إعلان
إعلان

كتبت ميَّادة مهنَّا سليمان : قراءة نقديّة في المجموعة القصصيّة “شواطئ الغربة” للكاتب الليبيّ الدّكتور خالد السّحاتيّ.

#سفيربرس

إعلان

مُهديًا مجموعته القصصيّة إلى وطنه الحبيب ليبيا
يبتدئ الكاتب قصصه الّتي كان الحدثُ البارز فيها
الغربة بمعنَييها غربة الجسد، وغربة الرّوح.
ففي مقدّمة المجموعة يقول:
” إنَّهَا مُحَاوَلاَتٌ قصصيَّةٌ تَحْتَفِي بالغُـرْبَةِ، بل تتخذُ منها عُنواناً عريضاً لها، تتسللُ تلك الغُربة بين ثنايا هذه المجمُوعة، وأجدُني دُون أن أشعُـر أكتُبُ بقلمٍ يتلمَّسُ ملامح الغُربة في كُلِّ شيءٍ، يُلاحقُها بنهمٍ بالغٍ، يتربَّصُ بها الدَّوائر، ثمَّ يسكُبُها بتُؤدةٍ أحيانا، ودُفعةً واحـدةً عـلى عـجـلٍ أحْيَاناً أخْـرَى فِي قَـوَالبَ سَـرْدِيَّةٍ مُنوَّعـةٍ.”

* هذه الغربة الّتي كانت تؤجّج كتاباتِ الشّعراءِ والأدباءِ وشغلتِ المحلّلينَ النّفسيّينَ وتمازجَت بألوانِ الفنّانينَ
إنّها الانفصالُ، وعدمُ الانتماءِ، بل هي وعي الفرد بالصّراعات الدّاخليّةِ بينَهُ، وبينَ البيئة المحيطة به، فيعبّر عنها بأشكال شتّى كالقلقِ، والعزلةِ، والضّياع، والوحدة، والنّقمة، واللامبالاة، ورفض القيم والمعايير الاجتماعيّة، وانعدام الثّقة بالنّفس.
* وللغربة أنواع عديدة، وقد أوردها الكاتب كلّها في معظم قصصه، ومنها الغربة الذّاتيّة الّتي يرى فروم وهورناي بأنّها تشير إلى ” أنّ الفرد لم يعد يملك زمام ذاته (انسياقه وراء أفعاله)، بنزوحٍ نفسيٍّ داخل مَواطِن نفس الفرد، لكنّه نزوح لا يتحدّد بوقت أو مكان، يؤدّي إلى جهل الشّخص لذاته الواقعيّة)، تصاحبها أعراض الانعزال والتّمرّد والرّفض والانسحاب والخضوع.”

وأمثلة ذلك من مجموعته:
(رحيل، طيف، فرار، انتشاء، القلب الذّهبيّ، غربة الرّوح، ضجيج الصّمت، لعنة الكلمات، أطلال، متاهات التّشظيّ، مشوار العمر، انتقام) وفيها يقول على لسان البطل العاشق المفتقد لمحبوبته، والّتي يعيش حياة الضّياع في غيابها:
” يرحل عبر نافذة الحلم إلى عينَيها، يتشبّث رغمًا عنه بما تبقى من ضحكاتِها، يشتاق إلى كلماتِها الدّافئة..”

ثم يكمل أيضًا على لسان الشّخصيّة ذاتها:
“سافر دون وجهة بحثًا عن شريان قلبه الضّائع، تجوّل في الشّوارع والأزقّة المعتمة… استمرّ يبحث عنها بكلّ ما تبقى لديه من أحلام”

* وللغربة الاجتماعيّة وجود أيضًا في قصصه، هذه الغربة الاجتماعيّة الّتي يعرّفها الدّكتور محمود رجب:
“هي شعور بالفتور والجفاء والوحدة والانفصال، وقطع العلائق الاجتماعيّة؛ أي غياب المودّة والألفة والتّعاطف والمُشاركة والمحبّة، بين الذّات والآخر.”

ومثل هذه الغربة نلمحها في عدّة قصص للكاتب
منها: (خربشات صبيانيّة، نهاية الحكاية، أقنعة، المحفظة، طيف المحبوبة، فزع الكوابيس، ذاكرة، تحايل، لقاء..)
وفي قصّة( شواطئ الغربة) تتماهى الغربتان الذّاتيّة والاجتماعيّة، فالغربة الاجتماعيّة نجدها حين يوردُ حوارًا بين الزّوجة، وبين زوجها المغترب عن عائلته، وعن نفسه تقول له:
– إلى متى لا تبالي بتعبي، وتتجاهله بدم بارد؟”
ثمّ نجد الغربة الذّاتيّة في قولِه:
“كفاكَ طرقًا لأبواب الماضي”.

تعود ملامح الغربة الاجتماعية للظّهور في ختام القصّة:
” تذكَّر طفلَيه اللذين عبق أريج حبّهما في قلبه فجأة
كزهرتين تفتحتا لتوّهما في خربة عتيقة ملطّخة بلون الرّماد… ابتسم ثمَ غادر إلى هناك حيث لا تعبث أمواج التّشظّي بقوارب الكادحين”.

* أمّا عن الغربة الاقتصاديّة والّتي يرى كارل ماركس أنّها ” عجز الإنسان أمام قوى الطّبيعة والمجتمع، إذ إنّ هذا العمل لم يعد يعكس شخصيّة المرء واهتماماته بل غدا في خدمة الآخر وتحت سيطرته.”
ونجد أمثلةً عليها في قصص الكاتب:
(هجرة، هروب، طوابير، فرار، دروس، زخات)
يقول في قصّة (هجرة) موضّحًا وطأة العامل الاقتصاديّ
على بطل القصّة:
” اتّصل بصديق له ليساعده.. دفع له مبلغًا من المال”.
وتتجلّى أيضًا في القصّة ذاتِها الغربة السّياسيّة:
يقول متحدّثًا عن بطل قصّته ذاتها:
“كانت عيناه ترنو إلى الوطن الجريح، وتتلهّف نفسه للعودة إليه رغم كبر المحنة الّتي أصابته”
وفي موضع آخر:
“إذا فارقتُ الحياةَ، أخبِر أبي أنّني أحبّه، وأنّ الوطن سيعود يومًا”.

* ثمّ في قصص أخرى نجد الكاتب يجسّد لنا فِكرَ
فوير باخ حين حصر الاغتراب “بالوعي الدّينيّ والفلسفيّ والتّأمّليّ، إذ أصبح الدّين جوهر كلّ نظام سياسيّ.” لكنّ باخ يعتبر أنّ الإنسان ليس في حاجةٍ إلى شريعة دينيّة بل إلى “شريعة دولة فعليّة إنسانيّة”.

وهذا ما نجده في قصّة الكاتب (لعنة الكلمات) ففي الوقت الّذي كان أفراد القبيلة يشتكون من ظلم زعيمهم، الأمر الّذي دفع أحدهم لاغتياله- ظنًّا منه بأنّ الخلاص من الظّلم والفساد تمّ على يديه- نجد أنّ جميع أفراد القبيلة اغتربوا عن ذواتهم، وعن الآخرين فعمّت الفوضى:
“كان كبير القبيلة (الّذي يخافه الجميع) ..
يبحث عن فرائسه الشّاردة من النّاس والأنعام ودائمًا كان يعود بكثير منها وقد خلّف وراءه أكوامًا من الدّموع والآهات والغصص ودعوات الانتقام…”.

ونرى الخاتمة بعد مقتل الزّعيم الظّالم، وضياع هيبة القبيلة:
“غربت شمس الكبرياء والأنفة .. لكنَّ جيلاً جديدًا من أبناء القبيلة ينتظر بيقين قاطع أن تشرق شمسنا من جديد.”

أمَّا عن قصصه: (ذاكرة، سؤال، ضجيج الصّمت، ندم)
فهي خير تجسيد لمقولة سارتر الّتي اعتبر فيها الاغتراب عن الذّات انعدامًا لحرّيّة الإنسان، يقول الكاتب في قصّة (ذاكرة):
” أصبح يعيش بلا دفء، ولا ماضٍ… اغتراب عن كلّ شيء ورحيل قسريّ لذكريات مضت بلا عودة.”

* أمّا لغة الكاتب فكانت جميلة مالت إلى الشّاعريّة أحيانًا كما في قصّة (انتظار):
“القمر يشعّ بنوره على الكون، ويمنع الغيوم قاتمة السّواد أن تحجب ضوءه عن عيون الحالمين والبائسين والعاشقين، الحديقة تخلد إلى النّوم، والليل يجلس على ناصية الطّريق..”
كما اتّسمت بالدّقّة في الوصف كما في قصّة
(خربشات صبيانيّة):
” منهمكة طيلة الوقت بالنّظر في مرآتها الصّغيرة، حقيبتها الرّماديّة الجديدة تنوء بما تحمل…الفصل في حالة يرثى لها…الصّبيان يتراشقون ببقايا الورق الممزّق وقشور البرتقال..”

كما ابتعد الكاتب عن الإسهاب والتّكرار، وانتقى كلمات مأنوسة كما في قصّة (انتشاء):
” ألقى الصّور من يده، وشرع في بكاء طويل كطفل يتغنّج على أمّه لتعطيه قطعة حلوى”.

واختار في قصّة (طوابير ) جزءًا من حوارٍ باللهجة الليبيّة، ربّما لأنّ مثل هكذا قصّة تتحدث عن طبقات اجتماعيّة مسحوقة يلزمها حوار قريب من حياة العامّة:
“- كيف تبيني انبات هنا؟
– صقع عليك، جينا بعد صلاة الفجر…”

* موضوعات المجموعة:
رغم أنّ العنوان العريض للمجموعة هو الغربة، إلّا أنّ الكاتب نوَّعَ في الموضوعات الّتي طرحها فنجد:
(الحبّ، خيبة الأمل، التّسامح، الظّلم، الفقر، الذّكريات، العقوق، الحرمان، ضغوطات الحياة، ومتاعبها.)

* كما نجد في المجموعة بعض القصص الرّمزيّة
كقصّة(ضجيج الصّمت):
“قال السّراب للصّمت: “إنّكَ مِن ذَهَبٍ”
أجاب الصّمت بهدوء مصطنع:
وهل يتجاهل النّاس الذّهب، ويقصونه في زاوية مهمَلة؟”

وقصّة (ندم):
سَأَلتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ شَجَرَةَ الكَرَزِ بِعَفَوِيَّةٍ: هَلْ يُرِيدُ هَؤُلاَءِ لَنَا الخَيْرَ أو السَّلاَمَ؟ أَمْ أَنَّ نَوْمَنَا فِي هُدُوءٍ يُزْعِجُهُمْ؟، أجَابَتْ شَجَرَةُ الكَرَزِ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: اسْأَلِي تلك الدَّبَّابَةَ القَابِعَةَ هُنَاكَ عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلِ… حَمْلَقَتِ الدَّبَّابَةُ فِي شَجَرَةِ الكَرَزِ بِشَزَرٍ وَاضِحٍ، ثُمَّ أَطْلَقَتْ قَذِيفَتَهَا المُثَرْثِرَةَ لِتُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ بِطَرِيقَتِهَا الخّاصَّةِ، تّحَوَّلَ الحَقْلُ إلى أشلاءَ مُمَزَّقَةٍ مِنَ الفُرُوعِ وَالأَغْصَانِ المَحْرُومَةِ مِنَ الحَيَاةِ وَالأَمَلِ وَالتُّرَابِ، عَرَفَتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ الإِجَابَةَ لَكِنَّهَا حَتْماً نَدِمَتْ عَلَى ذَاكَ السُّؤَالِ اللعِينِ!.

* ملاحظات:
فقط أحببت التّنويه إلى وجود بعض الأخطاء الإملائيّة:
(شطئان، المؤنة، حظَرَ، ورائَهُ، لا يختبِأُ)
والصّواب:
(شطآن، المؤونة، حضَرَ، وراءَهُ، لا يختبِئُ)
ووردت كلمتان خاطئتان لغويًّا هما:
(حنايا) والصّواب:
أحناء صدره، والأحناء هي أضلاع الصّدر، مفردها: حِنْو.
و(صُدفة)، والصّواب مصادفة لأنَّ الصُّدفة من الصّدوف: الإعراض والانصراف عن الشّيء.
قال تعالى: ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٧] أي: يُعرضون.

* يُذكر أنّ المجموعة القصصيّة شواطئ الغربة
صادرة عام ٢٠١٩ وقد قدّم لها الأديب الليبيّ
سالم عليّ العيّار، وتضمّنت لوحات فنّيّة للفنّان التّشكيليّ
الدّكتور معتوق أبو راوي.

أمّا المؤلّف خـالـد خميـس السحـــاتي فهو:
* من مواليـد مدينة بنغـازي/ ليبيـا.
* كــاتـبٌ وبـاحـثٌ وقـــاصٌّ ليـبيٌّ.
* يكتُبُ: المقالة الأدبية والثقافية والسياسية ـ القصَّة القَصِيرَة ـ الأقُصُوصَة.
الدّراسـات الثّقافيّة والفكريّة والسّيـاسيـّة ـ الحــوار الصّحـفيّ.
* عضو هيئة التّدريس في كليّة الاقتصاد والعلوم السّياسيّة جامعة بنغــازي/ ليبيا.
* شارك في عددٍ من المُؤتمرات والمُلتقيات العلميَّة والثقافيَّة والأدبيَّة في عددٍ من الدُّول العربيَّة.

* ختامًا: تحيّاتي للكاتب وتمنّياتي له
بالمزيد من الألق والإبداع.

#سفيربرس ـ بقلم :  ميَّادة مهنَّا سليمان

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *