إعلان
إعلان

عال هذا السرج بساطة المفردة وتأجج الفكرة للشاعرة سعاد محمد

#سفيربرس _ ألوان ابراهيم عبد الهادي

إعلان

الشعر هذا الوحي ينسكب لارواء الروح كما الغيث لارواء الأرض العطشى. وأسمى الغيث أوله يتعطر به التراب وينتشر عبيره عند انهماره وكذلك أول الشعر انهمار تتلقفه الروح بلهفة التوق للاغتسال بدفق شذاه وعال هذا السرج هو أول هذا الانهمار الذي يتدفق سيول غمار من العطور الملونة والمختلفة الأزهار. لتجد فيه قصيدة عالية تتملكك وتدب بسلاسة مياه النبع الرقراقة في عروق الأرض دبيبها في شرايين الجسد . ليرسم عال هذا السرج مسراه كماء النهر مجراه بطلاقة وعفوية تفرضها على تضاريس الأرض كما تضاريس الروح هذه العفوية التي تطرق اعتلاجات الروح دون استئذان فتنساب معها بعفويتها التي تنتشلك من واقعك إلى عالمها الضاج بالأفراح والأحزان بالآلام والابتسامات التي تختلسها من انسرابات الضوء بين الأوراق وانعكاسات الشمس وهي تراقص الظلال تفيء وتقيل بظلها وتستيقظ على زقزقتها فلا تتركك. وتناغمها.. وتناغمك كما تناغم الحساسين حفيف الشجر وتوقظ الصباح أن ينطلق في رياضة النهار.. تروض روحك بين ثلاثة وأربعين قصيدة، تميزت ببساطة المفردة وتأجج الفكرة. متوسطة الطول وقصيرة في مجموعة اصدار الهئية السورية للكتاب ضمن سلسلة ابدعات شابة استقطبت آلام الواقع ومآسيه في حرب جامحة نالت من بلدنا وأخذت منها مأخذها إلا أن الأرواح النقية والشابة التي روت ترابها الغالي استعادت إليها الروح واستأنفت الحب إلى الحياة. هذا القلم الشاعر البليغ في هذا الوصف أول قصيدة تستفتح بها الديوان بعطور هذه الدماء النقية “حياة صورة” وهي تتسربل فيها صور لسيرة حياة شهيد يتسلق جدار الشهادة لاعلاء علم بلده مرفرفا في السماء وليحيط نشيدها بعقود الياسمين مرويا ترابها بدمه كي نعيش.. صور رشيقة جزلة ألبستها رمزية شفيفة لتبدو واضحة السريان والقبض على الفكرة التي تريد ايصالها للنفس المعذبة والتي طالتها يد الحرب حتى أضحى الموت فيها حياة تقول:”
نزل كولادة على عشب العتب
ركض ليشتنشق يدين من ملح
كانتا من ريحان وملبّس
وأخريين صارتا مئذنة
بعد أن بترهما الحزن
وتتابع بقولها:” ساقته فراشات الندى إلى وثير الأماني /ومضاجع الأمس/ كانت حنفية دمه تنقط حياة/ … حتى (بروتوس) احتل فراشه!/ ابتلع عمره المهزوم وابتعد !/ قريبا من إلفة السياج/ كانت امرأة تبيع آخر هداياها / لتمرغ جبروت الحرب في الخيبة !.” لتختمها:” ثم … / غسل قدمي النشيد بالياسمين / ليبقى جبين العلم معصوبا بالغيم / واعتلى الحائط برشاقة موت …/ “.
هذه البساطة في المفردات و المعاني القابضة على الفكرة المسيطرة على الصورة لتسير بها بلهفة الأم للقاء ابنها القادم من حرب أخذته بكلتا يديها الى حضنها المؤلم. قصيدة غنية بالمفردات التي تميزت بها الشاعرة بوضوحها وبساطتها وعظمتها في الارتقاء بالفكرة الحاضرة في قصائد الصمود والوطن هذه القسوة التي تعترك النفس بالتعب تظهرها قصيدة غروب مفردة “النصف كم” _ وفي ” تأن ياقلب” ” عربش على سطح القصيدة” وفي ” سرير الموج” ” جيوب القصيدة _ أكتاف القصيدة “. وصورها البديعية الغزيرة مستعيرة فيها احدى صفات الانسان لتشير بها الى قصة ما على لسان الأشياء مثل ( سهى التاريخ _ شهق الموج _ عين الخريف _ لعاب القلم_ أكواع صيف_ حلق الطريق). وفي قصيدة” محض دواء ” لتقول:” أسوة بالهاربين مع الموج/ بأصدقاء الموج / قلت أنزل صخرة الأسرار عن قلبي/ وأحررَّ الحكايات في عصمة الصعود/ فيتنكر ليَ الليل ! / لم ترصد الحرب مكاني بعد / لتسبقني وترتشف / ماتبقى من كأس العمر / .
تقفز بين مقاطع قصائدها كالغزال وأحيانا كأرنب ناصع البياض ليقضم غض العشب ويهدأ مرتاح. أما واليمامة التي حملتها بصورها الرشيقة مهمة التحقيق وهي تقف على منور البيت تريد أن تسحب الأمهات من تساؤلات القتل في حرب ملعونة بمفردات متداولة لينة حاكتها لتكون أكثر قرباً من آلام الأمهات هي واليمامة التي أعطتها دور المحقق لتقول :” تريدنا أن نقرَّ : / أينا القاتل؟!/ وككل النساء المنكوبات/ اللواتي يقورّنَ اللحظة / ويحشينها بالأمل / ليمسك الرضا بلجام العمر / وتختم محض دواء بهذه الصورة المؤثرة:” أقف على طلل القلب / أبحث عن أحفورة / تبقيني على وطن /.” اما في قصيدة” آدم” تريد لاسطورة الخلق بين آدم وحواء أن تسخرها في عصف حرب عاتية وجائرة فيها سياط الظلم لا ترحم خفق القلب العاشق الولهان وصور الغواية لهذا النصف المكمل للحياة .. بدلالة الأنثى وشجرة التفاح التي أغوته بها. وتظهر هذه الرمزية الناعمة والمنسابةكدفق الماء في قصيدة “سرير الموج ” حيث يعلو جمر الشوق بكمه الطويل متسائلة كم ميل تبقى منه والليل في رعشته الأخيرة يلم ذيله وتبقى عندها القصيدة هي المتبقية والمليئة والتي بين يديها قائلة:” والقصيدة _ هي السرير الوحيد المتاح _ فافرد قلمك واحتضني _ ناضج أنت بما يكفي لتعتصر عمري_ بيتاً بيتاً .. _ وعنبة عنبة !._ أسرعْ _ قبل أن تمتلئ جيوب القصيدة _ بالزبيبْ!._ ” قد قامت القصيدة بحل ماعلق بينهما من أمور شائكة. فقد تستوقفك بنبضها ودفقها الممتلئ فتمتلئ من هذيانها وتطرب مستسلما لنفحاتها الآسرة للقلب والعقل معا فتجد في قصيدة ” الفكرة ” مطلعها :” إله زاه يفطم ملائكة سلام _ صلاة تعمل داية للأماني _ في أوقات الفراغ _ الى _ وهي .. _ صيف عار يراود راهبة_ ليل يترنح بين الكروم _ قمره في إجازة … الى أن تختمها : هي الفكرة _ تقدَّسَ سِرُّها !.”. هذا الوصف المتفرد والجميل الذي عزفت به على أوتار الفكرة فكانت موسيقار بألحان عذبة لصورها الحاضرة الوثابة مثل( إله زاه _ ونجمة تعثرت _ ضحكة فضفاضة_ قفص تاب_ صيف عار _ ليل يترنح _ تملق يراقص الحقيقة_ حجر لئيم يغص به حلق الطريق_ تنهيدة حارة) كل هذه الصور لحالات تعتري الفكرة التي تجذبك في تقديس سرها الدفين بصورها المهللة المشرقة. في حين ترى في ” كوكب طرطوس ” فجائعية الحياة وتهالكها قصيدة مؤلمة رصدت واقع كوكبنا السوري في كوكب طرطوس الواقع الذي تعيش فيه الشاعرة لتسكب ألمها لما يحدث في عالمنا الذي ابتعد كثيرا عن حياة  الحب والاطمئنان والرضا والأمان أصبح رهينا للمهالك والمصائب بصورها الرقيقة توضح فيها معاني الحياة بقولها:” في كوكب طرطوس .. _ أنت مشروع شهيد_ وأنتِ أمَّا ثكلى …أو أرملةٌ … أو عانسٌ … فقط لأنكم من حزب السنديان ! “. تختمها بقولها:” سلام على الريش _ الذي نتفه الغدر من أجنحة نوارس القلب _ لن يعجز البحر عن الطيران_ مادام للغد قدمان”.
كل قصيدة في عال هذا السرج كون يضج بأحداث أرادت الشاعرة أن تقدمها للقارئ بصورها وأفكارها الناضجة لترتقي بالقارئ إلى عالمها المليء بالحب والحياة وتطرح قناديل تضيء ما لبس وغمض من تعتيم لها. فتقول في قصيدة ” كيف” :” كيف أمرِّن الرجولة على أنَّ _ الحرَّة لا تستدرج إلى الحب _ بل يؤتى بها على هودج الصلاة _ وأن شهرزاد فكرة _ الى كيف أخبر الشارع الرماديَّ _ بأنّ النشاز _ قد يكون وتر التفرد _ الذي تعشقه العين الثالثة وحدها_”. تحاول الشاعرة بهذه التساؤلات أن تضع الامور في نصابها الصحيح وأن تمسك بيد من أضاع الطريق والتبس عليه الصواب. وفي قصيدة ” جلالة دمشق” تصف مجيئها إليها وهي متخمة بكلمات العز وبأسماء عشاقها الذين قدموا دمهم فداء لها. :” جئت من أرض تربي لك الأيام… _ من أرض _ أطفالها يتداوون بالأغاني الوطنية _ ومنقوع الزعتر البري _ وينثرون أمانيَهم على أسطحة المدارس _ زوادة للطائرات _ زرازير الله_ في دروبها لنصرة الحياة”. هذه القصيدة التي توقظ الحب من فينيقية نثرتها على خد دمشق قبلة تستذكرها بها وبما يقدمه أهلها من عوائل الشهداء لتبقى مقود الحياة والكرامة.
وأغلب القصائد إن لم تكن جميعها تلمس فيها صرخة الشاعرة سعاد محمد في وجه هذه الحرب الملعونة على سوريا في صورها ومفرداتها الغنية والمؤلمة التي تبرز فيها العاطفة الجياشة بمدى اللوعة لما يجري . رصاص الحرب يتسلسل جموح القصائد فتجده في الغدر والغصة مثل قولها:” الغصة من ذوي القربى رصاصة ثانية” _ ولتكن نافذتي اليسرى التي أعماها الرصاص_ كلما ترنحت بجوارها رصاصة _ خافت أن تفقد عذرية الحب _ يمشي على قلبها صهيل الرصاص”. وفي قولها في قصيدة “غربة” :” وأدرك أن امرأة تكتب عن الحب في زمن الحرب _ كمن تلبس فستانا أحمر وخلخالا على رصيف جائع؟.”. وفي قصيدة ” الخارج من الحكاية” تقول:” ابتسمت شامة صيف مخمور _ على خدِّ ألف سنة من اللهفة”. أما قصيدة “قلوب الأرض” تفتح بابها بقولها:” هذه الأقحوانة، _ يا الله، كم تشبه ضحكة محمود ..!_ ونتابع فيها قولها بآهات محزنة :” آه يابلد … كل شبر بولد ..! هذه القصيدة الناقمة على الحرب الوحشية تقول أيضا: ” تلك الهندباء التي تقضمها الشمس _ مواويل يوسف_ يستضيء بها رفاقه _ في حلكة الرصاص …_ سقطت أوجاعهم هنا وأطعمتنا”. وفي قصيدة أوراق يانصيب تقول :” فيتملح الجرح وتهنأ الرصاصة_ أوه يا وطني من أنت .. من أنت ؟.”. هذه الجروح البليغة مدعاة للتساؤل ما الذي يجري فيك ياوطني الجريح. وفي قصيدة “شادي وأنا”. تعيد صياغة أغنية فيروز العظيمة “أنا وشادي” مستنجدة بخيوط حكاية شادي الحب والأرض والقصص الجميلة وتستجير به أن يعود قائلة:” عد ياشادي … عد من معتقل الحكاية ! _ العصافير بعدك هجرت مقاهيَ الصبح_ وتماثيل الثلج أخذت للحرب _ وسيقت الفراشات سبايا !.. _ وتختمها _ عد ياشادي _ بعدك الأغنية أوصدت بوابتها خوفا من الجوع _ لارجلَ غيرَك يسدُّ رمق المعنى! “.. هذه الشفافية في هذا الاسقاط المدهش على تلاوين الحياة التي خربتها الحرب بهمجيتها والحزن والحنين الى صور الوطن الجميلة التي سلبت منا وفي “قصيدة عالٍ هذا السرج ” وهي عنوان الديوان تقول في نهايتها:” عال هذا السرج _ لاخمارةٌ في الطريق _ ولانبع على شفاه تائب .._ وعينٌ تنقّب عما يشبه وجهَكَ _ ألا فانبلج وتسلق غيمي _ فائق الجلنار هذا المقام_ ومقعد هذا السرج إن لم توافِني! “. فأنت ياوطني مقامك مزهر . ولا فائدة من السرج الحسن والمزين مالم ينفطر على صبح مشرق محملا بالخضرة والخير .. بوطن مضفور بالجمال والحب والخير. وللشاعرة أيضا ديوان الغريب وفي حديقتها عناوين اخرى جاهزة

# سفيربرس _ بقلم  : ألوان ابراهيم عبد الهادي

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جميلة هذه الإضاءة على ديوان الشاعرة سعاد محمد عال هذا السرج كأنني أمام مشهد شاعرة زرعت بقصائدها حقل ورود لتأتي أخرى بسقايته
    دام نبض كلماتكن يضخ متعة القراءة في شرايين القراء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *