التشكيلية التونسية خولة الشابي في حضرة اللون… حين تبوح اللوحة بما تعجز الكلمات عن قوله
#سفيربرس _ حاورها نورس برو _ تونس

في زمن يُثقل فيه الواقع كاهل الأرواح، تبقى الريشة عند البعض ليست أداة رسم فحسب، بل وسيلة بوح، مقاومة، وشفاء. وفي قلب هذا النسيج الفني الموشّى بالحلم والانكسار، تبرز تجربة الفنانة التشكيلية “خولة الشابي” حاملة معها خضرة الطبيعة وعطر إمرأة وشجن المتوسط ووهج اللون.
“الشابي” حالة إبداعية تحاول عبر اللون والملمس والخط أن تعيد ترتيب هذا العالم وفق رؤيتها الخاصة، التي تمزج فيها بين المرأة والطبيعة، بين الفكرة والحسّ، وبين العتمة والنور.
في هذا الحوار، نحاول الاقتراب من عالمها الفني والإنساني، نسألها عن الريشة حين تتحول إلى امتداد للوجدان، وعن الصراع بين الأكاديمية والموهبة، عن الألوان التي تغيّرها الحالة النفسية، عن الذاكرة البصرية، وعن الألم حين يسكن اللوحة ولا يصل للمتلقي, وعن الإيمان بالفن كفعل يومي مقاوم وجمالي في آنٍ معًا.
لقاؤنا مع “خولة” ليس فقط محاولة لفهم فنانة، بل للإنصات إلى صوت داخلي يمسّنا جميعًا، صوت يقول إن الفن ليس ترفًا، بل ضرورة…
– أنتي متحصّلة على الإجازة التطبيقية في الفنون المرئية “إختصاص رسم زيتي” و باحثة في الفنّ التشكيلي من خلال دراسة الماجيستر في “البحث في علوم و تقنيات الفنون ونظريّات الإبداع” وخريجة معهد الفنون الجميلة بنابل…
بعد هذه التجرية الأكاديمية ومن ثم العملية في الحياة, هل التشكيلي عبارة عن قواعد أكاديمية أم موهبة وخيال؟!
بالنسبة لي كفنانة, مھما كان المجال الفني يجب أن يخضع الفنان لتكوين أكاديمي أو على الأقل في مركز للتكوين، الموھبة والخيال سوف يصلان لنقطة معينة لا يستطيعان أن يواصلا الابداع بدوع أكاديمية, فالتكوين النظري والتطبيقي يفتحان للفنان فرص إبداعية و إستمرارية في الإبداع الفني, وحسب رأيي مھما كان الفنان محترف و صاحب أنامل ذھبية وخيال فإنه من الضروري له أن يخوض في التكوين الأكاديمي ليثري تجربته الخاصة الفنية و يضمن استمراريتھا…
– ما هو الرابط بين المرأة والطبيعة في ريشة الشابي الحاضرين دائماً في لوحاتها؟!
بالنسبة لي المرأة كما يقال نصف المجتمع، علاقتھا بالطبيعة علاقة إنجذاب وتواصل فھي كالشجرة تثمر و تغذي و تعتني و تحرص على نمو سليم لثمراتھا، متشابھة في انسيابيتھا ومقاومتھا مع النبات والأشجاروجذوعھا, بمعنى أنه مھما كان المناخ فھي تقاوم و تحارب وتناضل لتبقى صامدة أمام الصعوبات و العراقيل، تستمد الطاقة الايجابية من الطبيعة فھي مصدر لتجديد طاقة السلبية, تنعكس عليھا أجواء الطبيعة, فكل إمراة متصلة بمناخ و نوع معين من النباتات و الزھور ووالورود، وخاصة في الربيع والصيف فتجد المرأة مزھرة و منفتحة أكثر للحياة وبالتالي المرأة ھي الطبيعة بعلاقة اتصال و تواصل دائمة.
– بأحد مشاركاتك الفنية إخترتي عنوان “صاحبة السعادة” للوحاتك, العنون ملفت, ماذا أردتي القول من خلاله؟!
“صاحبة السعادة ” هي المرأة وھي مصدر وحجر أساس في كل بيت، كل علاقة، كل مكان، تصنع السعادة مھما كانت الظروف وتبدع في أن تكون ھي سبب ضحكة أو إبتسامة أو فرح شخص ما أو مجموعة أشخاص سواء كانوا عائلتھا أو أولادھا أو أصحابھا أو زملاء في العمل، أحيانا تكون أفعالھا التلقائية مبعث للبهجة في نفوس الآخرين وھناك شق آخر لإستعمالي لھذا التعبير ألا وهو المقام العالي للمرأة مھما كانت صفتھا أو عملھا أو مستواھا ، فهي تستحق التبجيل ووصف “صاحبة السعادة”.
– استخدمتي تقنيات الأكريليك, الزيتي, والتلصيق في لوحاتك, أيهم الأقرب لقلبك ولهويتك الفنية؟!
في الحقيقة لا أميز تقنية عن أخرى بل أرى أن جمعهم في لوحة يعطينا مزيجًا إبداعيًا مميزًا يثير فينا الإحساس بانسجام غير إعتيادي، فاللوحة بالنسبة لي كأنھا محمل ألوان وأشكال و أجناس مختلفة من المواد و التقنيات وكأني في رحلة بحث تشكيلية أثناء رسم لوحة خاصة, من ناحية اللون أحب اكتشافي لما ينتجه المزج بينھم ثم أن إدخال عنصر تلصيق أو تركيب مائي سيضفي عليھا، وھذا ما يجعلني أحس بالتكامل في اللوحة.
– وماذا عن الفوبيجو؟! كيف جمعتي ما بين الفنين؟!
الفوبيجو أتى بسبب عشقي للاكسسوارات والتزين بھا، أحب أن أرتدي قطعاً من صنع أناملي, فھي تجعلني أھدأ إذا أحسست بالتوتر والغضب وعدم الإرتياح، أيضاً أحب الصناعات اليدوية, أحب أي حرفة تعتمد على اليدين فمن خلالها أعطي بذرة من روحي فيھا.
– هل تنزعجين عندما لا تصل آلامك أو أفراحك, مشاعرك في المجمل الموجودة في لوحاتك الى الجمهور المتلقي؟! هل حدثت مرة؟!
لا أنزعج لأن مبدئي في الفن ھو الإستمتاع بالقراءات أو تعدد التأويلات من قبل المتلقي, فھدفي دائماً جعل المتلقي يفكر بوعي نحو اللوحة لا أن يتماھى معھا عاطفيا وحسب، أستمتع بالنقاش مع المتلقي مھما كانت خلفيته الفكرية والثقافية لأني بذلك سأبني للوحة مخزون تأويلي مھم يثريھا، لا أتأثر سلباً عندما لا أجد من تصل له آلامي وأفراحي، أستمتع عندما تكون لوحتي لغزاً أو مصدر حيرة أو مجالاً للتأويل والقراءة والنقاش.
– هل تؤثر الحالة النفسية للشابي على اللون المستخدم في لوحاتها؟! وما أكثر ما يؤثر بك؟!
الحالة النفسية في أغلب أعمالي تؤثر بي كثيرً وتتحكم بالفترات التي أمارس فيھا الفن التشكيلي, فأنا أرسم في حالات نفسية من النقيض الى النقيض, عندما أكون في شدة غضبي أمسك ريشتي فأحس بأن العالم يھدأ من حولي وأصبح في عزلة فكرية وفنية تمتص فيها لوحتي غضبي وإنفعالاتي, نفس الشئ عندما أكون في قمة سعادتي أو في خضم تحقيق نجاح كبير, أشارك لوحتي فرحتي الكبيرة وأفرح مع الألوان والأشكال والتركيبات، فأقضي أحياناً سنوات لا أزاول الرسم فيها وخاصة عندما أشعر بأني لا أملك ما أحدث لوحتي بما اشعر به أو ما أمر فيه.
– برأيك كيف ينظر الإنسان العربي الى اللوحة التشكيلية مقارنة بالغربي؟!
الإنسان العربي أوالمتلقي العربي دائماً يبحث عن ماھو مفھوم ومرئي بوضوح، أسمع عادة بين الجمھور عبارة “لم أفھم شيئا” ھل ھذا فن؟! ما معنى ھذا؟! أغلبيتھم وهنا لا نجمع طبعاً يبحثون على الفن الذي لا يستحق التأويل أو الذي يدفعھم للمسائلة أوالتفكير، فن سھل القراءة، أحياناً يصل بهم الأمر للإستھزاء أو السخرية من العمل الفني، أما الغربي فحتى لو لم يصله شئ من العمل يحترم و يقدر العمل مھما كان حجم نقاط الإستفھام حول اللوحة أو العمل الفني، تجد في المتلقي الغربي إھتمام أكبر أو انجذاب لنقطة معينة في العمل بالرغم من أن الإنسان العربي في الماضي كان أكثر إھتماماً و استيعاباً للفنون وتجد ھذا خاصة عند جمھور من الجيل السابق الذي عاصر أوج الفنون في العالم العربي وقليلاً في الأجيال اللاحقة لكي لا نظلم المتلقي العربي.
– برأيك وعلى صعيد عربي, كيف يستمر الفنان التشكيلي بإبداعه وهو يمر بكل هذه الصعوبات الحياتية التي يمر بها المواطن في معظم المنطقة العربية وخصوصاً بالنسبة للفنانين الجادين كالتشكيليين؟! يعني هناك مصاريف ومتطلبات وحياة وتحديات وغياب شبه تام للإنتاج التشكيلي على حساب السطحي والرائج, أليس كذلك..!
فعلاً الحياة جداً صعبة بالنسبة للفنان التشكيلي، فالناس تعتقد بأن الفنان التشكيلي يعيش في برج عاجي من أبراج النبلاء، ليس لديه مصاريف أوفواتير أو حياة يحارب لأجل أن يبقى فيها مستمراً، رأينا كثيراً من الفنانين التشكليين في كبرھم وهم لا يملكون حتى مصاريف علاج فخسرهم المشھد الثقافي وأصبحوا منسيين وهذا بسبب عشقھم وإرتباطهم المتين بالفن اللئين فضلوه على حياتھم، نمر بلحظات صعبة ونشعر بالإحباط لعدم حصول أغلبنا على فرص أو دعم، لكن من روحه متصلة بالفن لا يستطيع التخلي عن ھذا الشغف ، فالفن لو انقطع عنه كأن الأوكسجين قطع عنه، ولكن وبرغم المعاناة والحياة الشاقة للفنان يبقى الفن رفيقه الأبدي وأثره في الحياة بعد الممات.
– بالمقابل… كيف يستطيع فنّان تشكيلي أن يكون فعالاَ في المجتمع والمنظومة الثقافيّة والتربويّة في بلاده في ظل هذه الظروف؟!
بأن يكون مثالا للمقاومة والنضال وأن يعطي الأمل لغيره، فالفنان رغم كل الظروف يبقى ھو المحفز للمجتمع والمثال الذي يحتذى به, يتكلم بلسان الغير بقدرة فنية على التعبير، يزرع بذرة في كل طفل لتزھر وتثمر لاحقاً، فالفن ھو أحد المناھج التربوية المھمة و خاصة أن الفن التشكيلي يعتبر نوعاً من أنواع العلاج وسبيلاً للتخلص من السلبيات ولكل الفئات المجتمعية.
– في سوريا لدينا رموز عالمية في الفن التشكيلي مثل لؤي كيالي وفاتح المدرس وغيرهم, ولدينا جمهور نخبوي وذواق ومثقف كما التونسي, هل تعتبرين نفسك نخبوية؟! أي أن فنك موجه للنخبة العميقة فقط؟!
فني يخاطب الجميع دون استثناء ونحن كفنانين نسعى دائماً لجعل الفن متاحاً للعموم وليس للنخبة فقط، أحس أن ھذا الأمر يعتبر نوعاً من العنصرية الفنية لو حددت نوعية الجمھور وأنا ضد ھذه الفكرة، فنحن نسعى لتعميم الفن وتشجيع الناس على الذھاب للأروقة وتمكينھم من تذوق الفن وحتى تحفيزھم على ممارسته.
– عرفت أن لوحاتك في الدار هم كأولادك, هل لديك ولد مفضل أو مدلل أكثر من غيره ولماذا؟!
فعلاً لدرجة أني أنام بينھم كالعمل الأول الذي شاركت به في معرض جماعي في رواق “إيفيستو” في منطقة المرسى بتونس, تحت إشراف الفنانة التشكيلية العالمية “ميكايلا سارتي” إثر تخرجي مباشرة و هناك عمل آخر أيضا مميز لأنه إمتص لحظة غضب قوية مني, وهذين العملين لم أقبل أبداً ببيعھم.
– كان لديك وضع صحي معين, ما دور اللوحة فيه؟! وكيف أثرت عليه؟!
نعم أنا من مرضى السكري من المستوى الثاني, والفن جعلني أقاوم المرض وأنساني إياه، تأثيره الإيجابي العميق على مرضي جعلني أحس بالأمان كما أن الفن يحتويني فعلاً وكأنه ترياق للشفاء.
– هل لمدينة طبرقة, أي تأثير في لوحاتك؟!
أولاً لمدينة “نابل” وذلك لأني درست ھناك الفنون الجميلة وعشت فيھا عدة نجاحات ولحظات جميلة, وكان فيها البحر مكاني المفضل وكذلك “طبرقة” التي أحب بحرھا ولوجود مھرجان “الجاز” فيها والذي أعشق مواكبة فعالياته لعشقي لموسيقى الجاز.
– مين الإنسان اللي بيستحق شكر خاص من خولة؟!
نفسي اولاً وثانياً والدتي لدفعي دائماً للأمام ومساندتھا المتواصلة لي, كذلك بنات أختي وخاصة عندما قالوا لي “أنتي فنانة حقيقية” ما إعتبرته وساماً شرفياً.
– وعتبك لمن؟
عتبي لكل شخص وقف في وجه نجاحي وتقدمي، لكني تجاوزتھم بعزيمتي وتمسكي بالفن.
– هل هناك أي مناسبات قادمة نستطيع مواكبتها معك؟!
ھناك تحضيرات لمعرض شخصي في السنة القادمة، سأحاول أن يكون ذو طابع وأسلوب متجددين وذلك بسبب دراستي الحالية للمسرح “مستوى الماجيستر” الأمر الذي جدد عندي طاقة الإبداع وھنا نعود لضرورة التكوين الأكاديمي الذي يؤثرإيجاباً على مسيرة الفنان.
– كلمة أخيرة منك لسفير برس وللجمهور السوري والعربي الذي سيقرأ كلماتك.
أرجو أن يستمتعوا بهذا الحوار, ورسالتي لھم أن يزرعوا الفن في أبنائهم ويخصصوا للفن وقتاً لأنه فعلاً منھج مھم في التربية و عامل مغذي للروح, فھو مصدر مشاركة لأوقات جميلة وحتى محزنة، فالفن أحد سبل العيش في الحياة مھما كانت المصاعب.
ختامًا…
تقف خولة الشابي كما لو أنها لوحة لم تكتمل بعد، تُضيف إليها الحياة كل يوم لونًا جديدًا وظلًا غير متوقّع.
هي لا ترسم لتُعجب، بل لترى ذاتها أوّلًا، لتتصالح مع هشاشتها، ولتقول شيئًا في هذا الضجيج الصامت.
إلى جمهور سفير برس، وإلى كل من يؤمن بأن اللوحة ليست صامتة، بل تنبض… في زمن تُختزل فيه القيم، وتُسحق فيه الحساسيات الفردية أمام طغيان الرائج، علينا أن نتذكر أن الفنّ الجاد لا يُشترى ولا يُصنع في عجالة.
هو بناء داخلي طويل، مؤلم أحيانًا، ولكنه في النهاية، هو الذي يُبقينا بشرًا.
#سفيربرس _ حاورها نورس برو _ تونس