إعلان
إعلان

المُشاهد العربي ضحية التشويق بغرض التسويق._ بقلم  : د. جمانة خزام 

#سفيربرس

إعلان

وليمةٌ دراميةٌ دسمةٌ أقامتها وسائل الإعلام ودُعينا إليها نحن المُشاهدون خلال شهر رمضان المبارك من هذا العام، وما كان منا إلا أن لبينا الدعوة بكل حب وأمل. عندما دخلنا رحنا نتجول بين القدور اللماعة الممتلئة المغطاة بإحكام ليبقى محتواها ساخناً مشوقاً مثيراً للفضول، والموضوعة على بوفيه مفتوح معد خصيصاً لملء العقول الجائعة. أمسك كل منا بطبقٍ وراح يرفع الغطاء عن كل قِدر آملاً أن يملأ طبقه ووقت فراغه بما يغذيه فكرياً ومعرفياً واجتماعياً ووجدانياً، وخلال وقت وجيز انتهينا من هذه المهمة، وجلسنا نمضغ مختاراتنا على مهلٍ طوال ثلاثين يوماً.
كانت الأطباق هذا العام متكدسة بكل أشكال العنف التي طهاها لنا طباخو الدراما على هيئة مشاهد قتل وحرق وسلب ونهب وظلم وتدمير لممتلكات الغير وإذلال وتنمر لفظي وجسدي، ومكائد ومؤامرات هدفها إما تشويه صورة شخص ما مجتمعياً، أو إلحاق الضرر به على الصعيد المهني، هذا عدا المحتوى الزاخر بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، والذي طال الرجل والمرأة على حدٍ سواء، وذلك من خلال عرض مشاهد تكرس التنمر على الرجل الذي يحترم زوجته، أو الذي لا يجبر أولاده الراشدين على الانصياع لأوامره، أو يرفض المشاركة في الشجارات والأعمال التخريبية، وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة تم تكريس العنف ضدها من خلال عرض مكثف لمشاهد تحتوي على العنف اللفظي والجسدي، بالإضافة إلى الطلاق التعسفي، والتأكيد على ضرورة الانصياع لأوامر الرجل الذي يعتبر الآمر الناهي في الأسرة، هذا عدا جرائم الشرف التي شغلت مساحة واسعة من تلك الوليمة الدرامية.
يبرر طباخو الدراما تلك المغالاة في عرض مشاهد العنف، الذي يصل إلى حد الترويع في بعض الأحيان، بأن هذا النوع من المَشاهد يشكل عامل تشويق وإثارة للمُشاهد، ويستقطب عدداً أكبر من المُشاهدين، ويحقق قدراً أعلى من الأرباح لشركات الإنتاج نتيجة تهافت المحطات التلفزيونية والمنصات الالكترونية على شراء العمل الدرامي لعرضه بغرض زيادة أرباحها هي الأخرى.
منذ ظهور التلفزيون في ستينيات القرن الماضي كان هناك تخوف لدى علماء النفس من تأثير المحتوى المعروض عبره على المُشاهد، فالتلفزيون يقدم نماذج من السلوك قد يتعلمها الإنسان عن طريق النمذجة، التي تحدث عنها (باندورا) Bandura في نظريته “التعلم الاجتماعي” واعتبرها إحدى أهم استراتيجيات التعلم، فالتعلم برأيه يحدث عن طريق الملاحظة والتقليد.
استند (باندورا) في بناء نظريته على مجموعة من التجارب كان أولها تجربة “الدمية بوبو” Bobo Doll عام 1961، والتي اتخذ خلالها عينة مكونة من (72) طفلاً (36 ذكور، 36 إناث) تراوحت أعمارهم بين 3-7 سنوات، تم تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات (مجموعة ضابطة ومجموعتين تجريبيتين) تتكون كل مجموعة من (24) طفلاً (12 ذكور، 12 إناث). شاهد كل طفل في المجموعة التجريبية الأولى شخصاً بالغاً يتعامل بلطف ويتحدث بهدوء مع الدمية “بوبو”، بينما شاهد الأطفال في المجموعة التجريبية الثانية شخصاً بالغاً يتعامل بعدوانية معها حيث لكمها على أنفها وضرب رأسها وركلها وقذفها في الهواء وتحدث معها بألفاظ قاسية. قام الأطفال بمراقبة البالغين لمدة (10) دقائق، بعدها تم نقل كل طفل إلى غرفة فيها مجموعة من الألعاب من ضمنها الدمية “بوبو” وتُرك يلعب لمدة (20) دقيقة. أظهرت نتائج التجربة أن أطفال المجموعة التجريبية الأولى عندما تركوا وحدهم مع الدمية قاموا باللعب معها بلطف والتودد لها، بينما قام أطفال المجموعة التجريبية الثانية بضرب الدمية وشتمها واستخدام كل أشكال العنف ضدها.
وعلى غرار نتائج تجارب (باندورا) أشارت بعض الدراسات إلى أن مشاهدة العنف عبر وسائل الإعلام تؤدي إلى زيادة نسب العدوانية والتمرد والسلوك غير الأخلاقي، ففي دراسة استغرقت (22) عاماً نشرتها (منظمة الائتلاف الدولي ضد العنف التلفزيوني) تبيّن وجود علاقة مباشرة بين مشاهدة أفلام العنف في ستينيات القرن العشرين وارتفاع نسبة الجريمة في السبعينيات والثمانينيات منه، مما يوضح لنا الأثر التراكمي للتلفزيون الذي يمتد حتى عشرين سنة لتظهر نتائجه، وقالت المنظمة أن ما يتراوح بين 25 – 50% من أعمال العنف في سائر أنحاء العالم سببها مشاهدة العنف في التلفزيون والسينما.
وعلى الرغم من وجود دراسات تجريبية تشير إلى عدم وجود علاقة بين العنف المتلفز وممارسة السلوك العنيف على أرض الواقع، إلا أن هذه الدراسات في معظمها اعتمدت في تجاربها على تقديم مشاهد عنف نال خلالها الجاني عقاباً على ما ارتكبه من أفعال عنيفة، وبهذا فهي في جوهرها لا تتعارض مع ما قدمه (باندورا) في نظريته، فقد أشار إلى أن ملاحظة عواقب السلوك (الثواب أو العقاب) تؤثر في إقدام المُلاحظ على تنفيذ السلوك أو إحجامه عنه، وهنا تكمن الخطورة فيما نتحدث عنه، فقد تكرر في الوليمة الدرامية الرمضانية هذا العام عرض مشاهد الهجوم على عناصر الشرطة، والنجاح في الإفلات من العقاب، وعدم قدرة عناصر الشرطة على تطبيق القانون دون مشورة زعماء الحي، بالإضافة إلى تقاضيهم للرشاوى مقابل عدم معاقبة المجرم، مما قد يؤدي إلى تعزيز السلوك العنيف لدى المُلاحظ (المُشاهد).
في تصريح للدكتور (غسان المنصور) أستاذ علم النفس المعرفي في جامعة دمشق لسفير برس قال: “إن العرض المتكرر لمشاهد العنف في وسائل الإعلام يغير ويبدل في البنية المعرفية، فالعدوان عبارة عن فكرة معرفية تحتاج إلى حافز لتتحول إلى سلوك، ووسائل الإعلام تحاكي الدماغ وتجعله يعيش الحالة وتعطيه الحافز للتنفيذ مما يؤدي إلى ظهور السلوك العنيف. إنَّ التعلم بالمحاكاة والتقليد من أهم أنواع التعلم، وهناك نظريات كثيرة تثبت ذلك” وتابع قائلاً: ” أما بالنسبة للأطفال فالحديث يطول، إذ يكفي أن يشاهد الطفل مشهد قتل شخص ما بأي سلاح ليولد داخله شعور بالخوف والرعب على والديه وأخوته من العالم الخارجي، أي يكفي مشهد عنف واحد في التلفزيون ليصبح لدى الطفل خوف اجتماعي من الناس خارج بيئته الأسرية الأساسية، ومع مرور الوقت ستصبح مشاعره هشة تجاه أهله وقاسية تجاه الآخرين، ويتحول إلى كائن مزدوج المشاعر منقسم بين الطيبة واللؤم وبين الهدوء والعدائية الشديدة وممارسة التنمر على من حوله.”
إن تكرار مشاهدة سلوك العنف المصوّر يؤدي إلى تقبل الناس عموماً والأطفال على وجه الخصوص لهذا السلوك، فيصبحون أقل حساسية تجاه آلام الآخرين ومعاناتهم، وأكثر استعداداً للقيام بتصرفات مؤذية لهم جسدياً ونفسياً، أو ربما يؤدي إلى شعور المُشاهد بالتهديد وعدم الأمان فيخاف من المجتمع المحيط به وينطوي على نفسه.
مما لا شك فيه أن خصائص الشخص المُلاحظ (المُشاهد) تلعب دوراً في تحديد حجم الأثر الذي سيُحدثه المحتوى المعروض فيه، فمثلاً، كلما ارتفع المستوى الاجتماعي والتعليمي وحاصل الذكاء ومقدار الوعي والميل إلى الاستقلالية والتفرد لدى المُشاهد تناقص حجم الأثر، وكلما صغُر سن المُشاهد ارتفع حجم الأثر. من جانب آخر تلعب خصائص النموذج دوراً في حجم الأثر، فكلما كان النموذج شخصاً مؤثراً كلما ازداد حجم الأثر، وهذا ما يدفع الشركات التجارية العالمية إلى استخدام نجوم الفن والرياضة في إعلاناتها، إذ تزداد احتمالات شراء منتج معين من قبل الناس إذا شاهدوا شخصاً مؤثراً يستخدمه مثلما تزداد احتمالات القيام بسلوك معين من مثل سلوك العنف كنوع من التقليد والمحاكاة لشخص مؤثر قام بهذا السلوك.
أخيراً، لابد من التنويه إلى الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة، التي تعد إحدى أهم المؤسسات التربوية، في الحد من آثار العنف المصوّر على الأطفال في عصر أصبحت فيه وسائل الإعلام، بما فيها الانترنت، تساهم بشكل كبير في عملية التربية (التنشئة الاجتماعية)، إذ لابد للأسرة من أن تمارس دورها في مراقبة المحتوى الذي يشاهده الطفل، والتقليل قدر الإمكان من مشاهدة العنف، وإن حدث ذلك لابد من توضيح عواقب السلوك العنيف على الفرد والمجتمع، وإخبار الطفل أنه سلوك غير مرغوب، وأن هناك بدائل متعددة للتعامل مع المواقف المختلفة دون اللجوء إلى العنف.

#سفيربرس _ بقلم  : د. جمانة خزام 

 

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *