إعلان
إعلان

الشعر من الفاعلية إلى الانفعالية فالهامشية .. بقلم : أحمد رشاد

سفيربرس

إعلان

يقولُ تروتسكي: ” يَجِبُ أنْ نوفِّرَ لكلِّ إنسانٍ نصيبَهُ من الخبزِ…ونصيبهُ مِن الشعرِ” (1) وانطلاقاً مِنْ هذا القولِ الذي قرّنَ الخُبْزَ طعام الجسد و الذي يمدنا بقوة الحركة وأسباب البقاء على قيد العيش, بقوةِ الشعرِ الذي يَمدُّنا بتناسقِ الحياة و حركاتها ومبررات وجودنا, إذ أنَّ الشعرَ من منطلق كثيرٍ منّا, كالشرابِ الذي يرافقُ الطعامَ, فبدونه سنغص كثيراً, وإذا لمْ نَجِدْ هذا الشرابَ ستكونُ النهايةُ الحتميةٌ الموتَ باختلاف أشكاله, ولهذا نجدُ أنَّ الشعرَ عَبَرَ في تاريخِهِ الطويلِ – على الأقلِّ عندَ العرب – بمراحل وأطوارٍ كثيرةٍ متناغمةٍ أحياناً, ومتنافرة في أكثر الأحيان.
ما نستشفُهُ من هذا القولِ هو أهميةُ الشعرِ واستمراريةِ هذه الأهميةِ عِبْرَ الزمانِ والمكانِ رُغْمَ كلِّ ما يُقالُ عن تراجعِ الشعر وتقهقرِ دورِه في زحمةِ الحياةِ التي رَكِبَتْ حُمَّى المادةِ, فخطفتها الصورةُ المليئةُ بالمثيراتِ والمؤثراتِ, وقادها الصوتُ المشوِّشُ لكل سكونٍ جميلٍ أو هدوءٍ مريحٍ.
صارَ الشعرُ العربيُّ في هذا الازدحامِ موضوعَ تساؤلاتٍ عديدةٍ, وبالتالي هو موضِعُ شكٍّ وريبةٍ عند بعضِهم, وبعضُهم يُزيحُهُ عن دورِه ومكانتِه ليضعَ مكانَهُ ما هو أجدى وأكثر نفعاً وفائدةً وفقاً لوجهةِ نظرِه.
هل حقاً أنَّ الشعرَ ديوانُ العرب؟ وإنْ كانَ ذات يوم ديوانهم هل مازال هو كذلك؟ هلِ الشعرُ فاعلٌ أمْ منفعلٌ؟ هلِ الشعرُ يَكْتُبُ تاريخَ الثوراتِ أمْ أنَّه يَصنَعُ الثوراتِ ليكتُبها؟ هل الشعرُ مؤرخٌ للساسة والقادةِ والأنظمةِ فقط أم هو صانعٌ للأحداث و التاريخ؟ هل الشعرُ أهمُّ منْ رغيفِ الخبزِ؟ أمْ أنَّهُ هو من يأتي بهذا الرغيفِ؟ أمْ هو رغيفُ الشعوبِ؟
هي تساؤلات يَحِقُّ لأيِّ مُتابعٍ للحياةِ الفكريةِ والسياسةِ اليوميةِ أنْ يطرحَها, ولكنْ مَنْ يَمْتَلكُ الإجابةَ الشافيةَ لها؟ ربما نستطيعُ من خلالِ هذا المقالِ البسيطِ أنْ نتوقفَ عِنْدَ محطاتٍ قليلةٍ جداً عِبْرَ مسيرة قطارِ الشعرِ العربي, الذي امتدَّ على مساحةِ الآلاف من السنين, فالشعرُ العربي ليسَ فقط هو ما وصلنا من شبهِ الجزيرةِ العربيةِ, فليس ما قاله أمرؤ القيس, ومَنْ سبقَهُ ومَنْ جاءَ بعدهم في هذه البقعةِ الجغرافيةِ هو وحده البدايةُ الحقيقةُ والشكلُ الوحيدُ للشعرِ العربي, ربما كانَ هنالك ما أهو أبكر وأقدم, ويمكننا أنْ نقولَ يقيناً أنَّ العربَ الفينيقيين كانَ لهم شعرٌ, وكذلك كانَ للبابليين والأشوريين والفراعنة وغيرهم ممن كانَ يَقطنُ هذه البقعةُ التي نسميها الوطنَ العربيَّ ربما كان لهم شكلٌ شعريٌّ ما, وهذه الثقافةُ الشعريةً لم يصلْ إلينا شيءٌ على الأقل في مناهجنا الدراسية شيء, هذا ما يراه الشاعر والإعلامي إبراهيم المصري(2) , ويُساندُ هذا القولَ عدَدٌ ليس بالقليل من الباحثين والشعراء.
هذه الرحلةُ الطويلةُ التي قطعها الشعرُ العربيُّ على امتدادِ تاريخِ الأمةِ المترعِ بالأحداثِ, المليء بالأفعالِ المتزاحمةِ, المفعمِ بالوقائعِ المثيرةِ للجدلِ والاستغرابِ, كانَ لهُ وجودٌ بأشكالٍ متعددة, وكانتْ مساحةُ هذا الوجودِ تتسعُ مرةً وتضيقُ مراتٍ, وربما يكونُ هو المحركُ للفعلِ الاجتماعي والقرارِ السياسي الذي يُغيرُ كثيراً مَنْ الأحداثِ, بَلْ ويُعِيدُ تكوينَها, ويُبْدِعُ منها ما يتلاءمُ معَ الظرفِ والزمانِ وأهدافِ هذا الفعلِ الاجتماعي أو السياسي. كانَ الشاعرُ ذاتَ يومٍ وزيرَ إعلامِ قبيلته إنْ صحَّ القولُ, فهو الناطقُ الرسمي باسمها, والقادرُ على تثوير الناسِ وتذكيةِ ما يريده شيخُ القبيلةِ مِنْهُ, هذا الشاعرُ الذي يُحْتفَلُ بولادتِه عند ظهور أول قصيدةٍ له, يُصْبِحُ الوحيدَ الذي يَجْعلُ من أفرادُ قبيلتهِ ينامون و مشاعرُ الفخرِ والاعتزازِ تَغْمرهُم, وهو القادرُ على إعادةِ الحقِّ الضائعِ, ونفسُه هذا الشاعرُ يُزيحُ عنْ كتفِ القبيلةِ هماً أثقلَها, وعيباً أشانها, وهو من سَيُعيدُ الثقةَ لهم حين الانكساراتِ.
كان الشعرُ العربيُ ذاتَ يومٍ يَصنعُ الحدثَ ويعملُ على تكوينِ مفرداتِه والسيرِ به نحو وجهةٍ قدْ لا يشتهيها القابضُ على أمرِ هذا الحدثِ, فشعراءُ العصرِ الجاهلي لعبوا أدواراً مهمةً في الصراعاتِ القبليةِ, كانَ لهم الدورُ الأكبرُ في تأجيجِ نيرانِ الحروبِ وتوثيقها فيما بعد, فلقد كانَ للكلمةِ دورٌ مهمٌ في كلِّ مفرداتِ الحياةِ, فوصيةُ كليب ” لا تصالح” التي كتبها بالدم على صخرةِ موجهها لأخيهِ الزير سالم أبو ليلى المهلل بعد أن طعنه ابن عمه جسّاس, هذه الكلمة ” لا تصالح” أورثتْ حربَ البسوس التي تحولت أحداثُها إلى سيرةٍ شعبيةٍ كان للشعر فيها تأثيرٌ واضحٌ في صبِّ الزيتِ على نارِ المعاركِ بين القبيلتين الشقيقتين) قبيلتي بكر وتغلب ابني وائل.) 494 – 534م.
نعم لقد حولت هذه الكلمةُ الشاب السكير و زيرَ النساء إلى بطلٍ وفارسٍ لا يُشقُّ لها غبارٌ, كما أنَّها جعلتْ من أبناءِ جيلٍ كاملٍ حطباً لنارٍ أبى أن يخمدَ سعيرُها حتى يذهبَ تأثيرُ الكلمةِ الأولى لتحلَّ كلمةُ أخرى تفعلُ فِعْلها المغايرِ الذي يُطفئ اللهيبَ وبالتالي لَنْ يترُكَ جمرةً واحدةً في هذا الموقدِ.
ولعنا هنا نتذكرُ الشاعرَ العربيَّ الكبير أمل دنقل (1930 – 1983) الذي استحضر هذه المفردةَ بعد ما يقارب 1500 عام ليطلَّ علينا بقصيدتِه الشهيرةِ التي حملت عنوانَ لا تصالح وكانت صرخةً مدويةً حملت بين كلماتِه نبضُ كثير من أبناء العروبة وصوتَ الأحرار في سبعينيات القرن العشرين, وبالتحديد في شهر تشرين الثاني من عام 1976 بعد توقيعِ اتفاقيةِ فصلِ القوات بين الكيان الصهيوني ومصر سنة ,1975 وهي الاتفاقية الثانية وكانت مقدمة لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وهذا الكيان الغاصب في أواسط سبعينيات القرن الماضي.
كتبَ كليبٌ كلمتَهُ حين غمسَ أصبعه بدمه الساخن, وخطَّ على الصخرة الشاهد الصامت, ففعل ما فعل, وأمل دنقل غمس قلمه بوجدانه ليكتب بروحه على صفحاتِ العقول والقلوب.
لقد جعل أمل دنقل من كلمة كليب “لا تصالح ” محوراً أساسياً تدورُ حولَهُ القصيدةُ بأكملها, وجعلَ وصيةَ كُليبٍ تغيرُ وجهتها من الزير سالم إلى كلِّ مَنْ يعتقدُ أنَّهُ يحملُ همَّ هذه الأمةِ, وينتمي إليها صادقاً.
يقول أمل دنقل في قصيدته لا تصالح:
لا تصالحْ!
ولو منحوكَ الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبتُ جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياءُ لا تُشترى
قال كليب: لا تصالح, فكانتْ كلمتُه فاعلةً في تغيرِ مسيرةِ المجتمع القبلي كما أنّها صنعت تاريخَ مرحلةٍ, صحيح أنَّ ما قالَه كان انفعالاً ناتجاً عن غليانِ عزتِه ودمِه, فهو المطعونُ من الظهر برمح غدرِ ابن عمه الغلام, ولكن هذه الكلمةُ كانتْ هي الفاعلةُ فيما بعد, غير أن ما نراهُ عند أمل دنقل يختلفُ في الموقفِ, حيثُ جاءتِ الكلمةُ بعد أنْ وقعتِ الواقعةُ فكانت منفعلة بها, و لذلك نرى أن وصاياه لم تأخذ فعلَها على من قبضَ على عُنقِ الحدث أولاً فجاءت كما قلنا قصيدته منفعلة, أمل دنقل يدعو للفعل رغم انفعاليته بالحدث:
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلبُ الغريبِ كقلبِ أخيك؟!
أعيناهُ عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفُها كانَ لك
بيدٍ سيفُها أثْكَلك؟
ولكن بمرورِ الزمنِ وتراكمِ نتائجِ هذا الفعل التاريخي المؤقت, صار للقصيدةِ دورٌ فاعلٌ فيما بعد, ربما ظهر في أشكالٍ قد لا تبدو مرتبطةً بهذا النصِ الشعري أو بغيره ولكن بالتأكيد هذه التراكمية الانفعالية أسسَّتْ لفعلٍ قادمٍ وحركاتٍ أُخرى تَحملُ بين طياتها أثراً للكلمةٍ ( شعراً أو نثراً ), وليست فقط حربُ البسوسُ وحدها من ترك لنا شاهداً على فاعليةِ الشعر من عدمه, فلدينا حرب داحس والغبراء, التي لم تكن البداية من كلمة, ولكن كان للشعرِ دورٌ كبيرٌ في توجيه أحداثها وتأريخها, والشواهدُ على ذلك كثيرة ولعل من أشهرها معلقة عمرو بن كلثوم والتي يقول في مطلعها:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا
مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيْهَـا إِذَا مَا المَاءَ خَالَطَهَا سَخِيْنَـا
تَجُوْرُ بِذِي اللَّبَانَةِ عَنْ هَـوَاهُ إِذَا مَا ذَاقَهَـا حَتَّـى يَلِيْنَـا
تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيْحَ إِذَا أُمِرَّتْ عَلَيْـهِ لِمَـالِهِ فِيْهَـا مُهِيْنَـا
كان لهذه القصيدة بعد مقتل عمرو بن هند الدورُ الأكبرُ في التحشيدِ, وعملت كنفيرٍ عامٍ من أجلِ الفعلِ في التصدي للإهانة, وهذه القصيدةُ أيضاً جاءت منفعلةً نتيجةً لفعلٍ, لتقوم بدور الفاعلِ فيما بعد.
ومع بداية تشكل الدولة عند العرب مع ظهور الإسلام اخذ الشعر اتجاهاً مغايراً في الفاعلية والانفعالية وربما تغير دور الشعر وتبدلت مهمته نوعاً وربما تراجعت القوة المؤثرة له ولكنها لم تختفِ ولعل حديثَ الرسولِ العربي محمد صلى الله عليه وسلم عن الشاعرِ حسان بن ثابت دليلٌ واضحٌ على دورِ الشعرِ في التنويرِ و التثويرِ والتغيرِ, وعلى فاعليته في تلك المرحلةِ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ (سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ ) (3)
قالَ كعبُ بن مالك رضي الله عنه قصيدته المشهورة
قضينا من تهامة كل ريب … وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت: … قواطعنا دوساً أو ثقيفا

وعلى إثر هذه القصيدة جاءتْ وفودُ القبيلتين المذكورتين معلنةً إسلامها بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويمكن لنا أنْ نقولَ: إنَّ هذه الحالةَ بقيت في دورِ الشعرِ والشاعرِ فتراتٍ طويلةٍ و متباعدةٍ, وأخذتْ أشكالاً متنوعةً وأدواراً مختلفةً, ففي العصر العباسي جاءت قصيدةُ الشاعرِ العربي “أبو تمام” في فتحِ عمورية
السيفُ أصدقُ إنباءً مِنْ الكُتبِ في حدَّهِ الحدُّ بين الجِدِ واللعبِ
فكانت دليلَ انفعاليةٍ لا دليل فاعليةٍ, فما قاله أبو تمام جاءَ بعد الحدثِ ليؤرخ ويمجِدَ ليس إلّا, لم يأتِ النصُ كمؤثر وموجِّهٍ للفعلِ, و لم يكن موجهاً للقابض على الأمر كي يتخذ قراره بالفعل, نعم هي الكلمة التي أُثارت النخوة لدى المعتصم ليقول لبيك يا أختاه, و ليست القصيدة,
فالشعر هنا منفعلٌ مرةً أخرى وترك مهمة الفاعلية للقارئ الذي يفتح صفحات التاريخ بعد سنين وقرون إذا كان هذا القارئ مؤمناً بمهمة الشعر التثويرة, أو على الأقلِ مؤمناً بأهميةِ الشعر بشكل عام , وهذا الأمر يتسقُ إلى حدٍ بعيدٍ مع شعر المتنبي في مدح سيف الدولة.
فعندما حُوصِرت مدينةُ حلب على أيدي الفرنجةِ أواخر عهدِ الدولةِ العباسية, خرجَ الناسُ في بغداد يطالبونَ الخليفةَ بالتحركِ لفكِّ حصارِها وتحريرِها من قبضة الصليبيين مستشهدين بأبياتٍ للمتنبي كثيرة من ضمنها:
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
وقالوا بيته المشهور ينددون بالحاشية العجمية الفاسدة للخليفة:
إنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم
وفي العصر الحديثِ ومع بدايةِ عصر النهضة هل أخذ الشعر دوره الحقيقي في الفاعلية والتأثير؟ هل عِملَ حقاً إعادة تشكيل الوعي الجمعي؟ هل كان السبّاقَ في كتابةِ ما يتوجبُ فعله؟ هل قامت مظاهرةٌ بسبب بيت شعرٍ, وهل قادت قصيدةٌ مسيرةً شعبيةً ضخمةً أو حتى صغيرة, هل قادَ شاعرٌ ثورةً وهو في بيته, هل قامت قصيدةٌ بانقلابٍ عسكري وغيرت مسيرة بلدٍ؟ هل للشعر دورٌ في حركاتِ العصيانِ المدني؟
من يقرأُ أدبَ النهضةِ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يمكنه أن يجد العديد من الإجابات على هكذا تساؤلات, وربما يعارضه بعضهم, هي مسألةٌ تحتاجُ لإعادة قراءةِ أدبِ ما يطلق عليه عصر النهضة, وهذه التساؤلاتُ تنسحبُ على مُجملِ الشعرِ والشعراءِ في العصرِ الحديث.
المتابعُ لشعر أحمد شوقي وخليل مردم بك وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي ومحمد مهدي الجواهري والزهاوي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة و مفدي زكرياء وغيرهم وصولاً إلى نزار قباني وسليمان العيسى وعمر أبو ريشة ومظفر النواب ومحمود درويش وتوفيق زيّاد وفدوى طوقان وسميح القاسم إلى آخر القائمة وحتى شعراء التسعينات في القرن الماضي وشعراء بداية الألفية الثالثة, يستطيعُ أنْ يحصلَ على ضالتِه إذا ما أرادَ أنْ يكتشفَ مدى الفاعلية للكلمة من انفعاليتها أو هامشية بعضها لدى هؤلاء في مواضع كثيرةٍ, والقدرةُ على التأثيرِ في الأحداثِ, ويستطيعُ أيضاً أن يرى بوضوح مدى الانفعالية بالأحداثِ نفسها أو ما هو على شاكلتِها عندهم وعند غيرهم,
الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي يصفُ حالَ العراق وأهله ويدعو للتغيرِ, أي أنَّه في دائرةِ المنفعلِ الفاعلِ فيقول:
قد سافر الجهل الا عن منازلنا ……….. وأثمر العلم إلا في نواحينا
ما جاءنا الشر الا من تهاوننا ……… ما عمنا الظلم إلا من تغاضينا
لا بد من فك ما قد شد من عقد ……… كف الإسار بأيدينا بأيدينا
إنَّ الذين استحبوا قتل أنفسهم ………. فراً من الضيم ما كانوا مجانينا
هنا نجد الجواهري الكبير يغضبُ لبناءِ شعبه متأثراً بحالهم داعياً لفعلهم شيئاً تجاه ما يمارسُ عليهم.
على باب شيخ المسلمين تكدست جياع علتهم ذلة وعراة
هم القوم أحياء تقول كأنهم على باب شيخ المسلمين موات
يلم فتات الخبز في التراب ضائعا هناك ، وأحيانا تمص نواة
بيوت على أبوابها البؤس طافح وداخلهن الأنس والشهوات
يدي بيد المستضعفين أريهم من الظلم ما تعيا به الكلمات

وأثناء الثورة على حُكمِ الأئمةِ في اليمنِ، يطل الشاعر محمد محمود الزبيري
مــــــا لليمــــــانيين في نظراتهـــم بؤس وفــــــــــــي كلماتــــهــم ألآمُ
جــــــهل وأمراض وظلم فـــــادح ومــــخافة ومـــــجاعة وإمامُ
والنـــــــــاس بين مكبــل في رجله قــــيد وفي فــــــــمه الــبليــغ لجـــامُ
أو خــــائف لم يــدري ما ينتابـــه منــهم أســـــجنُ الدهـر أم إعدامُ
وكذلك كان عبد الله البردوني شاعر اليمن الكبير
اعـــــــــــــذر الظــــلم وحمــــــلنا الملاما نحن أرضعناه في المهـــــد احتـــــراما
نحن دللنـــــــاه طفــــلا في الصــــــــــبا وحملـــــــناه إلى العـــــــــــــرش غـــــلامـــا
وبنــــــــينا بدمـــــــانا عـــــــــــــــــرشه فــــانثنى يـــــهدمنا حين تـــــــــســـــامــى
آه مـــــــنا آه مـــــــــــــا اجهـــــــــــــلنــا بعضنـــــــــــا يعـــــــــمى وبعض يتـــعامى
نأكل الجـــــوع ونستسقي الظمـا وننـــــــــــــادي يحــــــفظ الله الإماما
وحين الحديث عن فاعلية الشعر لا يمكن لنا أن نتجاوز الشعر في المنطقة الساخنة جداً من الوطن العربي أي بلاد الشام وفلسطين خصوصاً, رغم سخونة هذه المنطقة, ورغم سخونة شعرها لا نستطيع أن نقول أنَّ هنالك شعر كان فاعلاً مؤثراً صانعاً للأحداث, وهذا ناتج عن تسارع الأحداث, و لذلك نجد الشعر في هذه الأكثر سخونةً تابعاً للحدثِ, ينفعلُ به وخاصة في القضية الفلسطينية, لامس الشعر الفلسطيني الجراح العميقة وحاول أن يجد لها حلاً. وخاصة ذلك الشعر المغنى كان له دورٌ كبيرٌ في الثورة والمقاومة.
شعر محمود درويش صور الواقع الفلسطيني بصدق, كما أنّه صوّر الثورةَ أبلغ تصوير, حاول درويش في بعض قصائده تقديم اقتراحاً كي يكون فاعلاً.
لو يذكر الزيتون غارسهُ
لصار الزيت دمعا!
يا حكمة الأجدادِ
لو من لحمنا نعطيك درعا!
لكن سهل الريح،
لا يعطي عبيد الريح زرعا!
إنا سنقلع بالرموشِ
الشوك والأحزان.. قلعا!
وإلام نحمل عارنا وصليبنا!
والكون يسعى..
سنظل في الزيتون خضرته،
وحول الأرض درعا!!
ترنح دورُ الشعر كثيراً ولكنه حديثاً جداً في الألفية الثالثة تمكَّن من استعادة بعض مكانة كانت, فتحول من منفعلٍ إلى فاعلٍ, ففي تونس الخضراء راحَ الشبابُ التونسيُّ يردِّدُّ أبياتَ الشاعر أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر
ولابد لليل أنْ ينجلي ولابد للظلم أنْ يندحر
ومن يتهيب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر
وقالها الشباب المصري مرة أخرى في ميدان التحرير وفي الإسكندرية على شواطئ المتوسط وفي أسوان قلب الصعيد, فعادوا بالذاكرة إلى النشيد الشهير الذي كتب كلماته محمد يونس القاضي متأثر بأحد خطابات مصطفى كامل: (4)
بلادي بلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي
وهنا يتوجب علينا أن نتذكر الثلاثي المصري صلاح جاهين وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور هؤلاء الذي كان لهم دور في خمسينيات وستينيات القرن العشرين, فترة المد القومي, على الرغم من اختلاف الشكل الشعري ورسالته والجهة المخاطبة عند كل واحد منهم, ولا ننسى بيرم التونسي وصوت الشيخ عيسى إمام الذي شدا بكلمات أحمد فؤاد نجم. قد يختلف بعضهم حول تغير موقف صلاح جاهين الذي كان يعرف بشاعر الثورة تجاه هذه الثورة وخاصة بعد وصول أنوار السادات إلى سدة الحكم, إذ يقول البعض أن صلاح جاهين خان نفسه, بمعنى آخر تحول شعره من الفاعل المؤثر إلى المنفعل المحدود التأثير, وهذه وجهة نظر لها مؤيدون كُثر.
كان الشعر حاضراً في الذاكرةِ والوجدانِ, ولم يكُنْ موجوداً في الواجهة كفاعلٍ حقيقي مباشرٍ,بالتأكيدِ إنَّ الخبزَ النظيفَ والهواءَ النقي وراء كلِّ ما حدث و ما سيحدثُ ذاتَ يومٍ وذاتَ مكانٍ, لقد طغت الصورةُ الصارخةُ عبر وسائلِ الإعلامِ على الشعر.
بالمناسبة كانت هنالك أمسيات شعرية تقام في ميدان التحرير في القاهرة إبان ثورة 25 يناير (كانون الثاني) لكثير من الشعراء وعلى رأسهم أحمد عبد المعطي حجازي أحمد فؤاد نجم.
لقد صدرت في مصر قُبيلَ الثورةِ الشعبية بأيامٍ قليلةٍ مجموعةٌ شعريةٌ للشاعرٍ أسامة صلاح الأبنوبي وهي الإصدار البكر له تحمل عنوان ” البرادعي والحمار” وهي مجموعة تعتمد على السخرية من كل شيء, ولا مجال للإسهاب في الحديث عن هذه المجموعة, ولكن يمكن أن تتخذها كدليل على قدرة الشعر في استشراف المستقبل وقدرته على قراءة الأحداث قبل وقوعها.
في أحدى المقطوعات نرى طالباً يقف بثقة يجيب عن سؤالِ معلم النحو كي يعرب بعض الكلمات:
الظلم يا أستاذُ يرفعُ فاعلاً
والفقرُ حالٌ.. والرقابةُ في شخيرْ
والحلمُ في وطني ضميرٌ غائبٌ
والعمرُ أرخصُ فيه من قرصِ الشعيرْ
والعدلُ مات محلُ إعراب له
والحقُ مكسورٌ وليس له نصيرْ
والحرُ مفعولٌ به وبأهله
بين الزنازنِ ما تئنُ له الصدورْ
أما المضافُ فهاربٌ بدمائنا
وأضف إليه نقودنا حتى يطيرْ
والنشلُ بدلٌ من تسولِ عاطلٍ
وموظفٌ صفةٌ لشحاذٍ فقيرْ
أما الجنيهُ فقد تمنعَ صرفُه
واسأل به الجزارَ أو جندَ المرورْ
تعديلُ دستورٍ فهذا مبتدأ
وانشر له خبراً بتوريثٍ مريرْ
أمريكا جارٌ لا تسلني كيف ذا
أما النظامُ فصار مجروراً حقيرْ
هل حقاً هي نبوءة الشاعر؟ أم أنها رمية من غير رام؟ هل مهدت ثورة الشعر لثورة عبر التاريخ؟ هل الشعراء ثوّار بالرغم من وجود شعراء بلاط وسلطة؟
الشعر ذاكرة الزمان والمكان والتاريخ بكل اتجاهاته, فهو لكل هذا حين ينزل إلى قاع المجتمع ويبحث بين الأزقة والأماكن المنسية ويعود حاملاً معه كل الأحلام المؤجلة والآلام ليدفع بها نحو الأعلى ويقذفها بقوة نحن من يخنقها.

سفيربرس ـ أحمد رشاد

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *