويت 

إنَّ تجزيءَ التجربةِ الشعريةِ لدى (الشلاه) لا يصبُّ في مصلحتِها إطلاقاً، لكنني أجدُ نفسي مُلزمةً بذلك؛ فالإحاطةُ بالأعمالِ الشعريةِ الكاملةِ (1982ــ 2022م) يُشبهُ إحاطةَ نبعِ ماءٍ دافقٍ مُنبجسٍ من صخرٍ مَكينٍ براحتيّ كفٍّ عزلاويْن، ما يستدعي إلى الذاكرةِ سيرةَ السيدةِ (هاجر) في مقالتِها الشهيرةِ: زُمِّي، زُمِّي.. وبهذا المعنى سنُجزِّئُ المُنجزَ الشعريَّ الوفيرَ الثريَّ، حفاظاً على هدرِ القيمةِ الفنيَّةِ المنبثقةِ من نبعِ الشعرِ الزَمزميِّ الرَّائقِ والمباركِ، الذي يفجِّرهُ الشاعرُ على مَرأى من ظمَئِنا إلى موردِ شعرٍ سلسبيلٍ لا ينضبُ. 

إنَّكَ ــ على سبيلِ المثالِ ـــ لا تُطيقُ التوقُّفَ عن تلقِّي عُذوبةِ الانسيابِ الشعريِّ وطراوتهِ في قولِ الشاعرِ:

(خــــيانة)

لا ترقصي .. 

لا تقرئي التاريخَ والمتون

فلِّي المدى من عزفهِ

وأطلقي أشلاءه

من دورة السكون

فلِّي القرى من عشقها

ووطِّني أشجارها

واستمعي لضوئها

في لثغة العيون

تمَظهُراتُ القصيدةِ الحداثيَّةِ عندَ الشاعرِ (علي الشلاه)

في الشقِّ الأولِ منَ الأعمالِ الكاملةِ للشاعرِ العراقيِّ الكبيرِ (علي الشلاه)، نلمسُ ما يلي: 

1 ــ نزعةُ تَغييمِ المعنى: 

يحرصُ الشاعرُ على مُداراةِ الفكرةِ ومُواربتِها شأنَ الشعراءِ المُجيدينَ، والتوسُّلِ إليها بإعمالِ الذهنِ والتَّفكُّرِ. وعلى القارئِ أن يرقَى إلى شُرفةِ القصيدةِ السامقةِ التي لا تتمنَّعُ عنهُ كلياً، ولا تُسلمهُ قيادَها بسهولةٍ رغمَ التبسُّطِ في المقالِ الذي يتعمَّدهُ الشاعرُ، ويبدو مِن خلالِ هذا مُدركاً ومُؤمناً بما يؤمنُ به كبارُ النُّقادِ: 

(باقةُ أفكارٍ عميقةٍ، في فَازةٍ شعريةٍ من الكريستالِ العصريّ). 

وما بينَ (التَّغييمِ) و(التَّغريبِ) بَوْنٌ منَ الشَّساعةِ والانفساحِ. فالأولُ يُنبئُ عن احترافٍ أسلوبيٍّ مُباحٍ ومُستملحٍ وبخاصة في الشعر، أمَّا (التَّغريبُ) فلطالما وقفَ حائلاً بينَ المُبدعِ والمتلقِّي، وعُدَّ مأخذاً على شعراءِ الحداثةِ الذينَ (يقولونَ ما لا يُفهمُ) حالَ أبي تمَّام مع شعراءِ عصرهِ.

وهنا يبدو التَّغييمُ ــ على سبيلِ المثالِ ــ التفافاً لغويَّاً، وتحايُلاً ينأى بالمقصودِ عن المُباشرة، ونُزوعاً فنياً مُستحبَّاً: 

(الأسئلة) 

من يلبس 

صوتَ بـُراق 

في ريشِ غراب…؟ 

من يصنعُ 

تمثالاً للخوف

بدون جسد…؟

                   ويشدُّ حبالَ أضالعهِ

                   بدموعِ سحاب

من يقتلُ 

نهراً 

كي يثأرَ للغرقى…؟ 

من يزرع 

في حشرجةِ الموت 

قلوباً من ضفاف…؟

ويُهيلُ جرارَ وساوسهِ

ويغطي الأنهار…؟ 

من ينجب…

من صلب النون… نبياً

ويشيدُ أسوار القلب

…ذئاباً 

ويبعثر في يده 

الأصوات؟

2ــــ الجرأةُ التعبيريَّةُ:

قد يظنُّ بعضُهم أنَّها سِمةٌ مضمونيَّةٌ للنصِّ الشعري، لكنَّني أُفضِّلُ أن أنسبَها إلى الأسلوبِ المُغامرِ الذي يتبعهُ الشاعرُ حتى في تداوُلهِ للقضايا الروحيةِ والدينيةِ كما السياسيةِ. فالثلثُ الأولُ من الأعمالِ الشعريةِ حفلَ ــ بل احتفَى ـــ بالقصائدِ الحُسينيةِ وبالملاحمِ الكربلائيَّةِ التي طرحَها الشاعرُ بروحِ الإقدامِ والمواجهةِ، وبحسٍّ نقديٍّ تَعْرويٍّ لا يُهادنُ، فرفعَ سقفَ الرقابةِ، ووسَّعَ مُتونَها قبلَ هوامشِها، مُفصحاً عمَّا لا يُفصحُ عنهُ بسهولةٍ، غيرَ مُبالٍ بلومةِ لائمٍ في الحقّ، مُضفياً على (الرثائيَّاتِ) بُعداً (ثوْرَويَّاً، إحيائيَّاً، نهضويَّاً) في ردِّ الاعتبارِ لدمِ (الحُسينِ) المسفوحِ ظُلماً وعسَفاً. (مرثية الجمل وغيرها أمثلة) 

يقولُ أيضاً فَخوراً، مُفصحاً عمَّا تقتطعهُ في العادة مقصَّات الرقابة: 

لكنَّهُ نحنُ

كل “عراقيْ”… عراقٌ…!

فكم وطن يقسمون…؟

وطن.. نحن سيماؤه…

وله…

طَبْعُ أكرادهِ عاشقاً

حِلْمُ سنَّتهِ غاضباً

حُزن شيعتهِ…..

عندما يحزنون.

3ـــ مَسْرَحةُ القصيدةِ: 

لطالما حظِيَ التَّلاقحُ بينَ الأجناسِ الأدبيةِ باستحسانِ القارئِ والناقدِ معاً؛ حالَ أفضَى إلى أنساقٍ إبداعيةٍ تُثري الأبعادَ الجماليَّةَ والتذوُّقيةَ. ونلمسُ لدى الشاعرِ (الشلاه) عبقريةَ المُزاوجةِ بينَ فُنونِ القولِ، وتطعيمَها ببعضِها، فقد عقدَ قِراناتٍ موفقةٍ وناجزةٍ ما بينَ الحوارِ المسرحيِّ والنسيجِ الشعريِّ الحاضنِ لهُ، كما وُظِّفت الحكايةُ والأسطورةُ والموروثاتُ القصصيةُ والملاحمُ القرآنيةُ في بثِّ الشَّغفِ بالقصيدةِ، وتجديدِ دمائِها وانبعاثِها؛ وابتداعِ معَانٍ جديدةٍ، ولإضفاءِ مراميزَ ماتعةٍ لم يقربْها شاعرٌ بكلِّ ما لها وفيها من فذاذةٍ، وأسبقيةٍ، وائتلاقٍ تعبيري.

صاحَ بي والدي:

– أنتَ أكبرُ منّيْ

فكيفَ أكونُ أباك..؟

وأبي لم يكن ظاهراً 

غيَّبَ الخوفُ أوراقه

فاعتراها الحريق.

ومنهُ قوله: 

مخاوفهُ جبلٌ من عيون 

وأحزانهُ عسسٌ يلهثون

له جبهةٌ من رقىً

بها قبةٌ من مياه 

تَأَبَّتْ على الشربِ

– نـوحيْـن –

حتى استتيبتْ 

فلما أتاها سراباً

تحركَ هابيلُ من مكمنٍ

ثم أحيا أخاه

4ــــ تناصَّاتٌ بارعةٌ:

(التناصَّاتُ) ليستْ باللعبةِ الجديدةِ والطارئةِ على الأدبِ، ولطالما أفضَتْ إلى حالةٍ من الانهمامِ بالفنِّ وبقضاياه، راقتْ وما تزالُ لصنَّاعِ المجازِ ولحاذقيهِ.. وبخاصة الشعراء. وثمَّةَ أمثلةٌ عديدةٌ لدى الشاعرِ (الشلاه) تُنبئُ عن استدعاءاتٍ ماتعةٍ للنصوصِ الحكائيةِ الموروثةِ، لاستجرارِ قيمةٍ مُضافةٍ من الجاذبيةِ إلى النصِّ الشعريِّ، ولاستيرادِ ائتلاقاتٍ تعبيريةٍ جليَّةٍ.. وسأتركُ التعليقَ على الأمثلةِ رهناً بذائقةِ القارئِ، وبقدرتهِ على استكناهِ ملامحِ ومُحدِّداتِ الجمالِ الأسلوبيِّ ومَلاحَاتهِ، الناجمةِ عن التَّلاعُبِ بالنصِّ الأصلِ لمصلحةِ النصِّ البديلِ.

(دقائق المكان طرائق الوقت)

ـ ادخلْ…

ـ لستُ بداخل

ـ ادخلْ…

ـ لستُ بداخل

ادخلْ باسمِ الخوفِ… متُوني

وتزمَّلْ بالحزنِ المخضرِّ

بزيتونِ عيوني

واطَّرحِ الأسلافَ..

وقدَّ قميصيَ ـ مِنْ قُبَلٍ ـ 

سأقدُّ الساعةَ ـ من دُبر ـ أوردتي

وأنيمُ قميصكَ في بردِ سكاكيني

5ـــــ صُنعةٌ بديعيَّةٌ فائقةُ الأناقةِ والتَّهندُم:

نستمتعُ ــ بكلِّ كيانِنا ــ ونحنُ نقرأُ قصائدَ الشاعرِ الكبيرِ (علي الشلاه) بالحضورِ المُترَفِ والبَهِيِّ لأساليبِ البلاغةِ العربيةِ في النصِّ الشعريِّ لديهِ: المُحسِّناتُ البديعيةُ، وصروفُ الطِّباقِ والجِناسِ، والاستعاراتُ، والمقابلةُ، وإثباتُ القولِ بضدِّهِ، وتأكيدُ المعنى بنقائضهِ، والتي بُرغمِ الاستكثارِ منها، إلا أنَّها لم تُسِئْ قطُّ إلى شعريَّةِ القصيدةِ، وإلى عفويَّةِ التدفُّقِ التعبيريِّ ومُرونتهِ الخالصةِ.

(بُكاء)

ابكِ ما قد رأيت 

وما لن تراه 

وابكِ ما هدَّهُ الخوفُ فيك 

وابكِ ما قد بناه 

ابكِ بُعدَ الهُنا 

وابكِ قُربَ الهُناك 

وابكِ ما قد ذهبتَ له 

وابكِ مَنْ قد أتاك 

فها هُنا، حِياكةٌ لفظيَّةٌ مُستدقَّةٌ.. مُستظرَفةٌ، وترصيعٌ بديعيٌّ تفغَرُ لهُ الدهشةُ فماً أوسعَ منْ مغارةِ (علي بابا) ولصوصهِ الأربعينَ.. إذ نجدُ أنفسَنا (ونحنُ نُعيدُ استجلاءَ المعنى في قراءةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ) أمامَ انتباهاتٍ مؤجَّلةٍ، وانشداهاتٍ تستحوذُ على الألبابِ! ومعَ إعادةِ القراءةِ وتدويرِ المرموز؛ِ قد نصلُ إلى برِّ المغزى ونتجاوزُ أفخاخَ الشاعرِ البلاغيةَ، مستمتعينَ ببراعتهِ في التصرُّفِ بأدواتهِ وبفنيَّاتهِ الخاصةِ، وبحُسنِ تَطويعِها لصالحِ نصٍّ شعريٍّ لمَّاحٍ. 

ـــ ويأتي التَّطعيمُ اللفظيُّ للخطابِ الشعريِّ بمُفرداتٍ وبكلماتٍ معجميَّةٍ ليُضفيَ نكهةَ التَّوابلِ النادرةِ على المذاقِ الشعريِّ المُستطابِ أساساً. معَ الإشارةِ إلى أنَّ هذهِ الجزئيَّةَ الفنيَّةَ (الألفاظَ المعجميةَ) تنسربُ في أَوردةِ القصيدةِ ودمائِها دونما إثقالٍ على كاهلِها، بل إنَّ التَّرصيعاتِ المُشار إليها تتمظهرُ كسلوكٍ أدبيٍّ عفويٍّ، يعكسُ عمقَ درايةِ الشاعرِ بجوهرِ باللغةِ العربيةِ ودُرَرِها، ومكامنِ جمالها.

وهذهِ الألفاظُ والتراكيبُ مِن قَبيل:

الخنَا، قمصتُ بهِ، أزرى بكَ النصبُ، لهمْ مجنٌ، دلوك، طُراً، سمِّ خياط، الشينِ المعلَّق، المُعذق، الغَمر، مجدور القناة، ولهمْ مجَرٌ في الطريق…

6ـــــ مهاراتٌ تصويريَّةٌ: 

المِخْيالُ وتأجيجُهُ حالةٌ مخصوصةٌ بالشعرِ تَميزهُ عن سواه.. ونقعُ في شعرِ (الشلاه) على الكثيرِ من مهاراتِ هدَّافِ اللغةِ المكينِ، الذي يسجِّلُ في مرمى المعنى أهدافاً قاتلةً. واللغةُ أداةُ تحريكِ الخيالِ، والَّلعِبُ بها ومعَها ليسَ بالأمرِ المُتاحِ لكلِّ ذي شغَفٍ بالشعرِ. ولقد أقامَ الشاعرُ (علي الشلاه) ارتباطاتٍ غيرَ مسبوقةٍ بينَ اللفظِ وضدِّه، وفي مواضعَ منْ شعرهِ قلبَ المعنى وعلَّقهُ من عُرقوبهِ، فأمكنَ لهُ في مقطعٍ من قصيدةٍ وأكثرَ أن يصفعَ ـــ بمدلولٍ غريبٍ أو بفكرةٍ فذَّةٍ ــــ غيمةً داشرةً.. وأنْ يُسقطَها بينَ القلمِ والورقةِ بكلِّ ما في ذلكَ من بهاءٍ وخُيلاء. 

لدينا منَ الأمثلةِ الكثيرُ. سنتركُ للمتأمِّلِ متعةَ مُلاحقةِ التأويلِ، والتقاطِ ظلالهِ وأطيافهِ، والوقوفِ على أفانينِ تطويعِ اللغةِ لأغراضِ الجمالِ واستيقادِ الخيال.

(دقائق المكان طرائق الوقت)

ناصعاً بالسواد

ومَضطرباً بالبياض 

أوقدتْ ريحُ عمان.. ناري

وصاحتْ أيائلُها…

ريبةً في دمائي

7ـــ تعريفُ ما لا يُعرَّف:

منَ المعروفِ أنَّ الأفعالَ لا تقبلُ التعريفَ؛ فـ (ألُّ) التعريفِ تختصُّ بالأسماءِ وبالأحرفِ. وسبقَ لشعراءٍ أن تجاوزوا هذهِ القاعدةَ النحويةَ ــ عمْداً ـــ توسُّلاً إلى نوعٍ من أنواعِ تحصيلِ (بلاغةِ البلاغةِ) في الشعرِ قديماً وحديثاً، فاستنَّ الشعراءُ سنَّتَهم اللغويةَ الخاصةَ.

يقولُ الشاعرُ (الشلاه):

(خيانة)

فُلِّي المضى من لُغتي

واستتري في كذبها

لأنني قررتُ أن أخون!

أمَّا التوسُّلُ للمُنادى بأداةِ نداءٍ مخفَّفةٍ أو محذوفةٍ فإنَّهُ مُستملحٌ ورائجٌ، ويُضفي خِفَّةَ ظلٍّ وكياسةٍ أسلوبيَّةٍ. 

خلاصةٌ:

إنَّ شاعراً يُدخلُ كوْناً شعرياً قائماً بذاتهِ في (سمِّ الخيَّاطِ) ــــ كما وردَ على لسانِ الشاعرِ في إحدى عباراتهِ ــــ ليُعيدَ إخراجَهُ بمائةِ حُلَّةٍ قشيبةٍ، فيجيدُ حياكةَ قصيدةٍ تُفهمُ بمائةِ وجهٍ (وقليلاً ما تُفهمُ كما شاءَ الشاعرُ لها)، حَرِيٌّ بهِ وبأدبهِ أنْ يدرَّسَ في مكاتبِ الطَّلبةِ، وفي كُبرياتِ معاقلِ الآدابِ الحديثةِ، وأنْ يُترجَمَ بإتقانٍ.. فلا يفقدَ بريقَ ذهبهِ الخالصِ، رغمَ خيانةِ اللغةِ الناقلةِ. 

الشاعرُ الكبيرُ، الدكتور (علي الشلاه).. 

المُغرقُ في الذَّاتيةِ حدَّ إعادةِ الاعتبارِ للشعرِ بوصفهِ جنساً ذاتيَّ الرُّؤى والخطابِ:

أنتَ رقمٌ صعبٌ، وقبَسُ بهاءٍ منظورٌ، غيرُ قابلٍ للتجاهُلِ، وشامةٌ مِخمليةٌ فاتنةٌ على خدِّ الشعرِ العربيِّ المعاصرِ..

كُنْ بخيرٍ وبهاءٍ في الوطنِ الذي (لا ينامُ بهِ النَّخلُ)، والذي آخى بينَ حضارةِ الصحراءِ وحضارةِ الماء… 

وفي كلِّ حلٍّ ومُرتحل.

#سفير_برس _ _ بقلم : الأديبة: ميرفت أحمد علي _ سوريا

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *