إعلان
إعلان

تعقيدات الوضع السوري…. بقلم : د. شاهر إسماعيل الشاهر

#سفيربرس _ الصين

إعلان

تعود تعقيدات الوضع السوري إلى طبيعة بنائه الصراعي، الذي يتأسس على ثلاث طبقات تتفاعل في جدلية تزيد من صعوبة التحليل الطامح إلى الاقتراب من الدقة. ويبدو أن المستوى الأول للصراع يتمثل في المستوى المحلي السوري، الذي تنخرط فيه قوى سياسية وطائفية وجهوية متباينة ومصالح اقتصادية نافذة. ويتكون المستوى الثاني الإقليمي من صراع أساسي على سورية بين إيران الداعمة للدولة السورية والمتحالفة معها، في مواجهة تركيا التي تتبنى هدف إسقاط الدولة السورية وتتحالف مع فصائل المعارضة المسلحة. ولا يمنع الصراع التركي ـــ الإيراني من انخراط أطراف إقليمية لها مصالح في الصراع السوري. ويظهر المستوى الدولي الثالث للصراع في الشد والجذب الدوليين بين روسيا والصين من ناحية، في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.

يختتم الصراع الدائر في سورية وعليها حقبة تاريخية امتدت على مدار قرن كامل، منذ اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي دشنت المشرق العربي بحدوده الحالية فاتحة الباب أمام ترتيبات إقليمية مغايرة، ومعها خرائط سياسية جديدة لدول المنطقة. تشبه اللحظة التاريخية الراهنة العام ١٩١٥، الذي حمل في طياته كل مقدمات التغيير الذي انفجر بعدها ليعصف بحدود وتوازنات المنطقة، ولم يتركها إلا وقد تغير وجهها بالكامل. ها هي «معاهدة سايكس بيكو» التي رسمت مصائر وأقدار المشرق العربي من وقتها وحتى «الربيع العربي» تتدشن في العام ١٩١٦، وبعدها بعامين صدر «وعد بلفور» (١٩١٧) الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين غيّر وجه المنطقة وشكل من وقتها صراع المنطقة الأساسي. بعدها بثلاث سنوات انتهت الحرب العالمية الأولى ١٩١٨ بنتائجها الوخيمة على المنطقة، في حين أعلنت «معاهدة سان ريمو» في العام ١٩٢٠ الانتداب على سورية. واختبر العام ذاته «معاهدة سيفر» التي أعطت الأكراد والأرمن في السلطنة العثمانية أقل من استقلال كامل وأكثر من حكم ذاتي. تلا ذلك مباشرة إبرام «معاهدة لوزان» عام ١٩٢٣، لتنظم انهيار السلطنة العثمانية وتشكل الأساس المادي والقانوني للجمهورية التركية التي قامت على أنقاضها، قبل إلغاء الخلافة في العام ١٩٢٤. من كان يدري في العام ١٩١٥ أن وجه المنطقة سيتغير بهذا الشكل في السنوات القليلة اللاحقة؟ أعتقد لا أحد. الآن تبدو توازنات المنطقة مستدعية لإعادة ترتيب جديد، يشبه كثيراً ترتيبات معاهدة «سايكس بيكو»، لكن اللاعبين الحاليين ليسوا القوى الخارجية حصراً كما كانت الحال قبل مئة عام، وإنما القوى الإقليمية غير العربية تركيا وإيران وإسرائيل.
تركيا الاخوانية ذات الاحلام الطورانية العثمانية، تريد ولاية الموصل الغنية بالنفط لتعويض حرمانها من الطاقة، تتحجج بأن المعاهدات الدولية منذ قرن مضى حين قسموا الامبراطورية العثمانية المنهارة لم تعطها حقها في الموصل. فولاية الموصل تمتد من الموصل في العراق إلى حلب في سوريا، اقتطع منها طبقاً لمعاهدة لوزان عام 1922 لواء الاسكندرونة العربي وألحق بتركيا، وحرمت من الموانئ على البحر المتوسط. وتريد تركيا توسيع تدخلها في سوريا من الشمال الشرقي إلى 1500 كيلو متر مربع، وتريد أن تصل إلى حلب وتلحق الأراضي المغتصبة بالموصل أو ما تسميه تركيا ولاية مغتصبة من قبل دولة العراق وتضمن أن لا يصبح هناك وجود شيعي أو عربي. ضمن معاهدة لوزان بند يبيح لتركيا التدخل في حال تغيير الهوية الديموغرافية (الأصل السكاني) لمدينة الموصل وللأصول التركية (التركمان) الموجودين في ولاية الموصل. وتقول تركيا علانية أنها تخشى من حزب العمال الكردي ( أكراد أوجلان تركيا) أن يتمترسوا في جبل (سنجار) القريب من الموصل، وفي المنتصف وقريباً من الحدود السورية. وأكراد العراق لا يمانعون في مساعدة الأتراك طالما سيحصلون على اعتراف بدولتهم القائمة بالفعل شمال العراق، البشمركة (الجيش الكردي) يشارك في معارك الموصل بحذاء الجيش التركي المتمرس في (بعشيقة) العراقية ويرفض الجلاء عن الأراضي العراقية.
لقد عادت تركيا بقوة إلى توازنات المنطقة مع بداية عامي 2009 وما بعد على جناح سياسة «تصفر مشاكل» عبر تحسين علاقاتها مع دول الجوار التي تجمعهم معها بعض الخلافات، فقامت بتحسين علاقاتها مع دمشق في محاولة ساذجة لسحبها من تحالفها مع إيران، قبل أن تتدهور العلاقات بسبب الاحداث السورية الأخيرة تحت تأثير حسابات أنقره الخاصة التي دفعتها إلى الاصطفاف الواضح مع أعداء سورية.
تركز سياسة تركيا في شمال سوريا على احتواء النفوذ المتزايد للجماعات الكردية التي أسست لنفسها مناطق حكم ذاتي منذ بداية الحرب السورية في 2011. وتقول أنقرة إن وحدات حماية الشعب تمثل تهديداً أمنياً وتراها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يشن تمرداً على الدولة التركية منذ عشرات السنين.
يدخل تحليل ملف التنافس التركي– الإيراني ضمن مستويات تحليل الأحداث الأخيرة في سورية، لا سيما المستوى الإقليمي الذي يتكوّن من صراع أساسي على سورية بين إيران الداعمة لسورية قيادةً وشعباً والمتحالفة معه، في مواجهة تركيا التي حاولت وتحاول جاهدةً إسقاط النظام السياسي السوري، وتتحالف مع بعض فصائل معارضته المسلحة. وفي هذا السياق لا بد من توضيح الميزات والفرص السانحة التي وفّرتها الأحداث الأخيرة التي شهدتها سورية لبعض القوى الإقليمية للتدخل في شؤون المنطقة العربية عبر المسألة السورية، لا سيما بعد أن شهد تاريخ بعض هذه الدول سنين ومراحل من السعي الجاد للتدخل في شؤون منطقة الشرق الأوسط عموماً والمنطقة العربية خاصةً، ويقصد الباحث هنا كل من إيران وتركيا، حيث ظهرت الحدود السياسية الحالية لدول المشرق العربي (العراق، سورية، لبنان، الأردن) بالترافق مع انكفاء كل من الجمهورية التركية ــ وريثة السلطنة العثمانية ــ وإيران إلى داخل حدودهما السياسية، حيث لم تستطع تركيا أو إيران لعب أدوار قائدة في المنطقة العربية بسبب الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. فالحرب الباردة منعت ترجمة الاختلال في موازين القوى إلى نظام إقليمي جديد، يعترف بأدوار جديدة لمصلحة أي من القوى غير العربية في الشرق الأوسط: إسرائيل وإيران وتركيا، ثم منع وجود القوات الأميركية في العراق خلال الفترة الممتدة من ٢٠٠٣-٢٠١١ من ظهور نظام إقليمي جديد بقيادة إيرانية وتركية، لأن الولايات المتحدة الأمريكية لعبت بوجودها العسكري أدواراً إقليمية في منع إيران من تعبئة الفراغ، وضبط تركيا عن اجتياح كردستان العراق. وترافق اندلاع أحداث ٢٠١١ في تونس ومصر وليبيا، مع خروج الولايات المتحدة الأمريكية من العراق، ولعل هذا كان يستدعي ــ موضوعياً ــ التدخل التركي والإيراني لتعبئة الفراغ القائم فعلاً في الشرق الأوسط.
ويشير الوضع الراهن إلى صراع إرادات إيراني ــ تركي على سورية وعلى القيادة الإقليمية، إذ يملك كلا البلدين نظرياً أفضل الفرص للانخراط في النظام الإقليمي القيد الظهور. تتجه جغرافياً إيران إلى التمدد نحو الغرب، أي العراق وبلاد الشام نزولاً إلى مصر في أقصى تمددها. فضلاً عن نفوذها في الخليج العربي، الذي كان منذ خمسة قرون على الأقل ساحة لتمدد نفوذها الإقليمي، وفي المقابل تميل جغرافياً تركيا وتاريخ نفوذها إلى التوسع في اتجاهين، الأول نحو الغرب، أي البلقان وأوروبة، والثاني نحو الجنوب أي سورية ومصر. ويبقى ملاحظاً هنا أن هذه الطموحات الإقليمية لكليهما لا تأتي من باب حب التوسع، وإنما ترجع إلى مجموعة من الأسباب. أولاً شح الموارد في إيران وتركيا تاريخياً، وثانياً للتحكم بطرق التجارة والمواصلات، وثالثاً الدفاع عن الحدود من خارجها وليس من داخلها، ورابعاً المترتب على ثالثاً، لأن التوسع خارج الحدود يحقق هدفاً أساسياً لكليهما وهو إخفاء الطبيعة الفسيفسائية للكتلة البشرية في هذين البلدين المتصارعين.
ويتوقع أن يستمر الصراع بين تركيا وإيران على سورية سائراً في مباراة صفرية، بحيث يخرج أحد الطرفين رابحاً بكل النقاط والآخر خالي الوفاض. ويزيد من صدقية هذه الفرضية أن عوامل كثيرة تمنع الطرفين من القبول بتسوية سياسية تعطي كلاًّ منهما بعضاً مما يريد، ومنها العوامل التالية:
١- الأهمية الفائقة لسورية في سلم أولويات الطرفين.
٢- الطبيعة الصراعية للعلاقات التي تجمع بين البلدين منذ خمسة قرون.
٣- جهوزية الظرف الموضوعي في المنطقة لاستدعاء الصراع بين الطرفين.
إيران سوف تكون أحد أقوى دولتين في المنطقة، فهي تتمتع بثروة كبيرة، وتُعد أكبر القوى الخارجية من حيث تأثيرها في العراق، ولها نفوذ لا يستهان به على “حزب الله” وحركة حماس ودعمها لهم، فهي قوة تقليدية لها طموحاتها وتهدف إلى إعادة صياغة المنطقة وفق رؤيتها الخاصة، كما إن لها القدرة على ترجمة هذه الأهداف إلى واقع. والتحدي الأساس الذي يواجه سياسة إيران الخارجية، هو إيجاد التوازن بين العنصر الجيوبولتيكي والعنصر العقائدي الموجود طوال تاريخ إيران، والذي بلغ القمة خلال عهد الثورة الإسلامية.
لقد لعب الملف الكردي بين كلّا البلدين دوراً في إيجاد مجال مشترك بينهما، إذ يتمركز الأكراد في مناطق جغرافية بعينها، في غرب إيران وجنوب شرق الأناضول في تركيا. وتزداد هواجس كل من تركيا وإيران من حقيقة أن الأكراد لهم امتداد قومي في مناطق الجوار الجغرافي خارج الحدود، وبالتالي عند أي ضعف للدولة يكون خطر التفكك حاضراً بشدة، وعلى أساس المنطلق السابق سعت تركيا بعد اشتداد الأزمة السورية بفترة وجيزة إلى طرح مشروع (المنطقة العازلة) الذي هدف إلى تحقيق ما يلي:
– تأمين منطقة جغرافية لتجميع قوى المعارضة السورية وتدريبها لاستنزاف قوة الدولة السورية تحضيراً للتدخل الأجنبي .
– القضاء على استقلالية المنطقة الكردية المحاذية (القامشلي والحسكة) لعدم ضمها إلى كردستان التركية وإلغاء الإصبع الجغرافي داخل الجسد التركي الذي يمكن استعماله من قبل حزب العمال، الكردستاني بعد السماح أو تغاضي الطرف السوري عن تحركاته العسكرية رداً على احتضان تركيا(للجيش السوري الحر) ومخيمات اللاجئين المقفلة.
وتلعب تركيا دور العدو الشرس الذي يستهدف تدمير وحدة واستقرار الدولة السورية، فتجربة 2003 حين صوّت البرلمان التركي بالرفض على قرار يسمح لقوات التحالف الدولي باستخدام الأراضي التركية معبراً لغزو العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين، شكلت رضّة في مؤسسة السياسة الخارجية التركية في مطلع عهد أردوغان بالندم لكونهم حرموا أنفسهم من المشاركة في رسم مصير العراق ما بعد سقوط صدام حسين؛ الأمر الذي دفع قادة تركيا الجدد لاحقاً إلى محاولة تفادي تجربة العراق والاستفادة إلى أقصى حد من الأحداث في سورية لتحقيق مكاسبهم الخاصة لا سيما في ظل تداخل الملفات الإقليمية والدولية في سورية.

# سفيربرس بقلم:  د. شاهر إسماعيل الشاعر

بروفيسور في كلية الدراسات الدولية- الصين

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة